القوة الإنتاجية لاقتصاد الصين تخوّل عملتها القدرة على مزاحمة الدولار الأميركي.
هل قوة الدولار المستمدة من الناتج والإنتاج والعسكرة الأميركية أمتن من أن يهزها الروبل النفطي أو اليوان التجاري؟
هل تؤسس محاولات دول كثيرة تتأذى من الدولار وعقوباته مقومات موضوعية لولادة نظام مالي عالمي ومدفوعات دولية جديد فنشهد بداية نهاية هيمنة الدولار؟
هل يمكن أن تغيب شمس الدولار وهيمنته على 83% من التجارة الدولية وحصر تسعير النفط واعتماده عملةَ احتياطيات بالمصارف المركزية وربط سعر العملات به؟!
الصين هي مهندس معظم محاولات إبعاد الدولار عن الهيمنة وتحييده عن التعاملات التجارية لكن لن تقدم على نسفه بقدر ما تسعى لإحلال اليوان بجانب الدولار كخطوة أولى قبل اعتماد اليوان بمعظم التبادلات التجارية.
* * *
بقلم: عدنان عبدالرازق
عاد بكثرة التساؤل، بعد تملّص الروبل الروسي من العقوبات واستعادة قيمته التي كان عليها قبل الحرب على أوكرانيا، عبر إجراءات عدة، أهمها بيع حوامل الطاقة بالعملة الروسية أو اليوان الصيني.
والسؤال، هل يمكن لشمس الدولار أن تغيب، وينتهي العالم من هيمنة العملة الأميركية التي تسيطر على أكثر من 83% من حجم التجارة الدولية، وحصر تسعير النفط بالدولار واعتماده عملةَ احتياطيات بالمصارف المركزية حول العالم أو ربط معظم سعر العملات به؟!
والتساؤل هذا ليس وليد تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، بل متجدد يجرى طرحه كلما حانت الفرصة لهزّ الولايات المتحدة التي لا تتوانى بالتمادي بهيمنتها على مصائر الاقتصاد العالمي عبر الدولار، كما أسطولها الحربي وهوليوود، متكئة على نحو 580 مليار دولار يجرى تداولها خارج حدودها وأكثر من 60% من الاحتياطات بالمصارف المركزية العالمية بالدولار وأكثر من 40% من ديون العالم مقيمة به.
وتترافق إعادة طرح التساؤل بشبه استنتاج مفاده أنّ أهم أسباب تدخل الولايات المتحدة، وإن عن بعد وبشكل غير مباشر، في الحرب الروسية الأوكرانية، هي إغراق روسيا والاتحاد الأوروبي بحرب ليست لها ملامح نهاية، لتبعد مخاطر سعي أصحاب اليورو والروبل عن حصون الدولار، بعد محاولات دولية تعددت، إن بشكل ثنائي عبر التبادل بالعملات المحلية، أو جماعية كما رأينا بمنظمة شنغهاي قبل عامين، وقبلها منظمة بريكس، لكسر سطوة الدولار، تجلّت في روسيا بعد عقوبات عام 2014 وضم شبه جزيرة القرم، وتتالت عام 2018 عبر اتفاقات ثنائية؛ روسية تركية وإيرانية وصينية، ولن تتوقف المحاولات، بمواجهة العقوبات على روسيا اليوم، لشق طرق التجارة العالمية بغير العملة الأميركية، لتتفرغ واشنطن، في ما بعد المستنقع الأوكراني، للعدو الأول والخطر الأكبر القادم من بكين؛ لأن مخاطر اليوان، عملة ثاني أكبر اقتصاد عالمي على الدولار، أكثر من أن تحصى أو تعلم.
فالصين هي المهندس في معظم محاولات إبعاد الدولار عن الهيمنة وتحييده عن التعاملات التجارية، من منظمة شنغهاي 2020، وقبلها مجموعة بريكس منذ قمتها الأولى عام 2009، مروراً بالتبادل التجاري باليوان، وصولاً إلى شراء الطاقة من روسيا اليوم بالعملتين الصينية والروسية.
ورغم ما يقال عن مخاطر انفجار الدولار على الصين، صاحبة التبادل التجاري مع الولايات المتحدة بنحو 590 مليار دولار، وأكبر مشتر لسندات الخزينة الأميركية بنحو 1.1 تريليون دولار وصاحبة الاحتياطي الهائل بنحو 3.21 تريليونات دولار، يمثل الدولار الحصة الأكبر منها.
إلا أنّ بكين، وبكين وحدها، من تمتلك ما يسمى “النووي النقدي”، فمجرد طلب بيع سندات الخزينة، في بلد توصف مديونيته بالأكبر عبر التاريخ، سيدخل الدولار، على أقل تقدير، بدوامة تقلّب السعر ويتخلى عن ميزة العملة الأكثر استقراراً في العالم.
لكن الصين، وعلى الأرجح، لا ولن تقدم على النسف أو التفجير، بقدر ما تسعى، ومنذ سنوات، لإحلال اليوان إلى جانب الدولار، كخطوة أولى على الأقل، قبل اعتماد العملة الصينية في معظم التبادلات التجارية، مقتنعة بالتكريس التدريجي وجوائز الترضية، كما حصل عام 2015 وقت جرى اعتماد عملتها من صندوق النقد ضمن وحدة السحب الخاصة التي تسعى إليها المصارف المركزية ضمن احتياطياتها.
قد يكون من الضروري، في قصارى القول، التطرق سريعاً لمسيرة الدولار وكيف تربّع وانفرد بالبنية المالية العالمية، وإن فسح بعض المجال، لاحقاً، للين واليورو والجنيه، وأخيراً لليوان.
صُك الدولار في البداية، كما العملات الإسلامية، فظهر عام 1792في ثلاث فئات، ذهبية وفضية ونحاسية، ولم يكن من دولار ورقي حتى الحرب بين شطري الولايات المتحدة الشمالي والجنوبي عام 1861، وقتها وتحت تأثير المخاوف على المعادن الثمينة، أصدرت الولايات المتحدة الدولار الورقي الحالي عام 1862.
ولم يكن ضمن أبجدية العملات التغطية بالذهب، فطبعت الولايات المتحدة نحو 461 مليون دولار، ملزمة، من خلال الكونغرس، بالتعامل بالدولار الورقي وتجريم من يرفض، إلى أن حلّ عام 1879 ما يسمى التضخم الهائل، وبدء خسارة الدولار من قيمته، فلجأت واشنطن لتغطية الدولار بالذهب وعززت الثقة بعملتها عبر تبديل كل من يريد الدولار بالذهب.
لكن ما يسمى “الكساد العظيم” عام 1929، كان البداية للمحطة الأهم بمسيرة الدولار، وقت ألغى الرئيس فرانكلين روزفلت، إثر نتائج الكساد، تغطية الدولار بالذهب، ليعود للتغطية بعد تجربة لم تستمر سوى عام 1933.
حتى جاءت اتفاقية بريتون وودز عام 1944، لتفرض الدولة المنتصرة في الحرب العالمية الثانية وصاحبة 75% من الذهب العالمي، رؤيتها على النظام الاقتصادي العالمي الذي أخذت فيه واشنطن موقع قمة الهرم، ووضعت عملتها مرجعاً رئيساً لتحديد سعر العملات العالمية، وليستمر وضع استقواء الدولار المغطى بالذهب، حتى اضطرت واشنطن، مطلع سبعينيات القرن الماضي، إلى تغطية تكاليف حربها على فيتنام، فطبعت الدولار بغير حساب، ما جعل ذهب العالم كله، وليس ذهب الولايات المتحدة فقط، عاجزاً عن تغطية السيولة الهائلة التي انتشرت في الولايات المتحدة وخارجها، فكان الرئيس شارل ديغول أول من حرّك الجمر عبر طلب تحويل الدولار بالبنك المركزي الفرنسي إلى ذهب، عملاً باتفاقية بريتون وودز، فكان رد الرئيس ريتشارد نيكسون بأنّ بلاده ألغت التزامها بتبديل الدولار بذهب، وعرفت وقتذاك بصدمة نيكسون.
وبقي الدولار، كما جميع العملات، أوراقاً لا قيمة لها، سوى مع التزام الحكومات وما يوازيها، أو يعزز الثقة بها، من إنتاج وخدمات، لتستبدل واشنطن تغطية عملتها بالقوة العسكرية قبل الإنتاجية، بدل الذهب، ويسود “الأخضر” حتى اليوم.
نهاية القول وعودة للتساؤل: ترى، هل ما رأيناه عبر المحاولات الروسية والصينية والإيرانية، ودول كثيرة أخرى تتأذى من الدولار وسيف عقوباته، يمكن أن يؤسس مقومات موضوعية لولادة نظام مالي عالمي ومدفوعات دولية جديد، لا تكون فيه جمعية الاتصالات المالية “سويفت” إلزامية ولا الدولار العملة الأولى، فنشهد بداية نهاية هيمنة الدولار؟
أم أنّ قوة الدولار المستمدة من الناتج والإنتاج والعسكرة الأميركية أمتن من أن يهزها الروبل النفطي أو اليوان التجاري؟ وكل ما يجري، حتى عبر التكتلات المناوئة من بريكس وشنغهاي واتفاقات ثنائية، ما هو إلا مسامير صغيرة لا تؤرق النعش الأميركي، الذي يمكن، وبأحلك الظروف، أن يخترع بريتون جديدة بعد حروب تديرها واشنطن عن بعد، وتعيد هندسة القوى وتصنيف العملات، بحكمها المنتصر الوحيد؟
* عدنان عبد الرزاق كاتب صحفي اقتصادي
المصدر: العربي الجديد
موضوعات تهمك: