ثلاثة أدوار للنقود: وسيلة مقايضة؛ مخزن قيمة؛ ووحدة حساب.
بسبب التشرذم السياسي في أوروبا، ولا يعتبر اليورو ولا اليوان بديلاً مقبولا للدولار.
هل هيمنة الدولار على العالم معرضة للخطر؟ على الأغلب لا. والحقيقة هي أن هذا لا يهم حقاً.
حتى إذا تآكلت هيمنة الدولار، فلن يكون لهذا أهمية كبيرة. فماذا نعني عندما نتحدث عن هيمنة الدولار؟
هناك حلقات تغذية مرتدة ذاتية التعزيز (لهيمنة الدولار) يستخدم فيها الناس الدولارات لأن الآخرين يستخدمون الدولارات.
تلعب الصين دوراً كبيراً في التجارة العالمية، وهو ما قد يجعل المرء يعتقد أن الناس سيرغبون في امتلاك أصول كثيرة باليوان.
هل الدولار الأميركي على وشك أن يفقد دوره المهيمن في النظام المالي العالمي؟ ربما لا، فلم يفقد الدولار دوره المهمين في النظام المالي العالمي.
من أين تأتي هيمنة الدولار المستمرة، رغم أن الاقتصاد الأميركي لم يعد يتمتع بالمركز القيادي الذي احتله في العقدين التاليين للحرب العالمية الثانية؟
الاقتراض الرخيص بالدولار يحفز الشركات لتحد من مخاطرها عبر التسعير بالدولار مما يعزز مرة أخرى ميزة الدولار. فما الذي قد يزيح الدولار عن موقعه الخاص؟
* * *
بقلم: بول كروغمان
هل الدولار الأميركي على وشك أن يفقد دوره المهيمن الخاص في النظام المالي العالمي؟ لطالما طرح الناس هذا السؤال طوال مسيرتي المهنية. والواقع أنني نشرت أول ورقة بحثية لي حول هذا الموضوع عام 1980.
وتغير الكثير في العالم منذ أن كتبت تلك الورقة، لاسيما ظهور اليورو وصعود الصين. لكن تظل الإجابة كما هي: ربما لا، لم يفقد الدولار دوره المهمين في النظام المالي العالمي.
وبسبب التشرذم السياسي في أوروبا، ولا يعتبر اليورو ولا اليوان بديلاً مقبولا للدولار. وحتى إذا تآكلت هيمنة الدولار، فلن يكون لهذا أهمية كبيرة. فماذا نعني عندما نتحدث عن هيمنة الدولار؟
يحدد الاقتصاديون تقليدياً ثلاثة أدوار للنقود. فهي وسيلة مقايضة: فأنا أتقاضى راتبي بالدولار لإلقاء محاضرة واستخدام تلك الدولارات لشراء الطعام. والنقود مخزن قيمة: فأنا أضع الدولارات في حافظة نقودي وفي حسابي المصرفي. وهي أيضاً وحدة حساب: فالرواتب يتم تحديدها بالدولار.
والأسعار محددة بالدولار، ومدفوعات الرهن العقاري محددة بالدولار. وتلعب عملات كثيرة هذه الأدوار في الأعمال التجارية المحلية.
والدولار له وضع خاص لأنه يلعب دوراً غير متناسب في الأعمال التجارية الدولية. فهو وسيط التبادل بين العملات، فالشخص الذي يريد تحويل البوليفيانو البوليفي إلى الرينجت ماليزي يبيع عادة البوليفيانو ويحصل على الدولار، ثم يستخدم الدولارات لشراء الرينجت.
كما أن الدولار مخزن عالمي للقيمة، فهناك عدد كبير من الأشخاص حول العالم لديهم حسابات مصرفية بالدولار. كما أن الدولار وحدة حساب دولية، فكثير من السلع المصنوعة خارج الولايات المتحدة يجري تسعيرها بالدولار، وسندات دولية كثيرة تتعهد بالسداد بالدولار.
من أين تأتي هذه الهيمنة المستمرة، رغم أن الاقتصاد الأميركي لم يعد يتمتع بالمركز القيادي الذي احتله في العقدين التاليين للحرب العالمية الثانية؟
الجواب هو أن هناك حلقات تغذية مرتدة ذاتية التعزيز يستخدم فيها الناس الدولارات لأن الآخرين يستخدمون الدولارات. وفي ورقتي البحثية التي تعود لعام 1980، ركزت على حجم الأسواق وكثافتها.
فعدد الأشخاص الذين يرغبون في الحصول على الدولار مقابل البوليفيانو والرينجت أكثر من عدد الأشخاص الراغبين في الحصول على الرينجت مقابل البوليفيانو، ومن ثم، من الأسهل والأرخص إجراء تداولات البوليفيانو مقابل الرينجت بشكل غير مباشر، باستخدام الدولار كـ«وسيلة نقل» بدلاً من محاولة القيام بهذه المعاملات مباشرة.
لكن كل هذه المعاملات غير المباشرة تجعل أسواق الدولار أكبر، مما يعزز ميزة العملة. وصفت جيتا جوبيناث، النائب الأول للمدير العام لصندوق النقد الدولي، وجيريمي شتاين، أستاذ الاقتصاد في جامعة هارفرد، دورة تغذية مرتجعة أخرى تتعلق بالتسعير.
فلأن سلعاً كثيرة يجري تسعيرها بالدولار، تتمتع الأصول الدولارية بقوة شرائية يمكن التنبؤ بها نسبياً، وهذا يعزز الطلب على هذه الأصول، مما يجعل الاقتراض بالدولار أرخص إلى حد ما عن الاقتراض بالعملات الأخرى.
كما أن الاقتراض الرخيص بالدولار يمنح الشركات بدوره حافزاً لتحد من مخاطرها عن طريق التسعير بالدولار، مما يعزز مرة أخرى ميزة الدولار. فما الذي قد يزيح الدولار عن موقعه الخاص؟
منذ وقت ليس ببعيد، بدا اليورو كبديل معقول، فاقتصاد أوروبا ضخم، وكذلك أسواقها المالية. ونتيجة لذلك، يمتلك عدد من الأشخاص خارج أوروبا أصولاً باليورو، وعند البيع لأوروبا، يحددون الأسعار باليورو.
لكن الميزة الأميركية المتبقية هي حجم سوق السندات والسيولة، أي سهولة الشراء أو البيع التي يوفرها هذا السوق. وحتى أزمة الديون السيادية عام 2009، بدا أن أوروبا لديها سوق سندات كبير نسبياً، حيث بدت سندات اليورو التي تصدرها حكومات مختلفة قابلة للتبادل، وكلها كانت تدفع سعر الفائدة نفسه تقريباً.
لكن بعد ذلك تسببت المخاوف من التخلف عن السداد في تفاوت بين العائدات. هذا يعني أنه لم يعد هناك سوق لسندات اليورو، بل هناك سوق ألماني وسوق إيطالي وهكذا.
ولا يمكن مقارنة أي من هذه الأسواق من حيث الحجم بسوق الولايات المتحدة. ماذا عن الصين؟ إنها تلعب دوراً كبيراً في التجارة العالمية، وهو ما قد يجعل المرء يعتقد أن الناس سيرغبون في امتلاك أصول كثيرة باليوان.
كثيراً ما أقرأ التأكيدات القائلة بأن قدرة أميركا على فرض دولارات مطبوعة حديثاً على بقية العالم تتيح لها مواجهة عجز تجاري متصاعد.
صحيح أن الولايات المتحدة قادرة على الاقتراض بسعر أرخص قليلاً، وذلك بفضل الدور الخاص للدولار، ونحصل على قروض من دون فائدة تقريباً من جميع الأشخاص المحتفظين بعملة الدولار، وأغلبها من فئة 100 دولار، خارج البلاد.
لكن هذه مزايا تافهة لاقتصاد حجمه 24 تريليون دولار. فهل هيمنة الدولار على العالم معرضة للخطر؟ على الأغلب لا. والحقيقة هي أن هذا لا يهم حقاً.
* د. بول كروغمان أكاديمي أميركي حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد.
المصدر: نيويورك تايمز
موضوعات تهمك: