هل يغير مقتل خاشقجي مسار العلاقات الأمريكية السعودية؟
في الاستراتيجيات الأمريكية بعيدة المدى، فإن عدم الاستقرار الداخلي في المملكة العربية السعودية لا يخدم المصالح العليا للولايات المتحدة حتى لو تراجع الموقف الأمريكي إلى مستويات دنيا من المعايير الأخلاقية في اتخاذ إجراءات معينة ضد الرياض
بقلم: إحسان الفقيه
كرر الرئيس الأمريكي أكثر من مرة أن مقتل جمال خاشقجي لا يمكن أن يعرض المشتريات السعودية من الأسلحة الأمريكية للخطر؛ وتبلغ قيمتها أكثر من مائة مليار دولار، توفر أرباحا كبيرة للشركات العملاقة (المجمع الصناعي العسكري) وفرصا للعاطلين عن العمل، وكذلك منافع اقتصادية متنوعة.
ويعتقد دونالد ترامب أن هناك عقوبات أمريكية “هائلة وشديدة للغاية” وقعها بالفعل على الرياض، في إشارة منه إلى إدراج 17 شخصا سعوديا مسؤولا عن مقتل خاشقجي على لائحة العقوبات، وتجميد الأرصدة المالية من قبل وزارة المالية الأمريكية، في ذات الوقت الذي يؤكد فيه على “التمسك” بحليف “كان في الكثير من النواحي جيدا جدا” في مواجهة جماعة الحوثيين الحليفة لإيران في اليمن، وفي صد النفوذ الإيراني في المنطقة.
اختارت الإدارة الأمريكية إعادة صياغة سياساتها في المنطقة العربية على ثلاثية التصدي للنفوذ الإيراني ومكافحة الإرهاب، ومبادرة السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بما يشمل التنسيق مع الدول الحليفة بالمنطقة لضمان أمن إسرائيل.
في الاستراتيجيات الأمريكية بعيدة المدى، فإن عدم الاستقرار الداخلي في المملكة العربية السعودية لا يخدم المصالح العليا للولايات المتحدة حتى لو تراجع الموقف الأمريكي إلى مستويات دنيا من المعايير الأخلاقية في اتخاذ إجراءات معينة ضد السعودية، بما في ذلك الاستمرار في مبيعات الأسلحة الأمريكية، حيث تعتبر السوق السعودية سوقا ذات إيرادات عالية للاقتصاد الأمريكي في مجالات السلع الأساسية والسلع التكميلية والخدمات والاستثمارات واسعة النطاق.
كما أن السعودية تملك أوراقا مهمة في استقرار سوق النفط العالمي والحفاظ على معدلات العرض دون إحداث هزة لها تداعيات على اقتصاديات معظم دول العالم، بما فيها الولايات المتحدة التي تجد في السياسات النفطية السعودية جزءا أساسيا من هيمنتها على اقتصاديات العالم باختيار الدولار الأمريكي للتعاملات النفطية، وفرض هذا الاختيار على السوق العالمية.
وفي سياق الحرب الأمريكية على الإرهاب في أفغانستان والمنطقة، والتصدي للخطر الإيراني، فإن الولايات المتحدة ترى في السعودية جزءا مهما من تلك الاستراتيجيات الحيوية للمصالح الأمريكية التي تعتمد على موقع السعودية والتسهيلات التي تقدمها للولايات المتحدة في أجواء المملكة الهامة للوصول إلى الصومال والعراق وسوريا واليمن، بالانطلاق من قواعدها في الخليج.
ولا تزال تداعيات مقتل خاشقجي على السياسة الأمريكية في المنطقة عموما، تفتقر إلى اليقين والوضوح حتى داخل الإدارة الأمريكية؛ باجهزتها: وكالة الاستخبارات المركزية ووزارتي الخارجية والدفاع ومستشارية الأمن القومي، والبيت الأبيض والكونغرس بشقيه، مجلس النواب بأغلبيته الديموقراطية ومجلس الشيوخ بأغلبيته الجمهورية.
الاتجاه العام داخل الإدارة الأمريكية في إطار الدائرة المحيطة بالرئيس الأمريكي يركز على مقاربة إقرار عقوبات لا تمس العلاقات الثنائية الاستراتيجية بين البلدين.
وجه الرئيس الأمريكي مرات عدة انتقادات حادة للسعودية دون أن يتعرض بشكل مباشر إلى ولي العهد محمد بن سلمان، الرجل الأقوى في المملكة والذي تشير الكثير من المعطيات إلى مسؤوليته المباشرة عن مقتل خاشقجي.
إلا أن دونالد ترامب أبقى الباب مفتوحا أمام احتمالية أن ولي العهد لم يأمر المجموعة المكلفة بإحضار جمال خاشقجي إلى المملكة بالإقناع أو بالقوة، حسب الرواية السعودية، مع التأكيد دائما على أهمية المملكة الدولة الغنية بالنفط والتي ترتبط ببلاده بعلاقات تحالف وثيقة وشراكة في ملفات عدة ذات أهمية للأمن القومي الأمريكي ومصالح الولايات المتحدة الاقتصادية.
بعد الانتخابات النصفية، 7 نوفمبر/ تشرين الثاني، فاز الحزب الديموقراطي بأغلبية مجلس النواب بينما احتفظ الحزب الجمهوري، حزب الرئيس، بأغلبيته في مجلس الشيوخ.
الديموقراطيون في مجلسي الشيوخ والنواب يحاولون الضغط على الرئيس الأمريكي لفرض عقوبات على المملكة العربية السعودية، وعلى ولي العهد محمد بن سلمان، مع دعوات لمواجهة عواقب مقتل جمال خاشقجي بلغت إلى حد المطالبة بطرد السفير السعودي من واشنطن بعد أن اعترفت المملكة رسميا بمقتل خاشقجي داخل قنصليتها في إسطنبول في 2 أكتوبر/ تشرين الأول على يد فريق من خمسة عشر شخصا يرتبط بعضهم بشكل مباشر بالاستخبارات السعودية والحرس الملكي والدائرة المحيطة بولي العهد، مثل سعود القحطاني المستشار في الديوان الملكي بدرجة وزير.
وأبعد من ذلك، هناك دعوات لاستجابة جماعية من قبل الولايات المتحدة والدول الحليفة، بريطانيا وفرنسا وألمانيا وغيرها، لفرض عقوبات قوية على السعودية إذا أثبتت التحقيقات أن محمد بن سلمان يقف وراء مقتل خاشقجي، أو أي مسؤول سعودي آخر، مع رغبة في تبني دعوات تركية تطالب بفتح تحقيق دولي إذا استمرت السلطات السعودية بعدم التعاون مع الادعاء العام التركي.
بيد أن الانقسام في الكونغرس الأمريكي حول الحرب في اليمن ومقتل خاشقجي قد يرجح دعم مشرعين آخرين لتمرير مبيعات الأسلحة مستقبلا من رؤية لهم قريبة تماما من رؤية الرئيس الأمريكي تفيد بأن السعودية حليف استراتيجي في مواجهة التهديدات الإيرانية، وفي الحرب على الإرهاب، بجانب المنافع الاقتصادية الجمة لصفقات بيع الأسلحة الأمريكية.
غير أنه مما لا شك فيه، أن عملية قتل جمال خاشقجي في مبنى القنصلية السعودية بإسطنبول أحرجت أصدقاء المملكة في الولايات المتحدة، كما أنها أضرت كثيرا بسمعتها حول العالم ورسمت صورة مغايرة للمملكة التي يقودها الرجل الأقوى محمد بن سلمان.
ورغم تزايد الأدلة على مسؤولية ولي العهد السعودي والأصوات المعارضة له في الكونغرس بين الأعضاء الديموقراطيين وقلة من الأعضاء الجمهوريين؛ لا يزال الرئيس الأمريكي بعيدا عن اتخاذ أي خطوات تقود إلى فك الارتباط مع ابن سلمان والتخلي عن دعمه له مع مواصلة التشكيك بصحة الأدلة التي تثبت تورطه المباشر.
وتبقى المصالح الأمريكية الإستراتيجية المرتبطة بديمومة علاقتها مع السعودية تحظى بأولوية الإدارة الأمريكية على الرغم من محاولات أعضاء في الكونغرس، بينهم من الحزب الجمهوري، لإعادة تشكيل العلاقات الأمريكية السعودية بعد مقتل خاشقجي.
ستظل إذن السعودية الشريك الاستراتيجي الأهم والأكثر ثقة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط حتى بعد اعترافها بمقتل جمال خاشقجي ومسؤولية مقربين من ولي العهد عن الحادثة، وتبقى فقط اي حالة من عدم الاستقرار داخل السعودية أو العائلة المالكة، هي التي قد تدفع نحو تغيير موقف واشنطن من ابن سلمان، بعيدا عن المعايير الأخلاقية.
* إحسان الفقيه كاتبة أردنية
المصدر: وكالة الأناضول