هل صعود الصين مصلحة للعرب؟
هيمنت الولايات المتحدة على المجال السياسي العربي بعد الدور الذي لعبته في حرب تحرير الكويت عام 1991، وأصبحت واشنطن العاصمة الأجنبية الأهم لأغلب الدول العربية.
ويعتقد بعض المراقبين أن عصر الهيمنة الأميركية في المنطقة العربية في طريقه للتراجع أمام صعود صيني واضح تتزايد معه المصالح الصينية حول العالم، ولن يكون العالم العربي استثناء، خاصة مع ارتفاع نسبة البترول والغاز العربي من إجمالي واردات الطاقة الصينية.
وتاريخيا، لم تلعب الصين دورا مهما في سياسات الشرق الأوسط منذ التأسيس الحديث لها عام 1949، وتمحور دورها في تقديم دعم معنوي ورمزي فقط للحقوق الفلسطينية والعربية في صراع الشرق الأوسط.
وعلى الرغم من تراث الاستعمار الغربي للدول العربية بصفة عامة، ودور دول مثل بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة بصفة خاصة في إنشاء ورعاية إسرائيل، فإن العرب اختاروا التقرب من الغرب ونموذجه الاقتصادي والثقافي، ولكن هذا الواقع قد لا يصمد أمام ما تشهده الصين من تطورات متسارعة والتي ستصل تبعاتها للدول العربية.
ولم تحتاج الصين إلى بترول وغاز العرب إلا منذ عام 1993 عندما فاق استهلاكها من الطاقة حجم إنتاجها للمرة الأولى. ونجحت الصين خلال العقدين الأخيرين وسجلت معجزة بكل المقاييس المادية المتاحة من حيث النمو الاقتصادي، ومن حيث نقل ملايين البشر من الفقر المدقع لطبقات وسطى مستقرة، ونجحت في عمليات تطوير كبيرة وميكنة غير مسبوقة للريف الصيني. ساعد الصين في ذلك عدم تحملها أي تكلفة لحماية خطوط إمدادات الطاقة القادمة من الشرق الأوسط، فالولايات المتحدة تتكفل بهذه المهمة من خلال وجودها العسكري في منطقة الخليج.
وبلغ حجم التبادل التجاري بين الصين والدول العربية عام 2020 ما يزيد على 240 مليار دولار طبقا لبيانات رسمية مجمعة.
وبعيدا عن التجارة لا تقدم الصين للدول العربية أو غيرها مساعدات لا تُرد، فالنموذج الصيني يقدم القروض الاستثمارية لتنفيذ مشروعات ضخمة للبنية الأساسية في العديد من الدول العربية بنسب فائدة متوسطة وتسدد على مدار عدة سنوات في المستقبل، في حين بلغت فيه المساعدات الغربية والأميركية عدة مليارات سنويا لعدد من الدول العربية.
ولم تتورط الصين سياسيا بعد في المنطقة العربية، فقد نشطت ووازنت بكين بين علاقات معقدة وواسعة مع صناعة التكنولوجيا الإسرائيلية، وبين مصالحها في مصادر الطاقة العربية، ووازنت في علاقات ممتازة تجمعها بالغريمين، السعودية من جانب وإيران من جانب آخر.
وفي الوقت الذي فرضت فيه واشنطن عقوبات على مسؤولين صينيين -بسبب مسؤوليتهم بالانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان في إقليم شينغيانغ في غرب الصين، حيث وثقت تقارير مختلفة لانتهاكات واسعة يتعرض لها ما يقرب من 23 مليون مواطن صيني يدينون بالإسلام- اختارت الدول العربية دعم موقف الحكومة الصينية.
وتاريخيا، ركزت الصين بالأساس على التعامل مع النظم الحاكمة بصورة رسمية، ولم تستثمر في النخب الثقافية أو الأكاديمية أو الإعلامية أو السياسية أو الاقتصادية أو غيرهم من أعضاء المجتمع المدني. ولا يثق النموذج الصيني في المنظمات غير الحكومية بصفة عامة. ولأسباب داخلية بالأساس لم ترحب الصين بثورات الربيع العربي التي رفعت لواء الحرية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان. والصين بصفة عامة لا تكترث بالسياسات الداخلية للدول إلا في إطار ما قد يؤثر على علاقاتها الاقتصادية والتجارية. وكذلك لا ترغب الصين في تصدير نموذج سياسي للحكم لتفرضه على بقية دول العالم.
وفي الوقت الذي عبّرت فيه دوائر غربية مختلفة عن ترحيبها بأحداث الربيع العربي، تحفظت الصين واعتبرت ما يجرى بمثابة مشكلة أو أزمة تتعرض لها الدول العربية، من هنا لم تعتبر الصين سقوط نظام الرئيس حسني مبارك أو معمر القذافي أو علي عبد الله صالح أخبارا جيدة.
ومع بداية عام 2016، أدركت الصين أن عليها وضع خطوط عريضة لسياستها تجاه المنطقة العربية بما يضمن وضوح رؤى التحرك المستقبلي في علاقاتها مع العرب شعوبا وحكومات. وعكس إصدار ورقة بيضاء بعنوان “سياسة الصين تجاه الدول العربية” حِرصَ القيادة الصينية على رسم خطط مستقبلية للتعاون الصيني العربي القائم بالإساس على مبدأ المنفعة المتبادلة بعيدا عن أي تدخلات في الشؤون الداخلية أو السياسية. وتضمنت الوثيقة أسسا جديدة للعلاقات بين الجانبين في جميع الجوانب السياسية والأمنية والاقتصادية والتجارية والمالية والاجتماعية والثقافية والإعلامية والتعليمية والفكرية. وفي الوقت ذاته لا يملك العرب تصورا موحدا أو حتى تصورات مختلفة لعلاقتهم المستقبلية مع الصين.
وترسخ الصين من وجودها الجيوستراتيجي قرب الدول العربية. وقبل أقل من عام افتتحت بكين رسميا أول قاعدة عسكرية خارج حدودها في دولة جيبوتي ذات الموقع الإستراتيجي، حيث تشرف على المدخل الجنوبي للبحر الأحمر المؤدي إلى قناة السويس.
وتعتقد المدرسة السياسية الأميركية أن قدرات الصين العسكرية ما زالت محدودة كي تستطيع القيام بمهام حماية خطوط الملاحة الدولية، وأنه لا توجد دولة أخرى بجانب الولايات المتحدة تستطيع القيام بهذا الدور الحيوي. وربما يحدث تغير في المستقبل القريب في هذه الترتيبات خاصة بعدما أسست بكين لأول قاعدة عسكرية لها بالخارج في دولة جيبوتي عند مدخل البحر الأحمر.
ومن المبكر أن نقول إن الصين ستزيح النفوذ الغربي (الأوروبي والأميركي) من الدول العربية لتحل مكانهما في أي وقت قريب. وعلى الرغم من وجود أسس جديدة للقوة الناعمة الصينية، فإن تأثيرها يصبح محدودا للغاية لأسباب مختلفة من أهمها عدم ارتياح العرب شعوبا وحكومات للتعامل مع الصين بقدر ارتياحهم للتعامل مع الأوربيين والأميركيين. وربما يرجع ذلك لعوامل تتعلق باللغة وحواجزها، أو ربما يرجع لعدم احتكاك العرب أو اقترابهم من الثقافة ونمط الحياة الصينية. ولا يعرف العرب بعد عن المؤسسات التعليمية الرائدة في الصين، على عكس الحال مع الحالة الغربية، ولا يعرفون كذلك أسماء مشاهير الفن والثقافة الصينية، في حين يعرفون نظراءهم الغربيين. ومن هنا قد يستمر الميل العربي للغرب في المستقبل القريب، إلا أنه من سوء التقدير توقع استمرار هذا الاتجاه على المدى الطويل. نعم تتحدث النخب العربية اللغة الإنجليزية وربما الفرنسية بطلاقة، لكن مع ذلك أتطلع قريبا لاستثمار جاد في مدارس اللغة والثقافة الصينية. وهكذا يقف العرب انتظارا لنتائج تنافس بكين وواشنطن وقد ارتضوا أن يلعبوا دور المفعول به مرة أخرى دون التخطيط أو الاستعداد، ناهيك عن المشاركة في تشكيل ما هو قادم.
بقلم: الكاتب والمحلل السياسي محمد المنشاوي (متخصص بالشؤون الأمريكية)
المصدر: الجزيرة نت
موضوعات قد تهمك: