بقلم: إياد أبو شقرا
الى جانب احداث تركيا وانتخابات ايران, كان اللافت حقا خلال الأيام الأخيرة حدثان مثيران آخران في الشرق الأوسط, هما: عرض موسكو إرسال عسكريين روس للانضمام إلى قوات
الفصل الدولية في هضبة الجولان السورية المحتلة وسط ترحيب ضمني إسرائيلي. والتسريبات الأميركية عن «إمكانية» اتخاذ الرئيس باراك أوباما قرارا بإرسال أسلحة فتاكة (؟) إلى المعارضة السورية «غير الراديكالية».
الحدث الأول مثير لجملة من الأسباب، في طليعتها:
أولا، أن روسيا دولة عظمى لها حق النقض (الفيتو)، وبالتالي، من غير المألوف لقوة دولية بهذا الحجم والوزن المشاركة في قوة حفظ سلام دولية.
ثانيا، أن روسيا منذ استخدامها «الفيتو» ثلاث مرات إزاء الوضع في سوريا منذ اندلاع الثورة على نظام آل الأسد في منتصف مارس (آذار) 2011، غدت طرفا فاعلا في النزاع السوري. ثم إنها أكدت عمق تحالفها مع النظام وإصرارها على بقائه عبر تسليحها المستمر، بل والمتصاعد، لقواته العسكرية وتغذيتها ترسانته الحربية.. وصولا إلى الصواريخ المتطورة.
ثالثا، أن روسيا حليف تكتيكي للنظام الإيراني، وراعٍ نشط لبرنامجه النووي، وشريك فعلي له في تنفيذه «مشروعه الإقليمي» على حساب عشرات الملايين من العرب.
رابعا، أن النظام السوري، الذي أسقط على امتداد أربعة عقود تحت شعار «الممانعة» كل مبادرات السلام العربي – الإسرائيلي، ورشق خصومه بتهم الخيانة.. فأهدر دمهم وأيد تصفيتهم، يبدو اليوم موافقا على العرض الروسي الذي من شأنه ضمان ديمومة الاحتلال الإسرائيلي للجولان. وأصلا ما كان واردا أن يطلق فلاديمير بوتين فكرة نشر قوات روسية في الجولان من دون إعلام بشار الأسد وبنيامين نتنياهو.
خامسا، كان رد الفعل الإسرائيلي الأولي على العرض الروسي إيجابيا، أو على الأقل غير ممانع، ما يوحي بتصور مشترك ما لمستقبل نظام الأسد، واحتمالات تعايش إسرائيل معه.
سادسا، بعد ذهاب حزب الله بعيدا في تورطه الدامي في الأزمة السورية، بالتوازي مع تزايد الذرائع، وآخرها ضرب «التكفيريين» باعتبارهم – وفق قيادة «الحزب» – حلفاء لواشنطن وتل أبيب، لا بد من مساءلة هذه القيادة عن مصير مزارع شبعا وتلال كفرشوبا التي سيضمن الوجود الروسي في الجولان بقاءها تحت الاحتلال الإسرائيلي.
ولكن ماذا عن الموقف الأميركي؟
للأسف، من واقع التجربة السيئة، غدت الثقة بأي موقف أميركي فاعل من الأزمة السورية شبه معدومة. إذ صدر كلام كثير عن واشنطن خلال السنتين الأخيرتين ليتبين لاحقا أنه كان بلا معنى ولا مضمون. لقد كانت كل خطوة اتخذتها واشنطن، ومعها الدول الأوروبية الحليفة، إزاء سوريا إما ناقصة أو متأخرة أو ناقصة ومتأخرة معا. فعندما تفجرت الثورة كانت انتفاضة سلمية بسيطة ومحدودة، لكن رد الفعل الغربي كان لفظيا لا أكثر ولا أقل. ومرت على القمع الدموي للانتفاضة عتبة الـ«14 يوما»، التي كانت أعطيت للرئيس المصري السابق حسني مبارك.. ولم يترجم استنكار قتل المتظاهرين بالرصاص الحي إلى خطوات رادعة فعالة، فاستمرأ النظام طعم الدم وولغ فيه أكثر.
وتطورت أساليب القمع من الرصاص الحي إلى القصف المدفعي بعدما بدأ تشقق الجيش، وانطلقت المطالبات بموقف دولي مناسب يشمل التسليح النوعي لـ«الجيش الحر».. ولكن مجددا جاء الرد ناقصا ومتأخرا. وانتقل القمع من القصف المدفعي إلى القصف الجوي – مستقويا بـ«الفيتو» الروسي – الصيني.. وعند هذه النقطة بدأت المطالبات بمناطق حظر طيران وصواريخ «ستينغر». ومرة أخرى، تأخر الرد الحاسم ما برر لكثيرين تقبل تسلل الجماعات «الجهادية» و«التكفيرية» إلى صفوف الثائرين للقتال معهم، وهو ما صار «ورقة توت» تتستر بها واشنطن وحليفاتها للإحجام عن اتخاذ موقف جدي.
عندها تشجع النظام على رفع مستوى القصف من الهليكوبترات العسكرية إلى الطيران الحربي المُجنح (طائرات الميغ والسوخوي) أيضا أمام مزيد من الجعجعة الاستنكارية الغربية من دون طحين. ومن ثم فات أوان المطالبة بـ«مناطق حظر طيران» عندما بدأ النظام استخدام صواريخ الـ«سكود»، وبعدها السلاح الكيماوي ومنه غاز السارين. الكلام المسرب من واشنطن أخيرا عن وجود توجه أميركي لتسليم المعارضة «غير الراديكالية» أسلحة توصف بـ«الفتاكة» كلام يمكن أن يريح المعارضة السورية، المدفوعة دفعا إلى مفاوضات عبثية لا تتضمن مسبقا رحيل بشار الأسد عن السلطة، لكن المعارضة لا تُلام إن هي رفضت تصديقه.. على طريقة «لا يلدغ المؤمن….». فكيف يصدق أي مراقب، يتمتع بالحد الأدنى من الفهم، هذا الكلام عندما لا يكون لدى واشنطن أي إدراك لأبعاد الأزمة وأي تنبه لما قد تؤول إليه، ولا سيما في ضوء ما حصل في مدينة القصير؟
وكيف يكون لهذا التغير في الموقف الأميركي المزعوم أي قيمة على الأرض إذا كانت واشنطن ما زالت مقتنعة بأن موسكو وطهران جزء من الحل؟ وكيف يستطيع المرء تفسير المناورات الإسرائيلية الكلامية في موضوع مستقبل نظام بشار الأسد، وطبيعة علاقاته الإيرانية والطائفية الاستراتيجية، التي فضحها دور حزب الله القتالي على امتداد الأراضي السورية؟
بكل صراحة، المنطقة تشهد راهنا مأساة تمثل فصولا أمام شعوبها وعلى حساب وجودهم واستقرار مجتمعاتهم، وتتكشف «حبكتها» لتظهر زيف كل المقولات عن «الشيطان الأكبر» و«الشيطان الأصغر» و«الصمود والتصدي» و«الممانعة والمقاومة». لقد شاهدنا، للأسف، على امتداد سنتين كيف تساقطت «الخطوط الحمراء» أمام «الأضواء الخضراء».