احتجاجات غاضبة في أميركا ضد مقتل المواطن الأسود جورج فلويد على يد شرطي أبيض.
أدّى قرار إلغاء الرقّ (Abolition) إلى اشتعال حرب أهلية بين الشمال الصناعي والجنوب الزراعي في الولايات المتحدة.
ما زالت المصالح الاقتصادية الكبرى تدقّ طبول الحروب في العالم، وإن اكتسبت تلك الحروب مظاهر الأخلاق والمساواة وحقوق الإنسان.
نتائج انتشار كورونا وتحوّراتها وتعدّد موجاتها قد أوجدت واقعاً اقتصادياً جديداً في العالم له المستفيدون الكبار منه، وله الخاسرون منه
عادت الأقليات المزودة بعدد كبير من العمالة الرخيصة تتصدّر المشهد في الخصومة بين أصحاب المصالح الكبرى بالولايات المتحدة
احتمالات الحرب الأهلية حالياً داخل الولايات المتحدة صعبة. لكن احتمالات الفتنة داخل كل ولاية ممكنة. وستتحوّل الحروب لحروب مليشيات خطيرة.
توزيع الثروة والدخل في العالم داخل كل دولة، وبين الدول يزداد سوءا وستكون لملايين العاطلين في العالم ردة فعل قوية ما قد يشعل فتنا داخلية وحروبا بين الدول.
حصيلة التضارب بين أفكار “آدم سميث” و”فريدريك ليست” حرب أهلية بين الولايات الأميركية الشمالية والجنوبية تعود أسبابها العميقة لاعتبارات ومصالح اقتصادية.
* * *
بقلم: جواد العناني
يعدّ الرئيس الأميركي أبراهام لينكولن “أيقونة ” تحرير الأميركيين من أصول أفريقية من الرقّ الذين كانوا يعانون منه في جنوب الولايات المتحدة.
وقد صدرت حديثاً مقالاتٌ تنشر اقتباسات عنه تقول: “طبعاً أنا ضد العبودية من حيث المبدأ، والسؤال ليس في المبدأ، بل في الوسائل والطرق التي يجب أن تلغي فيها العبودية”.
كان هذا الاقتباس عام 1854، أو حوالي ست سنوات ونصف السنة قبيل فوز أبراهام لينكولن برئاسة الولايات المتحدة في العام 1860، وتولّيه المسؤولية في مطالع العام 1861، والكلام في هذا الموضوع كثير.
وقد أدّى قرار إلغاء الرقّ (Abolition) إلى اشتعال حرب أهلية بين الشمال الصناعي والجنوب الزراعي في الولايات المتحدة.
وقبيل اندلاع الحرب، انشغل البرلمان البريطاني مدة تزيد على 23 عاماً في النقاش الحادّ حول إلغاء التعرفة الجمركية عن مستوردات الحبوب إلى بريطانيا.
والسبب أن التجار البريطانيين كانوا يستوردون القمح والذرة من الولايات المتحدة بأسعار رخيصة. وأيضاً أراد الصناعيون أن ينتقل عمّال الزراعة في الولايات المتحدة إلى المدن، حتى تقل كلف العمالة في الصناعة.
وقد دعا إلى ذلك آدم سميث، صاحب نظرية “التجارة الحرة، دعه يمرّ، دعه يعمل”، ولكن روبرت مالثوس اعترض قائلاً إن فوائد التجارة الحرة لن تتحقق إلا على المدى الطويل، أما على المدى القصير فسوف يؤدّي رفعها إلى تراجع دخل العمال، فيقل الطلب، وتخسر الصناعة.
في المقابل، ظهر اقتصادي ألماني، اسمه فريدريك ليست، عارض آدم سميث ونظريته متمسكاً بنظرية “الصناعة الوليدة” في الدول الصناعية الجديدة، مثل ألمانيا والولايات المتحدة، والتي تحتاج حماية جمركية حتى يشتدّ عودها وتَقْدر على المنافسة، وخصوصا مع المملكة المتحدة، التي سبقت هاتين الدولتين بحوالي نصف قرن أو أكثر في الصناعة وثورتها.
وسافر فريدريك ليست إلى الولايات المتحدة، وحصل على جنسيتها، ودافع عن ضرورة عدم السماح بإدخال الصناعات البريطانية (الحديد والفحم) إلى الولايات المتحدة معفاة من الجمارك، لأنها ستقتل الصناعة الأميركية الوليدة.
وقد سكن معظم المهاجرين من ألمانيا وشمال أوروبا في ولايات الشمال التي تتمتع بوفرة خامات الحديد والفحم فيها. لذلك كانت حصيلة التضارب بين أفكار آدم سميث وفريدريك ليست هي الحرب الأهلية بين شمال الولايات المتحدة وجنوبها. إنها حربٌ تعود أسبابها العميقة إلى الاعتبارات والمصالح الاقتصادية.
ويدور الحديث حالياً عن احتمالات ضياع الديمقراطية في الولايات المتحدة (القبول برأي الأغلبية والاحتكام إلى صناديق الاقتراع لتحديد تلك الأغلبية وأصحابها).
وقد رأينا في الانتخابات الرئاسية بين مرشحي الحزب الديمقراطي جو بايدن والحزب الجمهوري دونالد ترامب، صراعات كبيرة تحصل لأول مرة بهذا الحجم في الولايات المتحدة، فالخاسر ترامب لم يرض بالنتائج التي انتهت إليها الانتخابات الرئاسية التي جرت في نوفمبر 2020.
وقد أعطاه العذر في ذلك انتشار فيروس كورونا، والذي أنكره ترامب في البداية ولم يقبل أن يلبس الكمامة، ولا أن يفرض اللقاح ضد كورونا، لاعتقاده أن هذه الإجراءات ستسمح بالتصويت عن بعد، ما يسمح للأقليات مثل الأميركيين من أصول أفريقية ولاتينية وآسيوية وشرق أوسطية، أن تنتخب بقوة، متأثرة برأي الديمقراطيين الذين تؤيدهم هذه الأقليات.
وفي يوم تصويت الكونغرس على صحة نتائج الانتخابات الرئاسية، بعدما رفضت المحاكم كل قضايا التشكيك التي رفعتها حملة ترامب، قام أنصار ترامب بالهجوم العنيف على مبنى الكونغرس يوم السادس من يناير من 2021، وما زال الجدل قائماً بين الحزبين على ذلك.
إذن، عادت الأقليات المزودة بعدد كبير من العمالة الرخيصة تتصدّر المشهد في الخصومة بين أصحاب المصالح الكبرى في الولايات المتحدة. ولكن الفرق بين الآن وعام 1861، حين اندلعت الحرب الأهلية الأميركية، أن الأمور في ذلك العام كانت واضحة جفرافياً وديموغرافياً.
فالجنوب وأهله لا يريدون تحرير الرقيق، لأن ذلك يرفع كلفة إنتاجهم الزراعي، وأهل الشمال يريدون ذلك حتى يمنعوا استمرار إعفاء المستوردات الصناعية من التعرفة الجمركية، ويوفروا فرص عمل للرقيق المنتقل من الجنوب إلى الشمال بأجور زهيدة تحفظ للمنتجات الصناعية في الشمال تنافسيتها.
أما الآن فالأمر مختلف، فالتشظّي والانقسام داخل الولايات المتحدة لا يمكن أن ينقسم جغرافياً بشكل واضح، وذلك لأن لكل ولاية في الولايات المتحدة أناسُ يؤيدون هذا الفريق أو الفريق الآخر، مع الاعتراف بتفاوت النسب بين ولاية وأخرى.
ومن هنا، فإن احتمالات الحرب الأهلية حالياً داخل الولايات المتحدة صعبة. لكن احتمالات الفتنة داخل كل ولاية ممكنة. وستتحوّل الحروب لحروب مليشيات خطيرة.
خطورة كورونا وتحوراتها، من فيروس كوفيد – 19 إلى دلتا إلى أوميكرون، أفرزت انقسامات كثيرة. ولم يعد تفسير الحقائق قائماً على نتائج البحوث العلمية، ولا على إثباتات أن الفيروس موجود، ولا على أن الموجة تلو الأخرى من هذا المرض قد عرّضت حياة ملايين البشر للخطر من جميع أنحاء العالم.
ولا شك أن نتائج انتشار كورونا وتحوّراتها وتعدّد موجاتها قد أوجدت واقعاً اقتصادياً جديداً في العالم له المستفيدون الكبار منه، وله الخاسرون منه.
ولكنه أكّد لنا أن توزيع الثروة والدخل في العالم داخل كل دولة، وبين الدول، سوف يزداد سوءاً، وأنه ستكون لملايين العاطلين في العالم ردة فعل قوية، ما قد يشعل الفتن الداخلية والحروب بين الدول.
ما زالت المصالح الاقتصادية الكبرى تدقّ طبول الحروب في العالم، وإن اكتسبت تلك الحروب مظاهر الأخلاق والمساواة وحقوق الإنسان.
* د. جواد العناني سياسي وخبير اقتصادي، نائب رئيس الوزراء رئيس الديوان الملكي الأردني الأسبق
المصدر| العربي الجديد
موضوعات تهمك: