- هل يتكرر بخصوص الآثار السوريّة المسروقة (25 ألف قطعة) ما جرى للآثار العراقية المنهوبة بعد الاحتلال الأميركي لبغداد في 2003؟
- خلال الأشهر الأولى من عام 2013 قدرت قيمة الآثار المسروقة من سوريا بنحو ملياري دولار، وهذه حصيلةُ عامٍ واحدٍ فقط على بدء القتال المسلّح بين المعارضة والنظام.
آثار الحرب فوق آثار سوريا
بقلم: أيمن الشوفي
ارتفع حائطٌ اسمنتي على عجالة داخل أحد القوسين اللذين يتوسّطهما “باب شرقي” في دمشق القديمة. اكتمل بناؤه بسرعة ليصير تطاولاً بصريّاً يُشوّه آخر الأبواب الرومانيّة وأجملها في المدينة القديمة.
وسرعان ما تناقلت كاميرات الهواتف المحمولة عمليّة التشويه الغريبة تلك، وتحوّلت في بداية الأسبوع الثاني من شهر أيلول / سبتمبر الحالي إلى حملة إدانة واسعة اتفق معها الموالون والمعارضون للنظام على السواء.
الأمر الذي أجبر السلطات المسؤولة إلى الهرولة باتجاه الحائط المسموم، بحجّة أنه عمل فردي قامت به إحدى تشكيلات ميلشيا الدفاع الوطني التابعة للنظام بهدف تحويل القوس الأثري إلى غرفة خاصة بأفرادها، من دون الرجوع إلى محافظة دمشق التي أزالت الحائط لاحقاً.
تلك واحدة من بين صورٍ عديدة تبرهن على نفوذ السلاح وسطوة من يحمله، باعتبار أن تمادي الحرب على هذه الشاكلة بات يقلّل من قيمة محتويات الحياة وموجوداتها. وهذا ظهر في استفاضات كثيرة ظهرت خلال السنوات الماضية، ولعلّ الآثار في سوريا عانقت كسواها مشهد الدمار العظيم.
وصارت مستباحة بعد تراخي ضوابط الدولة في أوصال البلاد التي قّطعتها حركة المعارك، وتناحر المتحاربين في عواصف الكرّ والفرّ، ثم وقوفهم على تخوم وساطاتٍ دوليّة كانت تحرّك مليشيات “معارضة” على طول البلاد وعرضها كأحجار الشطرنج في لعبة باتت مضجرة، ومتصدّعة للغاية.
وربما تكون الآثار هي الأكثر تضرراً من بين الماديّات التي يستحيل تعويضها بما تمثّله من قيمة تاريخيّة يقارب عمرها الخمسة آلاف عام.
أعوام الدمار الطويلة
اكتفت الحكومات السورية المتعاقبة بتأسيس 25 متحفاً، وزّعتها على محافظاتها، ثم أهملتّها سياحيّاً ومعرفيّاً، لكنها واظبت على تشجيع الرحلات المدرسيّة لتنظيم “طلائع البعث” إلى المتحف الحربي في العاصمة خلال عطلة منتصف كلّ عام.
وفي حين أنّ ستة مواقع أثرية سوريّة وجدت طريقها إلى قائمة التراث العالمي، وصارت ضمن أجندة اهتمامات “اليونسكو” التي عجزت عن تقديم اقتراحات عمليّة تجميّليّة لمعالجة وجه الخراب الذي التصق ببعض تلك المواقع، أو تقدير كلفة إعادة ترميم المواقع المتهالكة على لائحة تراثها.
وحتى الآن لم يصدر عن السلطة الرسميّة في سوريا أيّ تقييم نهائي ودقيق لحجم الضرر داخل أحياء حلب القديمة، من مئذنة الجامع الأموي فيه، إلى السوق القديم المسقّف بعدما تحوّل إلى مأوى للمقاتلين، وميدان لمعارك طويلة خاضوها مع جيش النظام استمرت عاماً ونصف العام.
في حين دفعت آثار تدمر ضريبة الخراب الأكبر على أيدي تنظيم “داعش” حين أعلن الجهاد على معبد “بعل” (عمره ألفي عام) ودمّره، ودمّر معه قوس النصر، ثم أجهز على جزء من واجهة المسرح الروماني، وحوّله إلى استوديو تصوير خارجي بثَّ منه عدداً من إعداماته السينمائيّة الشهيرة.
ترتفع أسهم حلب القديمة، وتدمر وقلعة المضيق في بورصة الدمار فيصيرون الأكثر تضرراً من بين مواقع التراث الستّة، في حين ينخفض الضرر في بصرى الشام، وقلعة الحصن، مقارنةً بحلب القديمة وتدمر وقلعة المضيق التي تعرّضت للقصف حين احتدمت المعارك في ريف حماة.
وتكاد دمشق القديمة، سادس مواقع التراث المسجّلة على لائحة “اليونسكو”، تخلو من أي خرابٍ يُذكر، باستثناء سقوط عدد من قذائف الهاون عليها بعد جولات القصف التي كان يتبادلها جيش الإسلام، مع جيش النظام.
وبحسب تقرير صدر عن الأمم المتحدة في أواخر عام 2014 فإنّ قرابة ثلاثمئة موقع أثري في سورية طالها النهب، والتدمير على نحوٍ واسعٍ وممنهج، إذ كان ممكناً، وبيسر، سرقة الآثار التي وقعت في قبضة الأطراف المتصارعة، الموالية والمعارضة على السواء، وتهريبها عبر الحدود، لتصير طرائداً مغرية يصطادها الراغبون في مزادات البيع الالكتروني، أو تلك التي يديرها سماسرة سوق الآثار السوداء في العالم.
ولعلّ ازدهار سرقة الآثار في سوريا، والإتجار بها جاء باكراً، منذ بداية العام 2012، حين تعرّض متحف حماة للسرقة وكانت الغنيمة الكبرى حينها تمثال آرامي، ثم سرقة تمثال رخامي يعود للفترة الرومانيّة من متحف أفاميا، بالإضافة إلى اقتلاع لوحات من الفسيفساء بالكامل من مكانها. وخلال أشهرٍ قليلة فقط وصلت عمليات النهب المنظم سريعاً إلى آثار مدينة إيبلا في إدلب.
مسروقات تعود وبرنامج ترميم معطّل
خلال الأشهر الأولى من عام 2013 تمَّ تقدير قيمة الآثار المسروقة من سوريا بنحو ملياري دولار، وهذه حصيلةُ عامٍ واحدٍ فقط على بدء القتال المسلّح بين المعارضة والنظام، كما هو انعكاسٌ موضوعي لرخاوة المضامين النظرية سواء لفكرة الثورة، أو لفكرة الدفاع عن النظام.
إذ أنّ الدلالات الاجتماعية لفعل النهب تقيسُ مدى استغراق المفاهيم النظرية الصرفة في تشكيل الوعي السياسي للأطراف المتصارعة على السلطة، أو مدى زيف تلك المفاهيم، وسقوطها عند أول مطبٍّ “براغماتي”، ليكون بمقدور الجميع حينها تبرير ذاك الفعل، واستعارة مكياج أخلاقي فاقع لحجب رثاثته.
فالموالون يريدون مكاسباً مادية لدفاعهم عن النظام القائم، ومثلهم المعارضون حين يتحجّجون بأولوياتِ تمويل التسليح، وإدارة مناطق الحكم الذاتي.. حتى أن “داعش” وجدت في سرقة الآثار وبيعها مصدراً مهماً من مصادر تمويل التنظيم المعاقب دولياً.
وتبدو التصريحات الرسميّة السوريّة محبطة للغاية حين تؤكد على سرقة وتهريب نحو 25 ألف قطعة أثرية، من بينها قرابة 1500 قطعة أثريّة تمّت سرقتها من متحفيّ الرقة ودير عطيّة، في حين أن المديرية العامة للآثار والمتاحف السوريّة لم تسترّد سوى 120 قطعة أثرية فقط لغاية شهر آذار /مارس من عام 2015.
لكن منظّمة “اليونسكو” تبدو عاجزة عن التقدّم ولو خطوة واحدة في ملف الآثار السوريّة المسروقة، أو المدمّرة، رغم أنها تلقّت مبلغ 3.4 مليون دولار في شباط / فبراير 2014 كمساعدة من دول الاتحاد الأوروبي.
كان هدفها تنفيذ برنامج مدته ثلاث سنوات (ينتهي عملياً في عام 2017) لتحسين مستوى المعلومات عن حالة التراث الثقافي السوري، ومواجهة عمليات الإتجار به، ورفع مستوى وعي الرأي العام في المجتمع الدولي بشأن وقائع وطرق نهبه.
ومن غير المستبعد أن تنتقل عدوى مصير الآثار العراقية المنهوبة بعد الاحتلال الأميركي لبغداد في 2003 إلى الآثار السوريّة المسروقة، في ديباجاتٍ تكادُ تكون متماثلة، وكأن تاريخ المنطقة عرضةٌ لتكرار السقوط المدوّي.
- ايمن الشوفي صحافي من سوريا.
المصدر: «السفير العربي»