في عصر تجدد التنافس بين القوى العظمى، قد يضطر المدافعون عن حقوق الإنسان إلى الاعتياد على الإحباط عندما يتعلق الأمر بسياسة حافة الهاوية لحقوق الإنسان.
لم تعد حقوق الإنسان أولوية في السياسة الخارجية الأميركية نحوها. وهكذا بالنسبة لمناصري الديمقراطية وحقوق الإنسان، فإن الأمر يشكل تحدياً حقيقياً، ففي الوقت الذي اعتاد فيه أولئك المناصرون الاعتماد على آلية الضغط الأميركي كهدف وأداة لتغيير الأوضاع الحقوقية في بعض البلدان، فإن تلك الآلية لم تعد متوافرة في بعض المناطق.
* * *
عندما بلغ الرئيس الأميركي جو بايدن أبواب البيت الأبيض في يناير (كانون الثاني) 2021، أشاد بتلك اللحظة باعتبارها انتصاراً للديمقراطية، متعهداً بمقاومة تقدم الاستبداد في جميع أنحاء العالم، لكن الرئيس الديمقراطي لم يكن مدركاً بالقدر الكافي المشهد من حوله عندما واصل استخدام تلك الخطب الأميركية الرنانة، فالعامان الماضيان من حكمه شهدا تغيرات جذرية على صعيد المشهد الدولي فرضت واقعاً جديداً على السياسات الخارجية للولايات المتحدة.
التنافس الجيوسياسي بين واشنطن وبكين جنباً إلى جنب مع الحرب الروسية في أوكرانيا، ربما كانا مبرراً لجلوس بايدن مع قادة اعتبرهم قبلاً غير شرعيين أو أنه اضطر للصمت أحياناً عن توجيه انتقادات لملفات الديمقراطية وحقوق الإنسان في عدد من الدول بل التراجع عن استخدام واحدة من الأدوات التي طالما استخدمتها واشنطن في الضغط على حكومات الدول التي تشهد انتهاكات حقوقية، مثل فرض العقوبات وحظر بيع السلاح أو تعليق المساعدات.
نفط فنزويلا
ففي يونيو (حزيران) الماضي، لم يدع الرئيس الأميركي جو بايدن، زعيم المعارضة الفنزويلي خوان غوايدو – الذي اعترفت به واشنطن كرئيس موقت للبلاد عام 2019 – إلى قمة الدول الأميركية التي عقدت في لوس أنجليس، وحينها واجه البيت الأبيض انتقادات لتخليه عن دعم الديمقراطية في فنزويلا التي يحكمها الرئيس نيكولاس مادورو وهو بنظر الولايات المتحدة رئيس غير شرعي فاز في انتخابات اعتبرت على نطاق واسع مزورة.
سعى البيت الأبيض وقتها لتبرير موقفه باعتباره محاولة لتشجيع المفاوضات بين مادورو وخصومه السياسيين المؤيدين للديمقراطية، “في سبيل توفير مستقبل أفضل للشعب الفنزويلي”.
إضافة إلى ضغط حلفاء مادورو على واشنطن الذين أعربوا عن تحفظهم لاستبعاد رئيس فنزويلا وزعماء كوبا ونيكاراغوا من القمة، وعلى رأسهم رئيس المكسيك أندرياس مانويل لوبيز أوبرادور الذي قرر مقاطعة القمة، فإن تغير موقف واشنطن حيال كاراكاس كان مفهوماً لدى المراقبين في سياق الحرب الروسية – الأوكرانية.
فمنذ أن تسببت الحرب في أوكرانيا في ارتفاع أسعار الطاقة عالمياً، بدأت الولايات المتحدة في إعادة تقييم سياستها في شأن فنزويلا، البلد الذي يجلس على أكبر احتياطيات نفطية في العالم، لكن عانى إنتاجه النفطي تراجعاً كبيراً على مدى عقود بفعل العقوبات الأميركية. وفي مارس (آذار) الماضي، وبينما لم تكن أسابيع قليلة مضت على بداية الحرب، سافر مسؤولون أميركيون بقيادة خوان غونزاليس، كبير مديري مجلس الأمن القومي لشؤون نصف الكرة الغربي، إلى كاراكاس للقاء مادورو. في ذلك الوقت تم تهميش غوايدو أيضاً، حيث لم يلتق به المسؤولون الأميركيون خلال الزيارة التي استمرت لأيام عدة، بل كان الهدف من المحادثات هو عرض إمكانية تخفيف العقوبات على الرئيس الفنزويلي مقابل العودة إلى المفاوضات مع خصومه.
وبالفعل، خففت الولايات المتحدة، نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، العقوبات النفطية المفروضة على حكومة مادورو، عقب استئناف المحادثات بين الحكومة الفنزويلية والمعارضة السياسية، بعد أربع سنوات من إعادة انتخاب مادورو، والتي تم التنديد بها على نطاق واسع باعتبارها مزورة. ويتوقع مراقبون أن تكون اتفاقية وزارة الخزانة الأميركية بالسماح لشركة شيفرون بتوسيع عملياتها المشتركة مع شركة النفط الفنزويلية المملوكة للدولة، تمهيداً لعودة النفط الفنزويلي إلى الأسواق العالمية وسط تمدد أزمة الطاقة.
معركة التنافس الجيوسياسي
في عالم من مراكز القوة المتنافسة حيث لم تعد الولايات المتحدة تتمتع بالهيمنة نفسها قبل عقدين من الزمن باتت الحسابات الجيوسياسية هي المحرك للموقف الأميركي. فالقمة الأميركية – الأفريقية، التي استضافتها واشنطن الأسبوع الماضي، سلطت الضوء على بعد أوسع يتعلق بالتنافس مع الصين. فوسط توسع النفوذ الصيني في القارة السمراء، استضاف البيت الأبيض قمة جمعت 50 من القادة الأفارقة، جلس فيها الرئيس الأميركي مع عديد من القادة الذين تلقوا قبلاً انتقادات من إدارته بسبب انتهاكات حقوقية أو غياب الديمقراطية.
تمت دعوة غينيا الاستوائية على رغم تصريح الخارجية الأميركية بأن “لديها شكوكاً جدية” حول الانتخابات التي أجريت الشهر الماضي في الدولة الصغيرة الواقعة في وسط أفريقيا. ووفق بيان الخارجية، فإن أحزاب المعارضة “قدمت مزاعم موثوقة عن حدوث مخالفات كبيرة تتعلق بالانتخابات، بما في ذلك حالات موثقة من التزوير والترهيب والإكراه”. وأفاد مسؤولو الانتخابات أن الحزب الحاكم للرئيس تيودورو أوبيانغ فاز بنحو 95 في المئة من الأصوات.
شارك في القمة أيضاً الرئيس الإثيوبي آبي أحمد، على رغم إعلان بايدن في أواخر العام الماضي استبعاد أديس أبابا من برنامج تجارة أميركي، المعروف باسم قانون النمو والفرص الأفريقي، بسبب فشل إثيوبيا في إنهاء الحرب في إقليم تيغراي التي أدت إلى “انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان”. وبالمثل جرت دعوة زيمبابوي التي واجهت سنوات من العقوبات الأميركية والغربية بسبب سوء الإدارة وانتهاكات حقوق الإنسان والفساد المستشري.
لكن يمكن تفسير ذلك في سياق هدف القمة الأساسي الذي يتعلق ببحث واشنطن عن سبيل للعودة إلى أفريقيا في مواجهة التوسع الصيني المتواصل، حيث يشعر صانعو السياسة الأميركيين، على جانبي الطيف السياسي، بقلق متزايد حيال دور بكين في أفريقيا، في ظل تعمق العلاقات الصينية – الأفريقية بمجموعة متنوعة من المجالات، وليس على صعيد العلاقات التجارية والاقتصادية فقط، بل أيضاً العسكرية والأمنية منها وفي مجال التكنولوجيا.
وفي أغسطس (آب) الماضي، حذرت إدارة الرئيس جو بايدن في “الاستراتيجية الأميركية تجاه أفريقيا جنوب الصحراء” من أن الصين تعتبر أفريقيا “ساحة مهمة لتحدي النظام الدولي القائم على القواعد وتعزيز مصالحها التجارية والجيوسياسية الضيقة وتقويض الشفافية والانفتاح وإضعاف علاقات الولايات المتحدة مع الشعوب والحكومات الأفريقية”.
المصالح السياسية أولاً
وقبل عام، عندما عقد بايدن “قمة الديمقراطية”، الافتراضية التي جمعت 110 دول، واجه الرئيس الأميركي انتقادات عدة باعتبار أن قائمة الضيوف أعدت على أساس المصالح السياسية للولايات المتحدة وليس على أساس تصنيفها كدول ديمقراطية، إذ يتم تصنيف أكثر من 30 في المئة من الدول التي شاركت في القمة، على أنها “حرة جزئياً” وفق منظمة فريدوم هاوس، بينما ثلاثة منها “ليست حرة” على الإطلاق -وهى أنغولا وجمهورية الكونغو الديمقراطية والعراق، بينما لم يجد المراقبون وقتها تفسيراً لدعوة بعض الدول البعيدة عن الديمقراطية، ذلك علاوة على تصنيف دول من قبل معهد “في-ديم” السويدي، على أنها “أنظمة استبدادية” بما في ذلك الفيليبين وكينيا.
وتقول سوزان نوسيل، المديرة التنفيذية لمؤسسة “بين”، الأميركية المعنية بالدفاع عن حرية التعبير، إنه في عصر تجدد التنافس بين القوى العظمى، قد يضطر المدافعون عن حقوق الإنسان إلى الاعتياد على الإحباط عندما يتعلق الأمر بسياسة حافة الهاوية لحقوق الإنسان.
وتشير إلى أن مهمة إدراج حقوق الإنسان في جدول الأعمال الخارجي للولايات المتحدة أصبح أكثر صعوبة. وكانت هناك دائماً حالات انتهى فيها صانعو السياسات للقول “لا يمكننا فعل ذلك، فهناك أشياء أخرى على المحك ستتعرض للخطر إذا اتخذنا موقفاً نقدياً قوياً في شأن حقوق الإنسان في دولة شريكة”.
وتضيف أن عدد البلدان التي ينظر إلى العلاقات فيها على أنها معقدة وتواجه مخاطر عالية جداً، يتزايد بحيث لم تعد حقوق الإنسان أولوية في السياسة الخارجية الأميركية نحوها. وهكذا بالنسبة لمناصري الديمقراطية وحقوق الإنسان، فإن الأمر يشكل تحدياً حقيقياً، ففي الوقت الذي اعتاد فيه أولئك المناصرون الاعتماد على آلية الضغط الأميركي كهدف وأداة لتغيير الأوضاع الحقوقية في بعض البلدان، فإن تلك الآلية لم تعد متوافرة في بعض المناطق.
وفق نوسيل فإن هناك حالة ركود حقوقي عالمي يغذيها ذلك التنافس بين القوى الكبرى. فهونغ كونغ وميانمار وأفغانستان وأوكرانيا وروسيا وإثيوبيا والسودان وأماكن أخرى شهدت انتكاسات عنيفة على صعيد حقوق الإنسان على مدار العقد الماضي، وحتى الديمقراطيات الصاعدة، التي كانت واعدة ذات يوم، أوقفت مسارها أو عكسته. فالمنافسة العسكرية والاقتصادية بين الغرب والصين – التي أصبحت الآن متحالفة بشكل متزايد مع روسيا – أدت إلى تمزيق العالم بين أولئك الذين يرغبون في دعم قوانين ومعايير حقوق الإنسان الدولية وأولئك الذين يسعون إلى إضعافها.
المصدر: إندبندنت عربية
موضوعات تهمك: