المنظومة التي تضمنها ميثاق “الأمم المتحدة” هي أول منظومة متكاملة للأمن الجماعي توضع موضع التطبيق.
النظام الدولي الراهن اقترب من خط النهاية وستجهز أزمة أوكرانيا بقوة على ما تبقّى من منظومة الأمن الجماعي التي قنّنها ميثاق الأمم المتحدة.
يصعب أن نحدّد الآن ملامح نظام دولي جديد قد يبدأ بالتشكّل تدريجياً فور سكوت المدافع التي لا يزال هديرها يُسمع الآن على الأرض الأوكرانية.
سلوك الطرفين المتصارعين خلال أزمة أوكرانيا يشي بأن العالم فقد ثقته بمفهوم الأمن الجماعي ويعود لسياسات تستند إلى مفهوم “توازن القوى” التقليدي.
تشغيل منظومة الأمم المتحدة المتكاملة، نظرياً، توقف، عملياً، على شرط جوهري، هو تحقيق التوافق بين الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي.
مفهوم “الأمن الجماعي”: أمن المجتمع الدولي واحد لا يتجزأ وعلى الكل التضامن لرد أي اعتداء على الجزء وهو نقيض مفهوم “توازن القوى” أي مسؤولية كل دولة عن أمنها.
* * *
بقلم: حسن نافعة
ما زال الوقت مبكراً لرصد كل تبعات أزمة أوكرانيا الراهنة أو تحديد تأثيراتها المتوقعة على مسار النظام الدولي الراهن وتوجهاته. ولأن النتائج الفعلية لمثل هذه التبعات والآثار لن تظهر بسرعة، والأرجح أن تأخذ وقتاً طويلاً قبل أن تكتمل وتنضج وتستقر، فسوف يكون من الصعب أن نحدّد منذ الآن ملامح نظام دولي جديد نعتقد أنه سيبدأ في التشكّل تدريجياً فور سكوت المدافع التي لا يزال هديرها يُسمع الآن على الأرض الأوكرانية.
وأياً كان الأمر، فمن الواضح أن النظام الدولي الذي تأسّس بعد الحرب العالمية الثانية على وشك الوصول إلى خط النهاية، وأن أزمة أوكرانيا الراهنة ستسهم بقوة في الإجهاز على ما تبقّى من منظومة الأمن الجماعي التي قنّنها ميثاق الأمم المتحدة.
بعبارة أخرى، يمكن القول إن الأزمة الأوكرانية الراهنة سوف تطرح بقوة، وربما بسرعة، مدى الحاجة إلى منظومة جديدة، سوف تتطلب حتماً، إما عملية إصلاح جوهري للهياكل التنظيمية الحالية للأمم المتحدة، أو تأسيس “أمم متحدة جديدة” تكون أكثر قدرة على التعبير عن مجمل التحولات التي شهدها النظام الدولي منذ الحرب العالمية الثانية حتى الآن.
ولكي تتضح أمامنا أبعاد هذا المشهد، ربما يكون من المفيد إلقاء الضوء على مفهوم “الأمن الجماعي”، وكيف ظهر وتطور تحت ضغط التحولات التي شهدها النظام الدولي عبر العصور المتعاقبة، إلى أن وصلنا إلى ما نحن فيه الآن.
يقوم مفهوم “الأمن الجماعي” على فكرة بسيطة، مفادها أن أمن المجتمع الدولي يشكّل كُلاً واحداً لا يتجزأ، ومن ثم ينبغي على الكل أن يتضامن معاً لرد أي اعتداء يقع على الجزء، ويعدّ نقيضاً لمفهوم “توازن القوى” الذي يرى أن الأمن مسؤولية ذاتية تقع على عاتق كل دولة على حدة.
ومن ثم يحق لها اختيار الوسائل التي تراها ضرورية للحفاظ على أمنها، سواء بالاعتماد على قواها الذاتية أم بالتحالف مع آخرين، كما يرى أن الحركة التلقائية لموازين القوى بين مختلف الفاعلين الدوليين كفيلة بتحقيق السلم والأمن العالميين.
ويلاحظ هنا أن اندلاع الحرب العالمية الأولى، بكل ما أدّت إليه من تدمير هائل أصاب البشرية كلها، كان له تأثير كبير أدّى ليس فقط بهزّ الثقة بمفهوم “توازن القوى”، بل أيضاً إلى محاولة صياغة مفهوم بديل، هو مفهوم “الأمن الجماعي”، والعمل على وضعه موضع التطبيق، من خلال تأسيس منظمة “عصبة الأمم”.
لم تكن منظومة “الأمن الجماعي” المتضمنة في عهد “عصبة الأمم” محكمة إلى الدرجة التي تمكّنها من الحؤول دون اندلاع حرب عالمية جديدة، وذلك لأسباب لا يتّسع المقام للحديث عنها في هذه العجالة.
لكن اندلاع الحرب العالمية الثانية، وما أحدثته من دمار أشد، لم يزعزعا ثقة المجتمع الدولي بالمفهوم البديل لمفهوم توازن القوى، بل دفعاه إلى تأسيس منظمة دولية جديدة، هي منظمة “الأمم المتحدة”، حرص على أن تتلافى عيوب “عصبة الأمم”، وعلى أن تتضمن منظومة تكون قواعدها وآلياتها أشد إحكاماً وأكثر قدرة على تحقيق السلم والأمن الدوليين.
لذا يمكن القول إن المنظومة التي تضمنها ميثاق “الأمم المتحدة” هي أول منظومة متكاملة للأمن الجماعي توضع موضع التطبيق. وأقول متكاملة لأنها اشتملت على:
1- مجموعة من القواعد والمبادئ القانونية التي يتعيّن على الدول الأعضاء احترامها، في مقدمتها: تحريم اللجوء إلى القوة أو التهديد بها، والالتزام بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وبتسوية المنازعات بالطرق السلمية… إلخ.
2- جهاز يتمتع بسلطات وصلاحيات واسعة، تمنحه حق التدخل بكل الوسائل اللازمة لحفظ السلم والأمن الدوليين، بما في ذلك استخدام القوة المسلحة، ألا وهو مجلس الأمن.
3- مجموعة من الآليات التي يساعد وضعها موضع التنفيذ على حشد الموارد اللازمة لتمكين الأمم المتحدة من ردع العدوان ومحاسبة المعتدي ومعاقبته.
غير أن تشغيل هذه المنظومة المتكاملة، نظرياً، توقف، عملياً، على شرط جوهري، وهو تحقيق التوافق بين الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن.
لذا يمكن القول إن منظومة الأمن الجماعي التي تضمنها ميثاق الأمم المتحدة قامت على افتراض أن التحالف الذي تحقق بين الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية سيستمر بعدها، وهو افتراض ثبت لاحقا عدم صحته، بدليل أن هذا التحالف انقسم على نفسه، بعد أقل من ثلاث سنوات من نهاية الحرب العالمية، إلى معسكرين اندلعت بينهما حرب باردة استمرت أربعة عقود.
هنا يتعيّن التنبه إلى مسألة مهمة، وهي أن الحرب الباردة أضعفت منظومة الأمن الجماعي للأمم المتحدة، وربما تكون قد شلت فاعليتها، لكنها لم تؤدِّ إلى انهيارها. أضعفتها، لأنها شلّت قدرة الأمم المتحدة على التدخل لحل الأزمات التي اندلعت في مناطق النفوذ المباشرة لإحدى القوتين العظميين المتنافستين على قيادة النظام الدولي (أزمات: برلين 48، كوبا 62، تشيكوسلوفاكيا 68… إلخ) أو وقف الحروب التي كانت إحدى هاتين القوتين طرفاً فيها (الحروب الأميركية في فيتنام، ثم في أفغانستان والعراق، الحرب السوفياتية في أفغانستان… إلخ)، لكنها لم تؤدِّ إلى انهيارها كلياً، لأن الأمم المتحدة تمكنت طوال فترة الحرب الباردة من التدخل في أزمات وحروب عديدة اندلعت في أرجاء العالم المختلفة، من خلال إرسال قوات طوارئ أو القيام بعمليات حفظ سلام، وحقّقت نجاحاً كلياً أو جزئياً في حلها أو احتوائها أو تهدئتها أو التخفيف من حدتها.
حين انتهت الحرب الباردة، بهدم جدار برلين عام 1989، لاحت فرصة ذهبية لإعادة إحياء منظومة الأمن الجماعي، خاصة بعد إقدام الرئيس العراقي صدام حسين على غزو الكويت في الـ 2 من آب/ أغسطس 1990. فقد تحدث كل قادة العالم إبان الأزمة التي فجّرها هذا الغزو، بما في ذلك الرئيس جورج بوش الأب، عن الحاجة الماسة إلى نظام عالمي جديد تقوده الأمم المتحدة، كانت الحرب الباردة قد حالت دون قيامه، وأصبح الطريق إليه ممهّداً بعد انتهائها.
غير أن الولايات المتحدة أجهضت هذه الفرصة بسبب طموحاتها الرامية إلى الهيمنة المنفردة على النظام العالمي، ما دفعها إلى إدارة أزمة الكويت بطريقة ساعدت في التعجيل بانهيار الاتحاد السوفياتي. وبدلاً من البحث عن صيغة ملائمة لإصلاح الأمم المتحدة على نحو يساعد في إحياء منظومة الأمن الجماعي، راحت الولايات المتحدة تعمل على تقوية حلف الناتو وتوسيع نطاقه، بل وتحرص أحياناً على استخدامه كبديل لمجلس الأمن، خاصة في الأزمات التي يتعذّر عليها استصدار قرار أممي يسمح بمعالجتها بالطريقة التي تحقق لها مصالحها الذاتية. وكانت النتيجة بقاء منظومة الأمم المتحدة للأمن الجماعي في حالة شبه متهالكة طوال فترة الهيمنة الأميركية المنفردة، وهو الوضع الذي استمر بطريقة أو بأخرى حتى اندلاع الأزمة الأوكرانية الراهنة.
لجوء دولة كبرى، في حجم روسيا، إلى القوة العسكرية، وإقدامها على غزو دولة مستقلة لتسوية أزمة ترى أنها تمس أمنها القومي، وردّ الولايات المتحدة وحلفائها بعقوبات اقتصادية شاملة، كل ذلك أدّى إلى دخول النظام الدولي مرحلة جديدة تتّسم بعودة الحرب الباردة، لكنها ليست من نوع الحرب الباردة التي شهدها النظام الدولي خلال الفترة 1949-1989، بل ستكون حرباً باردة من نوع آخر، تغيب فيه قواعد التعايش السلمي التي كانت قد سادت خلال معظم فترة الحرب الباردة الأولى، وتتراجع فيه مكانة الأمم المتحدة إلى الدرجة التي تهدّد بالانهيار التام لمنظومة الأمن الجماعي.
وفي تقديري، إن سلوك الطرفين المتصارعين خلال الأزمة الأوكرانية الراهنة يشي بأن العالم فقد ثقته بمفهوم الأمن الجماعي، وبدأ يعود إلى ممارسة سياسات تستند إلى مفهوم “توازن القوى” التقليدي. لذا يمكن القول، من دون أي مبالغة، إن هذه الأزمة تكشف عن الحاجة الماسة إلى منظومة أمن جماعي تستند إلى آليات وقواعد مختلفة عن تلك المنصوص عليها في الميثاق الحالي للأمم المتحدة.
ربما يكون من المفيد هنا أن نعيد التذكير بأن المحاولة الأولى لوضع مفهوم الأمن الجماعي موضع التطبيق تمت بعد حرب عالمية أولى، كان ثلاثة أرباع شعوب العالم يعيشون وقتها تحت نير الاستعمار، وأن المحاولة الثانية لتطبيق هذا المفهوم تمت بعد حرب عالمية ثانية، كان أكثر من نصف سكان العالم يعيشون وقتها تحت نير الاستعمار!
فهل ينتظر المجتمع الدولي الآن، والذي يندر فيه وجود شعوب مستعمَرة حالياً ويعيش حالة “العولمة” التي تتزايد وتيرتها باطراد، اندلاع حرب عالمية ثالثة، قبل أن يتمكن من صياغة منظومة جديدة للأمن الجماعي تكون قادرة على تحقيق الأمن والسلام لكل البشر؟
المشكلة هنا أن اندلاع حرب عالمية جديدة سيؤدي إلى فناء البشرية كلها، وحينها ستنتفي الحاجة إلى مثل هذه المنظومة. فهل بات هذا المصير قدراً مكتوباً على جبين الإنسانية؟!
* د. حسن نافعة أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة
المصدر| الميادين
موضوعات تهمك:
اوكرانيا وروسيا على الطاولة: هل تنجح المفاوضات في إنهاء الحرب؟