تعكس تصرفات الرئيس الأميركي دونالد ترامب منذ وصوله إلى البيت الأبيض درجة كبيرة من عدم الرضا عن النظام العالمي بوضعه الراهن. فهو لا يؤمن بقيم وقواعد هذا النظام ويسعى إلى تغييرها. ولا يثق في آلياته ومؤسساته ويسعى إلى هدمها. ويعتقد أن بلاده أصبحت في وضع لا يسمح لها بضبط حركة التحالفات والتفاعلات الدولية ويصر على تصحيح هذا الوضع بالطريقة التي تسمح للولايات المتحدة باستعادة قدرتها على ضبط هذه الحركة.
الدلائل على ذلك كثيرة منها:
1. قرار ترامب بالانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ، والتي تجسد الحد الأدنى من التضامن العالمي المطلوب لمواجهة الأخطار البيئية المشتركة التي تهدد البشرية جمعاء.
2. شكواه الدائمة من القواعد التي تحكم عمل منظمة التجارة العالمية، على رغم استناد هذه القواعد إلى مبدأ حرية التجارة الذي يشكل عماد النظام الرأسمالي، واندفاعه نحو إقامة الحواجز والجدران التي تحول دون التدفق الحر للبضائع والخدمات والأشخاص ورؤوس الأموال، بل وإقدامه على إشعال فتيل حرب تجارية قد تنتهي بكارثة للاقتصاد العالمي.
3- إظهار عدائه الشديد للعمل الجماعي متعدد الأطراف وللمؤسسات الدولية القائمة، بما في ذلك المؤسسات التي كان يعتقد حتى وقت قريب أنها تشكل أذرعا قوية للسياسة الخارجية الأميركية، كحلف معاهدة شمال الأطلسي «ناتو» والاتحاد الأوروبي.
فقد انسحب من الـ«يونيسكو»، ولم يتردد في اختيار مستشار للأمن القومي لا يؤمن بجدوى الأمم المتحدة ويسعى لإضعافها وربما لهدمها، ويواصل الضغط بعنف على شركائه في الحلف الأطلسي وحلفاء آخرين ولا يتردد في ابتزازهم، بل إن الاتحاد الأوروبي نفسه لم يسلم من لسانه الطويل وذهب إلى حد اعتباره مؤسسة معادية للولايات المتحدة.
لا شك أن هذه المعطيات كلها كانت حاضرة في ذهن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عند لقائه بالرئيس الأميركي دونالد ترامب في هلسنكي أول من أمس، وربما يكون استنتج منها مسبقاً أن الأرضية المشتركة التي تجمع بين المصالح الأميركية والروسية في ظل إدارة ترامب، تبدو أوسع بكثير مما كان يعتقد من قبل، وبما يكفي لتحقيق تعاون أوثق بين البلدين لإيجاد تسويات أو مخارج لعدد من الأزمات الدولية الملتهبة، وربما أيضاً للعمل على إرساء أسس لنظام عالمي جديد أظن أن الرئيسين يطمحان إليه بشدة. لكن ما ملامح هذا النظام، وما هي طبيعة الأسس التي يمكن أن يستند إليها؟
ربما يكون من المفيد في سياق محاولة الإجابة على هذا السؤال، أن نلقي نظرة عابرة على المحطات الرئيسة التي مر بها النظام العالمي عبر مسيرته الممتدة طوال المائة عام الأخيرة أملاً في التعرف على منحنيات التحول في هذه المسيرة. ففي مؤتمر الصلح الذي عقد في فرساي في أعقاب الحرب العالمية الأولى تم الاتفاق على نظام مبتكر للأمن الجماعي تقوده «عصبة الأمم»، غير أن هذا النظام ما لبث أن تعثر لسببين رئيسين:
الأول رفض الكونغرس الأميركي التصديق على عهد العصبة وعودة الولايات المتحدة لممارسة سياسة العزلة التقليدية،
والثاني: العزلة المفروضة على الاتحاد السوفياتي الذي تأسس على أنقاض روسيا القيصرية التي انهارت بعد اندلاع الثورة البلشفية عام 1917.
وفي غياب مشاركة فعالة من جانب كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في النظام المستحدث للأمن الجماعي، كان من الطبيعي أن تنهار عصبة الأمم تحت وقع أطماع وضربات النظم العسكرية والفاشية والعنصرية التي اجتاحت إيطاليا وألمانيا واليابان، وتسببت في اندلاع حرب عالمية جديدة.
صحيح أن اندلاع هذه الحرب مهّد لقيام تحالفات دولية غير متوقعة، بخاصة بين بريطانيا وروسيا والولايات المتحدة، حملت على عاتقها مسؤولية التاسيس لنظام بديل للأمن الجماعي، ممثلاً في «الأمم المتحدة» هذه المرة، إلا أن هذا النظام سرعان ما دخل بدوره في حالة غيبوبة إثر انقسام التحالف المنتصر في الحرب العالمية الثانية إلى معسكرين متصارعين، أحدهما غربي رأسمالي تقوده الولايات المتحدة والآخر شرقي اشتراكي يقوده الاتحاد السوفياتي.
وهكذا برز إلى حيز الوجود، ولأول مرة منذ الحرب العالمية الأولى، نظام عالمي ثنائي القطبية وأيديولوجي التوجه في الوقت نفسه، واستطاع أن يصمد لما يقرب من 40 عاماً، وأن يستند إلى مبادئ وقواعد عامة بدت مقبولة ومحترمة من الجميع. حين انهار النظام الدولي ثنائي القطبية فجأة، عقب انهيار أحد قطبيه وتفكك الاتحاد السوفياتي في نهاية الثمانينات من القرن الماضي.
تصور المعسكر الغربي وقتها أنه حقق انتصاراً حاسماً وأن أيديولوجيته القائمة على الليبرالية السياسية واقتصاديات السوق حققت بالتبعية انتصارها النهائي. وتأسيساً على هذا التصور راح المعسكر الغربي يتمدد ويتوسع ويتوغل في الاتجاهات كافة، عبر ذراعيه الرئيسين: حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي.
ثم ما لبث أن تبيّن أنه لم ينجح حقيقة في إقامة نظام عالمي بديل قابل للاستقرار والاستمرار. صحيح أن الولايات المتحدة بدت دولة مهيمنة في المرحلة التي أعقبت سقوط وانهيار الاتحاد السوفياتي مباشرة، لكنها عجزت في الوقت نفسه عن فرض أيديولوجيتها وإرادتها على النظام العالمي ككل.
في سياق هذا العجز، راحت الصين تبني نموذجها الخاص في التنمية وتتحول تدريجياً إلى أهم وأكبر قوة اقتصادية في العالم. كما راحت روسيا الإتحادية تستعيد قوتها وتماسكها عبر نموذجها السياسي والاجتماعي الخاص. ومن هنا صعوبة الإدعاء بأن النظام العالمي الذي أعقب انهيار الاتحاد السوفياتي كان في حقيقة أمره نظاماً أحادي القطبية، خصوصاً وأن المعسكر الغربي بدأ يعاني بدوره من مظاهر تفكك بطيء الإيقاع، راحت معالمه تظهر بوضوح بالتزامن مع تصاعد التيارات اليمينية المحافظة في أوروبا، من ناحية، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من ناحية ثانية، ووصول ترامب إلى البيت الأبيض من ناحية ثالثة.
ولأن الظاهرة الترامبية تبدو الآن أعقد وأكثر تركيباً مما خُيل لكثيرين في البداية، يصعب التعامل معها باعتبارها مجرد ظاهرة أميركية محلية، ومن ثم ينبغي التوقف عند انعكاساتها المحتملة على التحولات الجارية في النظام الدولي، والتي تبدو عميقة.
فحين ترفع دولة يفترض أنها تقود النظام العالمي كله شعار «أميركا أولاً»، ثم لا تتردد في خوض صدام علني وعنيف مع أقرب حلفائها، سواء بدعوى أنهم يدفعون أقل مما ينبغي أو لأن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على، أو راغبة في تقديم خدمة الحماية المجانية لأمن «الأغيار». وحين يتصرف رئيس هذه الدولة، والتي لم تكف يوماً عن الزعم بأنها صاحبة رسالة حضارية عظيمة، وكأن قضايا حقوق الإنسان في العالم لا تعني له الكثير، فمن الطبيعي أن تتآكل الركيزة الأيديولوجية التي يقوم عليها التحالف الغربي برمته.
غير أن هذا التحول له وجه آخر مهم ويعني أن الولايات المتحدة أصبحت، وللمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، جاهزة للتعامل مع الدول الأخرى، بما في ذلك حلفاؤها الأوروبيون، وفق أسس ومعايير وطنية أو قومية بعيداً عن أي اعتبارات أيديولوجية.
وفي تقديري أن هذا التحول في طريقة التفكير الأميركية يناسب روسيا والصين تماماً ويمهد الطريق للبحث عن قواعد وقيم وآليات لنظام عالمي جديد مختلف عن النظام الراهن. غير أنه يتوقع، على رغم ذلك، أن يواجه ترامب معضلتين كبيرتين على طريق البحث عن النظام العالمي الجديد الذي يسعى إلى تثبيت قواعده:
الأولى، علاقة الولايات المتحدة بإسرائيل. فإدارة ترامب تدرك هذه العلاقة عبر منظور عقائدي أو أيديولوجي، وليس وفق منظور براغماتي أو استناداً إلى حسابات المصالح الوطنية أو القومية التقليدية، وهو المنظور العقائدي لتيار «المسيحية الصهيونية». ومن شأن هذا المنظور أن يدخل الولايات المتحدة في تعقيدات خطيرة مع أطراف دولية مهمة، في مقدمها إيران، وأن يعرقل خططها نحو إقامة النظام العالمي الذي تسعى إليه.
الثانية، كيفية التعامل مع آليات العولمة في نظام دولي يقوم على أسس وطنية أو قومية. فمن الواضح أن الرئيس ترامب لن يقبل بآليات حرة للعولمة إلا في الحدود التي تسمح له بتطويع هذه الآليات وفق حسابات المصلحة الأميركية وحدها، في وقت تفرض فيه ضرورات النظام العالمي الجديد أخذ مصالح القوى الأخرى في الاعتبار، الأمر الذي قد يلزمه في نهاية المطاف بالدخول في مفاوضات جادة لإصلاح منظومة الأمم المتحدة بما يتناسب ومتطلبات نظام عالمي متعدد القطبية بالضرورة، وهو ما قد يضطر إليه مكرهاً.
* د. حسن نافعة أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة.