المحتويات
محمد الديري
هاشم الأتاسي، ولد عام 1875 ، وتوفي في 5 ديسمبر/كانون الأول 1960، هو ثاني رئيس للجمهورية السورية، في ثلاث فترات بين 21 ديسمبر/كانون الأول 1936 و7 يوليو/تموز 1939 وديسمبر/كانون الأول 1949 و24 ديسمبر/كانون الأول 1951 ثم 1 مارس/آذار 1954 و6 سبتمبر/أيلول 1955، وتاسع حاكم لسوريا منذا الاستقلال عن الدولة العثمانية؛ كما أنه شغل مناصب بارزة في الجمهورية السورية فشكّل الوزارة مرتين عام 1920 و 1949 ورأس المؤتمر السوري العام بين 1919 و1920 والمجلس النيابي عام 1928، وكذلك لجان وضع الدستور الثلاث أعوام 1920 و1928 و1950، وانتخب للنيابة عن حمص عدة مرات.
ينتسب الأتاسي لعائلة غنية ومعروفة في حمص وقد شغل والده خالد الأتاسي منصب مفتي حمص، درس فيها وفي اسطنبول وعمل في ظل الدولة العثمانية في بيروت وحمص، وكان من المقربين من الملك فيصل الأول خلال المملكة السورية العربية ونشط بعد ذلك خلال الانتداب الفرنسي على البلاد كناشط سياسي بارز مطالب بالاستقلال خصوصًا إثر تأسيسه وزعامته لحزب “الكتلة الوطنية” التي لعبت دورًا بارزًا في الحياة السياسية السورية قبل 1963.
حياته المبكرة وأوائل نشاطه:
تعتبر عائلة الأتاسي التي ينتسب إليها من أشهر عائلات حمص الإقطاعية وأكثرها ثراءً، إضافة إلى نشاط سياسي محلي لها منذ عهد الدولة العثمانية. ولد هاشم الأتاسي في 6 ديسمبر/كانون الأول 1875، وتلقى دراسته الابتدائية والثانوية في حمص، ثم انتقل إلى اسطنبول حيث درس الإدارة العامة في الأكاديمية الملكية، وتخرج منها عام 1895.
بداية حياته السياسية كانت في الدولة العثمانية عام 1898 حين تم تعيينه موظفًا مرموقًا في ولاية بيروت العثمانية، وبعد نشوب الحرب العالمية الأولى عام 1914 تم تعيينه محافظًا على حمص وحماة وبعلبك ويافا والأناضول، وإن كانت ولايته أشبه بولاية شرفية. بعد الحرب العالمية الأولى عام 1918 وقف الأتاسي في صف الوطنيين المطالبين بالاستقلال عن الدولة العثمانية، وانتخب عضوًا في المؤتمر السوري العام أول برلمان سوري في التاريخ، ضم أقطار بلاد الشام الأربعة في يونيو/حزيران 1919، وانتخب رئيسًا للمؤتمر.
في 8 مارس/آذار 1920 أعلن قيام المملكة السورية العربية وبويع فيصل الأول ملكًا عليها بإجماع أعضاءالمؤتمر السوري العام، وكلف الأتاسي رئاسة لجنة صياغة دستور المملكة، فأقر في يونيو/حزيران 1920، غير أنه لم يعمل به سوى لفترة قصيرة، بسبب سقوط المملكة.
بعد استقالة حكومة الركابي الثانية، كلّفه الملك فيصل الأول تشكيل الحكومة، فشكلها في 2 مايو/أيار 1920، وبذلك كان ثاني من شغل منصب رئيس الوزراء في سوريا، غير أن عمر حكومته كان قصيرًا، وأحداثها متسارعة، فقد تلقفت الحكومة الإنذار الشهير باسم إنذار غورو ثم قبلته في 13 يونيو، وأعلنت حالة الطوارئ في 15 يونيو/حزيران وأعلنت تطبيقًا لموافقتها على مبادئ الإنذار حل الجيش السوري في 20 يونيو/حزيران وهو ما أدى إلى أحداث احتجاج وشغب في دمشق ومدن أخرى فضلاً عن احتلال المحتجين لقلعة دمشق، وقد استعملت الحكومة الرصاص الحي ما أدى إلى مقتل عشرين متظاهرًا.
لم يقتصر الأمر على ذلك، تذرع هنري غورو قائد الجيوش الفرنسية في الشرق بإنه لم يصله قبول الحكومة بالإنذار، ولذلك زحف إلى دمشق من بيروت في 21 يوليو/تموز والتقى مع بقايا الجيش السوريومتطوعين في معركة ميسلون يوم 24 يوليو/تموز، وعمومًا فإنه حتى لو لم يحل الجيش، لم يكن قادرًا بعتاده المتواضع مواجهة جيوش فرنسا في الشرق، مطلقًا.
دخل الفرنسيون إلى دمشق في 25 يوليو/تموز وانتقلت الحكومة ومعها الملك إلى الكسوة، وقدّمت استقالتها في اليوم نفسه كنتيجة لمعركة ميسلون واحتلال دمشق وتشكلت حكومة برئاسة علاء الدين الدروبي موالية للانتداب، وبعدها بثلاث أيام نفي الملك فيصل وبذلك انتهت المملكة السورية، بعد أن مكث الأتاسي في رئاستها حوالي ثلاث أشهر، رغم ذلك فقد أثبت الأتاسي عن حنكة في الشؤون السياسية، خصوصًا حين عيّن عبد الرحمن الشهبندر المقرب من فرنسا وذو العلاقات البارزة مع ساسة أوروبا بهدف إقامة تحالفات بين المملكة والغرب وكمحاولة لتفادي الانتداب الفرنسي على سوريا، غير أنه قد فشل في مسعاه.
الانتداب الفرنسي:
في أكتوبر/تشرين الأول 1927 اجتمع الأتاسي مع عدد من الناشطين البارزين ممن عرف عنهم مقارعة الانتداب الفرنسي على سوريا ومنهم شكري القوتلي وسعد الله الجابري وفارس الخوري وغيرهم، وأعلنوا ميلاد “الكتلة الوطنية” التي اضطلعت بدور بارز في الحياة السياسية السورية حتى 1963، وشكّل حكومات منفردة عدة مرّات خلال مرحلتي الانتداب والاستقلال.
تشكيل الكتلة الوطنية كان ردًا على حزب الشعب، الذي عرف عنه موالاته للفرنسيين وقد ترأسه عبد الرحمن الشهبندر، وكرد أيضًا على قمع الثورة السورية الكبرى التي انطلقت عام 1925 واستطاع الفرنسيون قمعها في أغسطس/آب 1927 بعد أن زجت مائة وعشرة آلاف جندي فرنسي في سوريا، حيث قال المجتمعون أنه من الممكن نيل استقلال سوريا ووحدتها بالوسائل السلمية بدلاً من المقاومة العنيفة. وقد شملت الكتلة الوطنية التي أسسها الأتاسي إقطاعيين ومحامين وموظفين وطلاب، أي أنها شملت جميع شرائح المجتمع السوري، ليس في حدود “الدولة السورية” التي أعلنها الفرنسيون علىدمشق وحلب فقط عام 1925 بل أيضًا في اللاذقية والسويداء ومناطق أخرى.
انتخب هاشم الأتاسي رئيسًا للكتلة وعضوًا دائمًا في مكتبها، وبعد مفاوضات تاج الدين الحسني مع المفوض الفرنسي هنري بونسو والتي أفضت لانتخابات جمعية تأسيسية لوضع دستور للبلاد عام 1928 رأس الأتاسي هذه الجمعية، وبالتالي وجهت له مهمة وضع الدستور السوري الثاني، وقد نصّ على كون النظام جمهوريًا برلمانيًا.
خلال الاحتجاجات التي شهدتها سوريا خلال عام 1930 ردًا على عدم نشر الدستور والدعوة لانتخابات نيابية، اعتقل الفرنسيون الأتاسي عدة أشهر ونقلوه إلىجزيرة أرواد؛ وعندما دعا الفرنسيون لانتخابات نيابية في سوريا عام 1932، أسفرت الانتخابات عن فوز الكتلة الوطنية بسبعة عشر مقعدًا من بينهم الأتاسي، غير أغلب المؤرخين يرون تلاعبًا قامت به فرنسا في إعلان نتيجة الانتخابات، خصوصًا في حلب حيث سقط إبراهيم هنانو بما وصف “فضيحة الانتخابات” ليفوز نكرات. نتيجة المفاوضات بين الكتل النيابية تم التوصل لاتفاق يقضي بوصول محمد علي العابد رئيسًا للجمهورية كمرشح محايد وتشكيل حكومة مناصفة بين المعتدلين والكتلة الوطنية على أن يرأسها حقي العظم المحسوب على المعتدلين، كذلك فقد انتخب بالتوافق صبحي بركات رئيسًا للمجلس النيابي بواحد وخمسين صوتًا مقابل سبعة عشر للأتاسي.
في 21 ديسمبر/كانون الأول 1935 نظمت الكتلة الوطنية حفل تأبين لمناسبة ذكرى أربعين وفاة إبراهيم هنانو على مدرج الجامعة السورية، وأعلن فارس الخوري خلال الحفل “الميثاق الوطني”، وبدأت في أعقابه الإضرابات والاضطرابات الأمنية الدامية، بينما عجز العابد ومعه حكومة الشيخ التاج عن قمعها.
وقد أغلقت في أعقاب هذه الاحتجاجات مكاتب الكتلة الوطنية فيدمشق وحلب واعتقل عدد من قادتها كسعد الله الجابري فردّ الشعب بإضراب شامل في دمشق ومدن أخرى دام ستين يومًا، واضطر الجيش الفرنسي للانتشار في شوارع المدن الرئيسية وهدد دي مارتيل بقصف دمشق كما حصل عام 1925، وشهدت العراق ولبنان والأردن وفلسطين ومصر مظاهرات مؤيدة للشعب السوري فضلاً عن دعم من بريطانيا، وبنتيجة الضغط الدولي اضطر المفوض الفرنسي لقاء هاشم الأتاسي رئيس الكتلة الوطنية، واتفق معه على تشكيل حكومة جديدة وتشكيل وفد سوري يقوم بالسفر إلى فرنسا للتفاوض حول معاهدة جديدة تضمن حقوق السوريين، وبنتيجة الاتفاق استقالة حكومة الحسني وتشكلت رابع وآخر حكومات عهد العابد برئاسة عطا الأيوبي في 23 فبراير/شباط 1936؛ بعد حوالي شهر في 21 مارس/آذار غادر وفد الكتلة الوطنية إلى فرنسا ومكثت المفاوضات ستة أشهر حتى سبتمبر/أيلول، حين أعلن عن الاتفاق بين الوفد والحكومة الفرنسية في 9 سبتمبر/أيلول ونشرت نصوص مسودة الاتفاق في 22 أكتوبر/تشرين الأول على أن توقع قبل نهاية العام.
ودعا العابد لانتخابات نيابية هي الثانية في تاريخ سوريا فازت بها الكتلة بالأغلبية الساحقة، وكان من النتائج المباشرة للاتفاق بين الكتلة وفرنسا عودة ارتباط دولة جبل العلويين ودولة جبل الدروز بالوطن الأم في 5 ديسمبر/كانون الأول 1936، مقابل احتفاظهما بالاستقلال الإداري والمالي، غير أن نائب جبلة علي أديب عضو برلمان دولة جبل العلويين أعلن تنازل اللاذقية عن استقلالها المالي والإداري لتكون “متساوية مع سائر المحافاظت السورية”، وأيدّه في ذلك سائر النواب وعيّن مظهر باشا أحد أركان الكتلة الوطنية محافظًا عليها.
وقد افتتح البرلمان الجديد أعماله في 21 ديسمبر/كانون الأول 1935 وفي اليوم نفسه أرسل العابد كتاب استقالته إلى المجلس فقبلها، وقد علل العابد سبب استقالته بأسباب صحيّة بينما وجد عدد من المؤرخين أن السبب يرجع لفوز الكتلة الوطنية، وعدم تمكن رئيس محايد من الاستمرار إثر فوز الكتلة بأغلبية ساحقة. وفي الجلسة التي قبلت فيها الاستقالة انتخب هاشم الأتاسي رئيسًا.
الحرب العالمية الثانية:
مع نهاية عام 1938 بات واضحًا أن فرنسا لا تود المصادقة على الاتفاقية وذلك خوفًا على ما يكون عليه الوضع في حال نشبت حرب مع ألمانيا تحت قيادة النازية، كرد على مماطلة فرنسا بالاستقلال وبعد تعذر إقرار قانون للأحوال الشخصية بين المحافظين وخصومهم والتي تطورت لأعمال عنف فضلاً عن سلخ لواء إسكندرون، وكذلك فإن عبد الرحمن الشهبندر ومعه حزب الشعب وكامل القصّاب، كانوا قد حشدوا الشارع للتظاهر ضد الكتلة الوطنية وضد حكم الأتاسي.
بتكالب هذه العوامل قدّم الأتاسي استقالته في7 مايو/أيار 1939 وقال في بيان الاستقالة أن فرنسا تواصل المماطلة حول الاستقلال السوري وسحب كامل الجيوش الفرنسية، فضلاً عن إعلان لواء إسكندرون دولة مستقلة عام 1938 ثم انسحاب الجيوش الفرنسية منه لتدخلها الجيوش التركية عام 1939، وهو ما يصفه المؤرخون برشوة لتركيا كي تبقى على الحياد خلال الحرب العالمية الثانية التي كانت على الأبواب.
بعد استقالته عاد الأتاسي إلى حمص، ورفض المشاركة في النشاط السياسي معلنًا تقاعده. السنوات اللاحقة لم تكن أبدًا بالمستقرة في سوريا، حيث علق العمل بالدستور وأعيد الحكم الفرنسي العسكري المباشر، كما أن الجيش البريطاني احتلّ سوريا مع قوات جيوش فرنسا الحرة بقيادة شارل ديغول، واستمر الوضع طوال فترة الحرب العالمية الثانية على حاله.
يذكر أن شارل ديغول التقى الأتاسي خلال زيارة قام بها إلى حمص ودعاه للعودة عن استقالته، مؤكدًا أن فرنسا بعد نهاية الحرب تود الاعتراف بكامل استقلال سوريا بعد نهاية الحرب، رفض الأتاسي ذلك وقال أن تجربته في الرئاسة أثبتت أنه لا يمكن الوثوق بفرنسا، عمومًا فإنه عام 1941 تمّ تعيين تاج الدين الحسني رئيسًا للجمهورية، وعندما أعيدت الحياة الدستورية وجرت انتخابات نيابية عام 1943 فازت بموجبها الكتلة الوطنية مجددًا، لم يرشح الأتاسي نفسه، بل دعم ترشيح شكري القوتلي أحد زعماء دمشق، رئيسًا للجمهورية، وبالتالي عُرف الأتاسي بوصفه رئيسًا وبوصفه صانعًا للرؤساء.
خلال الأزمة الحكومية عام 1947 عرض القوتلي على الأتاسي أن يغدو رئيسًا للوزراء بحيث يرأس حكومة وحدة وطنية، اشترط الأتاسي في حال قبوله تشكيل الحكومة الحد من صلاحيات الرئيس التي كانت متزايدة بما لا يتوافق وأحوال الجمهورية النيابية، غير أن القوتلي رفض.
في آذار/مارس 1949 تمت الإطاحة بالقوتلي على يد رئيس أركان الجيش حسني الزعيم في أول انقلاب عسكري في الشرق الأوسط، وقد ترأس الزعيم حكومة عسكرية لمدة أربعة أشهر قبل أن يطيح به انقلاب عسكري آخر في أغسطس/آب 1949 بقيادةسامي الحناوي الذي دعا الأتاسي للعودة عن تقاعده وتشكيل حكومة مؤقتة تشرف على انتخابات من شأنها استعادة الحكم المدني.
امتثل الأتاسي لطلب الحناوي وضم حكومة وحدة وطنية تشمل جميع الأطراف بما فيها حزب البعث العربي الاشتراكي حيث مثلهميشيل عفلق بوزارة الزراعة. ثم تمت خلال رئاسته للحكومة صياغة قانون انتخابي جديد، صوتت فيه النساء للمرة الأولى في 15 و16 نوفمبر/تشرين الثاني 1949، وتكونت جمعية تأسيسية انتخب لرئاستها، ثم رشح لولاية ثانية كرئيس للبلاد.
ولايته الثانية:
انتخب الأتاسي رئيسًا للمرة الثانية بإجماع الأعضاء في ديسمبر/كانون الأول 1949، غير أن القلاقل عادت من جديد مع المطالبة بالوحدة مع العراق، وقد تحالف الأتاسي مع حزب الشعب وعين رئيسه ناظم القدسي رئيسًا للوزراء، وافتتحت مفاوضات للوحدة مع العراق.
كذلك فقد شهدت ولايته الثانية إغلاق الحدود مع لبنان بحجة منع تدفق البضائع اللبنانية التي كانت تغرق السوق السورية. طوال 1950 كانت مفاوضات الانضمام إلى العراق تسير قدمًا خصوصًا بعد سفر الأتاسي إلى بغداد ولقاءه فيصل الثاني ملكها، ما أغضب أديب الشيشكلي أحد أبرز قادة الجيش، والذي حذّر الأتاسي من مغبة “استيلاء بغداد على دمشق”، رفض الأتاسي الضغوط العسكرية، فقام الشيكشلي بانقلاب عسكري واعتقل سامي الحناوي وأبرز المتعاطفين مع حزب الشعب، وعدد من الضباط الموالين للعراق في الجيش السوري، ثم طالب بتعيين فوزي السلو وزيرًا الدفاع، لكونه من المقربين منه، بحيث يضمن عدم تأثير موالي العراق على الحكومة.
نتيجة الانقلاب قبل الأتاسي بشروط الشيشكلي الأولى، ومع ذلك طلب من معروف الدواليبي أحد وجوه حزب الشعب تشكيل الحكومة، وقد رفض الدواليبي منح حقيبة الدفاع لفوزي السلو، وبنتيجة ذلك قام الشيشكلي بانقلاب آخر، واعتقل رئيس الوزراء وجميع أعضاء حزب الشعب وجميع الوزراء ورجال الدولة المؤيدين للأسرة الهاشمية، ثم حلّ البرلمان.
احتجاجًا على ذلك قدم الأتاسي استقالته إلى البرلمان المنحل في 24 ديسمبر/كانون الأول 1951، ورفض أن يقدمها للشيشكلي، لكون حكمه غير دستوريًا. وطوال حكم أديب الشيشكلي بين 1951 و1954 قاد الأتاسي معارضة مستترة ضده مؤكدًا أن حكمه غير دستوري.
وبتضافر أنصار الكتلة الوطنية وأنصار حزب الشعب – الذين باتا من الأحزاب المحظورة – إضافة إلى مؤيدي الهاشمية، قامت انتفاضة وطنية من حلب في فبراير/شباط 1954، واعتقل عدنان نجل الشيشكلي، وكرد على ذلك وضع الشيشكلي الأتاسي تحت الإقامة الجبرية، ولم يقم بوضعه في السجن احترامًا لدوره البارز في الحياة السياسية السورية. في 1 مارس/آذار 1954 عاد الأتاسي من حمص إلى دمشق وتابع مهامه كرئيس للجمهورية، كما أعاد مجلس الوزراء ورئيسه معروف الدواليبي، واستعاد أيضًا جميع السفراء والوزراء والبرلمانيين الذين عزلهم الشيشكلي مناصبهم السابقة، وحاول الأتاسي خلال رئاسته الثالثة بكل قوته القضاء على كل أثر لديكتاتورية الشيكشلي التي دامت أربع سنوات.
سنواته الأخيرة:
قضى الأتاسي سنوات حكمه الأخيرة وله من العمر ثمانون عامًا، يحارب نفوذ ضباط الجيش ويسعى للحد من نفوذ الأحزاب اليسارية التي كانت تتنامى في البلاد إلى جانب الاشتراكية والتعاطف مع الاتحاد السوفياتي، وكذلك جمال عبد الناصر، الذي كان يدعمه عدد من وجوه آل الآتاسي من أمثال جمال الأتاسي ونور الدين الأتاسي. واستطاع الأتاسي خلال توليه السلطة تحييد سوريا والحفاظ عليها خارج المعسكر الاشتراكي.
خلافًا لمعظم المفكرين والقادة العرب، كان الأتاسي يعتقد أن جمال عبد الناصر كان صغير السن لقيادة مصر والوطن العربي، وعديم الخبرة فضلاً عن آيديولوجيته الحادة، وعمد الرئيس السوري إلى إجراءات صارمة ضد التيار الناصري في سوريا، ووقع خلاف مع رئيس وزرائه صبري العسلي واتهمه بالسعي لتحويل سوريا إلى “قمر صناعي مصري”. في عام 1955 كان الأتاسي يميل للقبول بحلف بغداد وهو الاتفاقية المرعيّة من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا وتهدف إلى احتواء نفوذ الاتحاد السوفياتي في المنطقة، ولكن الضباط الناصريين في الجيش السوري منعوه من القيام بذلك. وخلال الصراع بين العراق الهاشمي ومصر عبد الناصر وقف الأتاسي إلى جانب العراق وتحالف مع نوري السعيد. وبعد أن أقال العسلي عيّن فارس الخوري رئيسًا للوزراء ليكون بذلك السوري المسيحي الوحيد الذي يتولى منصب رئيس الوزراء. وقد أوفد الأتاسي، رئيس وزرائه الخوري إلى مصر، لتقديم احتجاج لدى الحكومة المصرية على “هيمنة عبد الناصر على الشؤون العربية”.
انتهت ولاية الأتاسي في سبتمبر/أيلول 1955 واعتزل الحياة السياسية وأقام في دار للعجزة. في عام 1956 أدين ابنه عدنان الأتاسي بالتحالف مع العراق لتدبير انقلاب عسكري للإطاحة بشكري القوتلي الموالي لعبد الناصر، وقد حكم على عدنان بالإعدام بتهمة الخيانة العظمى، لكن احترامًا لوالده تم تخفيف الحكم إلى السجن المؤبد. ويعتقد أن الضباط الذي أداروا المحكمة العسكرية قد أصدورا أحكامًا قاسية انتقامًا من الأتاسي خصوصًا لكونه قد كبح جماح السلطة العسكرية خلال ولايتيه الثانية والثالثة، ومع ذلك فقد رفض زيارة ابنه في السجن.
توفي في حمص يوم 6 ديسمبر/كانون الأول 1960 خلال سنوات الجمهورية العربية المتحدة، وكانت جنازته الأكبر في تاريخ المدينة وحضرها جمال عبد الناصر إلى جانب كبار المسؤولين في الدولة، وقد تحققت رؤيته للجمهورية العربية المتحدة إذ انفصلت عام 1961 بعد ثلاثة أشهر من وفاته، وقد انتخب اثنان من أفراد أسرته هما لؤي الأتاسي ونور الدين الأتاسي رئيسين للجمهورية من بعده.
قيل عن الأتاسي بأنه رجل “المبادئ السلمية” والمؤيد “للطرق الدستورية” إلى جانب احترامه لجميع اللاعبين في السياسة السورية، وهو واحد من قلة في الطبقة السياسية السورية من حقبة ما قبل البعث لم ينتقده البعثيون ويشهروا بسيرته بعد وصولهم إلى السلطة عام 1963. وقد نشرت سيرة حياته في سوريا عام 2005 على يد حفيده، غير أنه لم يترك وراءه أي مذكرات يومية، تؤرخ للمرحلة التي تولى خلالها رئاسة البلاد.