سيكون من الإجحاف وانعدام الأمانة المعرفيّة والتّاريخيّة اختزالُ الغرب في واحدٍ من الوجهيْن والحكمُ عليه بإطلاق.
غرب الاستعمار والعنصرية نقيضٌ غرب المدنيّة والمعارف والثورات الديمقراطية ومُجَافٍ لمنطلقاته والأوّل إطارٌ مرجعيّ لمحاكمة الثّاني وفضْح مساره.
مقالتان متقابلتان، في ثقافتنا، منقسمتان على رؤية الغرب هما: مقالةُ الأصالة ومقالةُ الحداثة، وقد تبادلتا الشيوع والظّهور، في تاريخ الوعي العربيّ منذ قرنين
الغرب ليس واحداً، بل ينطوي على تعدّد غزير: غربُ المدنيّة والمعارف والعلوم والثّورات الدّيمقراطيّة غير غرب الاستعمار والعنصريّة والحروب والهيمنة.
كثيرُ ممّا آلَ إليه الغربُ السّياسيّ مصدره مبادئ في الغرب الثّقافيّ لكنّ القصدَ من التّمييز بيانُ الفارقِ بين بنيتيْن لا تُفْهَم الواحدةُ منهما إلاّ في سياقٍ تاريخيّ.
شِدّةُ الاستقطاب الفكريّ والإيديولوجيّ الدّاخليّ واحتدادُ الصّراع بين تيارَي «السّاحةَ» الثّقافيّة والسّيطرةَ عليها، رَدحاً من الزّمن قادت لحالة حرب أهليّة فكريّة.
* * *
بقلم: عبد الاله بلقزيز
يخْلط الكثيرُ من النّاقدين للغرب بين الغرب السّياسيّ والغرب الثّقافيّ – وهما ليسا سواء – فيجمعون بينهما في مفهومٍ كليّ مغلَق هو: الغرب. وعندي أنّ الغرب – مثل الشّرق – ليس واحداً، بل ينطوي على تعدّد غزير، غربُ المدنيّة والمعارف والعلوم والثّورات الدّيمقراطيّة غيرُ غرب الاستعمار والعنصريّة والحروب والهيمنة.
الثّاني نقيضٌ للأوّل ومُجَافٍ لمنطلقاته، والأوّل إطارٌ مرجعيّ لمحاكمة الثّاني وفضْح مساره.
ليس معنى ذلك أنّ التّقابُل بينهما تَقَابُلٌ ثَنَويٌّ مانويّ يوضَع فيه الخيْر مقابل الشّرّ؛ إذِ الكثيرُ ممّا آلَ إليه الغربُ السّياسيّ مَأْتاهُ من مبادئَ في الغرب الثّقافيّ، ولكنّ القصدَ من التّمييز بيانُ الفارقِ بين بنيتيْن لا تُفْهَم الواحدةُ منهما إلاّ في سياقٍ تاريخيّ.
وسيكون من الإجحاف الشّديد، كما من انعدام الأمانة المعرفيّة والتّاريخيّة، اختزالُ الغرب في واحدٍ من ذينك الوجهيْن والحكمُ عليه بإطلاق.
وليس من شكٍّ يخامِرنا في أنّ مثل هذا الاختزال لا يقدِّم شيئاً إلى معرفتنا به كموضوع، سوى تمثّلات إيديولوجيّة جوفاء ومفارِقة للصّورة الكليّة؛ كما أنّه لا وظيفة له سوى تعزيز سرديّةٍ بعينها – قادحة أو مادحة – يحتجّ بها المختزِل في معركته الإيديولوجيّة التي يخوضها مع/وضدّ خصمه.
وغنيّ عن البيان أنّ انقسامَ القولِ في الغرب إلى مقالتيْن سمةٌ مشتركة بين الثّقافات غير الغربيّة كافّة، لا تشذّ عنها الثّقافةُ العربيّة المعاصرة؛ غير أنّ حدّتَه، كانقسامٍ، قد تكون أعلى فيها من غيرها.
وليس مَرَدّ ذلك، حصراً، إلى شدّةِ اتّصالنا بالغرب واتّصالِه بنا، أو إلى ارتفاع درجة الاحتكاك والصّراع بين عالمهِ وعالمنا، بل أيضاً – وأساساً- إلى واقعٍ داخليّ لا يَقْبَل التّجاهُل هو:
شِدّةُ الاستقطاب الفكريّ والإيديولوجيّ الدّاخليّ، واحتدادُ الصّراع بين تياريْن تقاسَما «السّاحةَ» الثّقافيّة والسّيطرةَ عليها، رَدَحاً من الزّمن طويلاً، فقادا إلى ما أسميْتُه – قبل ربع قرن – حالة الحرب الأهليّة الفكريّة.
مقالتان متقابلتان، في ثقافتنا، منقسمتان على رؤية الغرب هما مقالةُ الأصالة ومقالةُ الحداثة، وقد تبادلتا الفشوَّ والظّهور، في تاريخ الوعي العربيّ منذ قرنين، وإنْ كان للأولى منهما حظٌّ من الذّيوع والتّأثير أظْهَر، لم يلبث أن زَادَ معدَّلاً، اليوم، عمّا كَانَهُ أمس.
لا مكانَ لمساحةِ لقاءٍ مع الغرب ونموذجه الحضاريّ في المقالة الأصاليّة؛ فهو، عندها، غربٌ غازٍ مستعمِر، مهيمنٌ وعنصريّ، حاقد على العرب والإسلام، وماديٌّ غرائزيّ، يَكيدُ لنا، ويهدِّد هويَّتنا وذاتيَّتَنَا الحضاريّة، ولا شيء في نموذجه المدنيّ يُغري بالاحتذاء أو حتّى بالاستعارة. من البيّن أنّها مقالةُ مَن يفكّرون من داخل منظومة الفكر الإسلاميّ التّقليديّ، من المناهضين للحداثة.
غير أنّ قسماً آخر من النّخب غير الإسلاميّة يشاطر أصحابَها بعض سرديَّتهم القَدْحيّة عن الغرب، وإنْ من مواقعَ فكريّة وإيديولوجيّة مختلفة، وفي جملة هذا البعض مثقّفون قوميّون ويساريّون لا يقيمون المائزَ الضّروريّ بين الغرب الإمبرياليّ والمدنيّة الغربيّة.
يقابِل تيَّارَ التَّشَرْنُقِ على الذّات وتَلْعِينِ الغرب تيّارٌ يَدْرُجُ، قولاً ومسْلَكاً، على تبجيله والابتِهار في تدبيج المدائح لنموذجه. لكنّه إذ يفعل ذلك، مسكوناً بحماسةٍ تبشيريّة، لا يرى في الغرب إلاّ صورتَه الورديّة– الحضاريّة والثّقافيّة– فيندفع إلى اختزاله فيها، متأبّياً أن يستوقف نفسَه لرؤية الصّورة الأخرى النّكراء؛ لئلاّ تُفْسِد عليه سرديَّتَه الانبهاريّة. وهو، هنا، لا يفعل سوى ما ينزلق إليه خصمُه الثّقافيّ والإيديولوجيّ من نظرةٍ إليه انتقائيّة.
والحقّ أنّ الغربَ هو هذا وذاك معاً؛ في اجتماعهما وتَنَافيهما فيه، وليس يصحّ – في ميزان النّظر العلميّ – تبعيضُهُ وتغليبُ كفّةِ بعضٍ منه على بعض، بل النّظرُ إليه في كلّيّته. ولقد يَكون التّعالي عن النّظرة التّجزيئيّة الانتقائيّة، وتوسّل نظرةٍ كليّةٍ شاملة شأناً ممكناً، بل مطلوباً ومرغوباً، ولو من طريقِ المضاهاة بين الوجهيْن المتعارضيْن فيه.
وعندها، سَيَتّضحُ للمرء أيّ فجوةٍ واسعَة بين «الغربيْن»، وأيّ تَعَدّدٍ تَضَاديّ يقوم عليه كيانُه وتكوينُه. هكذا نكون أدنى إلى الوقوف على حركيّته الدّاخليّة من الإطلال الأحاديّ على واحدةٍ من مساحتيْه المتقاطبتيْن؛ الإطلال الذي تَعْمى به البَصيرةُ من الموقعيْن.
وإذا كان شأنُ المضاهاة أن تسمح بمحاكمة كَريهِ الغربِ بمُضِيئه وبيان مفارقته مقدّماته، فإنّ النّقد هذا –على ضرورته وحاجتنا إليه– لا يكفي، ولا يُعفي من اجتراحِ مَسْلكٍ في النّقد آخرٍ: نَضَع فيه المضيء نفسَه؛ أي ذلك الغرب الحضاريّ والثّقافيّ والأنواريّ، موضِعَ مطالعة نقديّة تُسائِل براديغماته ويقينيّاته ومفاهيمه، وتبحث في بعضها عن تلك «الجراثيم» الأولى التي تَخَلّقتْ منها بَيْضةُ الغرب المتوحّش. وغنيٌّ عن البيان أنّ الجهْد المفترَض بَذْلُه في هذا المَسْلَك الثّاني من النّقد أشقّ ممّا يُصْرَف في مسْلك المضاهاة المقارِن؛ وهو ما لا يعنينا هنا.
* د. عبد الاله بلقزيز كاتب وأكاديمي مغربي
المصدر| الخليج
موضوعات تهمك: