بقلم: د.حسان بالي
لم تواجه أي ثورة شعبية من ثورات الربيع العربي ما واجهته الثورة السورية من تقاعس وتردد من جانب المجتمع الدولي في نصرتها والوقوف إلى جانبها، واليوم تُطرح تساؤلات كثيرة لحل لغز تردد الموقف الدولي عموما والموقف الغربي خصوصا من المساندة الفعالة والحاسمة للثورة السورية على الرغم من إدانته الصريحة لنظام الأسد ومطالبته المتكررة والملحة بالتنحي، وشبه الإجماع الدولي على شرعية مطالب الشعب السوري الثائر وحقوقه في الكرامة والنظام الديمقراطي التعددي، والتي تجلت في قرارات الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة بأوضح الصور. .إضافة الى أن الكثير من المحللين يرون أن الغرب وبصورة خاصة الولايات المتحدة تدرك مصلحتها الاستراتيجية في الانتصار للثورة السورية ضمن النسق العام للتحولات الكبيرة التي جاء بها الربيع العربي والتي لا مفر من القبول بها والإقٌرار بشرعيتها ضمن تطور عام تشهده المنطقة وله طابع حتمي بكل معنى الكلمة، إضافة الى الخصوصية التي يمكن أن تنجم عنها في مواجهة مشروع الهيمنة الإيرانية الذي بات يمثل في أبعاده خطرا متعدد الجوانب لا يمكن لأحد تجاهله.ولو حتى بالحد الأدنى من المواقف العملية الرادعة التي تفرضها المبادئ الكبيرة لحقوق الإنسان، و التي ترسخت إلى حد كبير في العقدين الأخيرين في نسيج المجتمع المدني في مختلف أنحاء العالم. ولاشك أن هذه المبادئ تحولت إلى قواعد عملية يصعب تجاهلها أمام الرأي العام من جانب أي دولة، لاسيما الدول الكبرى والدول المؤثرة في الموقف الدولي حتى وإن عارضت بعض مصالحها مهما كانت.
وقد دفع الشعب السوري المنتفض ثمنا باهظا لهذا الموقف ولازال، ومن المحتمل أن يستمر النزيف لفترة زمنية أخرى.
وبالإضافة الى العوائق الكبيرة المتمثلة في حساسية المواقف خلال الاستعدادات لإعادة انتخاب ثلاثة رؤساء في دول رئيسية على الساحة الدولية وهي روسيا (التي انتهت مؤخرا) وفرنسا والولايات المتحدة والخوف من الانزلاق في حرب قد تضر مؤقتا بفرص النجاح ،هناك كما يدعي كثيرون الوضع الجيوسياسي المعقد والحساس لسوريا الذي يجب أخذه بعين الاعتبار خشية انتشار النار في هشيم المنطقة واندلاع نزاعات دموية قد يصعب السيطرة عليها الى حد كبير، الأمر الذي يحول دون تشجع الغرب على التدخل بصورة حاسمة لوقف حمام الدماء في سوريا ووضع حد الحملات العسكرية الشرسة التي يقوم بها الجيش النظامي وقوات الأمن والشبيحة بحق المتظاهرين السلميين وأفراد الجيش الحر الذين انشقوا عن الجيش عقب أشهر من العنف المفرط بأسلحة خفيفة وذخيرة محدودة جدا يستخدمونها للدفاع المحدود عن سلمية الثورة.
ولابد من الإشارة الى أن هذا التردد يأتي رغم الدروس الواضحة من التاريخ القريب، فقد تطلب الأمر في البوسنة أكثر من ثلاث سنوات من نزيف الدماء المأساوي الذي لا مبرر له حتى تتجاوز واشنطن ترددها وتلجأ إلى القوة العسكرية الحاسمة في البوسنة، ولكن ذلك حدث قبل حوالي جيل من اليوم، عندما كانت فكرة التدخل الإنساني في حرب أهلية مازالت ضعيفة نسبيا .لذا فمن المؤكد أن الأمر لن يطول هذه المرة بعد حوالي 14 شهرا من القمع الدموي للثورة السورية. وهنا لابد من التأكيد على أن الموقف الوحيد الذي يقدره الشعب عاليا في هذه المرحلة هو موقف دول الخليج العربية الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي الذي كان أكثر قوةً وحزماً ضد النظام في دمشق مقارنةً بكافة دول العالم والكثير من الدول العربية؛ فقد قدمت الدول الخليجية الدعم السياسي والمعنوي للشعب السوري المطالب بحريته. وقد تزعمت هذا التوجه المملكة العربية السعودية إضافة الى قطر اللتين أصبحتا في طليعة الدول المطالبة بالتشدد في التعامل مع النظام السوري من خلال دورها الواضح في رفع الملف السوري إلى مجلس الأمن للبت فيه، وتجميد التمثيل الدبلوماسي مع دمشق وغير ذلك.
وخلافاً للموقف من البوسنة، حيث سعت الولايات المتحدة وحلفاؤها في البداية إلى تبني موقفاً محايداً في الحرب الأهلية آنذاك، فإن الولايات المتحدة اختارت هذه المرة الوقوف علنا وبوضوح الى جانب الشعب السوري، حيث دعت الأسد إلى التنحي عن الحكم، وأيدت المعارضة السورية. ولكن ظل الموقف حتى الآن متخلفا إلى حد كبير عما تتطلبه التطورات عامة. ويرى المراقبون أنه على الرغم من الالتزام المعلن من جانب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بالمساعدة على إسقاط الأسد، إلا أنهما يبحثان عن طريقة أقل عنفاً وكلفة لتحقيق هذا الهدف مع العمل الدبلوماسي المكثف لاستجلاب روسيا والصين الى صفهما ومواجهة الضغوط الإسرائيلية المكثفة لحماية نظام الأسد.
ويضاف الى ذلك كله عامل في غاية الأهمية ألا وهو تشرذم المعارضة السورية بين خارجية وداخلية وعدم فعاليتها، واختراق النظام السوري والحكومتان الروسية والإيرانية لصفوف بعض فصائلها وعدم الاتفاق حتى الآن على إطار عام لوحدة الهدف وأسلوب العمل العام لمساندة الثورة استراتيجية وتكتيكا. وهذا ما يفرض مع الأسف عاملا مهما بل حاسما آخر هو عدم وجود حد أدنى من الاقتناع بكفاءة معظم قادة المعارضة بل والمعارضة ككل كي تشكل بديلا مقبولا لنظام الأسد. فقد جاءت النخب المعارضة من العدم السياسي إن صح التعبير، عقب أكثر من أربعة عقود من الإقصاء والتطهير السياسيين وافتقاد تقاليد العمل السياسي لاسيما المعارض. فهم لا يتمتعون لا بالخبرة ولا بالممارسة ولا حتى بالكاريزما الجماهيرية و لم يبرهنوا على قدرة تفاوضية جيدة طبقا لما تتطلبه الأوضاع بالغة الحساسية والتعقيد في المشهد السوري إضافة الى عوامل ذاتية لبعض هؤلاء الذين يتماحكون على “مناصب” حالية و”مستقبلية ” ولا يبذلون الجهد الفعال كما يتطلب الوضع المأساوي الدامي والمشتعل للثورة على مجمل الأراضي السورية والمسؤولية التاريخية الجسيمة في حماية المدنيين السوريين من القمع الدموي الرهيب.
وانطلاقا من ذلك يمكن أن يتمثل الحل في تشكيل حكومة بديلة لا أهمية لما تحمله من تسمية سواء كانت حكومة ظل أو حكومة انتقالية أو حكومة حكماء الخ .. ولكن تتكون من ساسة سابقين مخضرمين ومعروفين تولوا في الماضي مناصب وزارية على الأقل وأن يكونوا من ذوي الأيادي النظيفة والعقول النيرة شريطة ألا يكونوا ضالعين في أي جرائم ضد الشعب وبغض النظر عن اتجاهاتهم السياسية سابقا فالوطن في خطر وإنقاذه والحفاظ على مستقبله ونسيجه الاجتماعي هو أعظم انتماء يمكن لسياسي أو مواطن سوري أن يتشرف به.
وهذا الاقتراح، يريح أولا المجتمع الدولي من إلحاح مشكلة توحيد المعارضة في هذه المرحلة المفصلية أو التحجج بذلك ،ويطمئن ثانيا القوى الدولية والإقليمية المؤيدة لحل يوقف نزيف الدم، ويضمن ثالثا تحقيق أماني الشعب السوري في بناء الدولة الديمقراطية التعددية ، كما يتجاوز رابعا عجز المعارضة الحالية بكافة أجسامها التنظيمية سواء المجلس الوطني أو هيئة التنسيق وغيرها، ويتجنب المواقف الذاتية لبعض أعضاء “أماناتها العامة” و”مكاتبها التنفيذية” وسعيهم للاقتناص وركوب الموجة وتحقيق الشهرة على حساب دماء شباب الثورة والمواطنين المنتفضين في كافة أرجاء الوطن السوري.
ومثل هذه الحكومة التي وإن سوف تضم بصورة أساسية أعضاء تقدم بهم السن وليس لديهم طموحات ذاتية أو طمع في المناصب إلا أنهم سيشكلون ضمانة للتصرف الحكيم والموقف الوطني السليم حيث يأخذون بيد الوطن الى بر أمان الانتقال السلس وتسليم الأمور عقب المرحلة الانتقالية الى صناديق الاقتراع لتحديد مستقبل البلد، وستشكل في الواقع البديل المنشود والمقنع لنظام الأسد للجميع.
وسوريا العظيمة زاخرة حتى في تاريخها الحديث بالكثير من الأسماء المشرفة والمجربة حتى تلك التي تولت مناصب قبل انقلاب حافظ الأسد واستيلائه على السلطة في عام 1970 بل ويمكن الاستعانة بعدد من الوزراء السابقين الذين خدموا في أوائل فترة حكم الأسد الأب والذين يشهد لهم بنظافة الأيدي ووطنية التوجه وهم بحكم التجربة والسن سيكونون في منأى تام على الأرجح عن المطامع الشخصية والانتماءات الحزبية.
ويمكن بسهولة نسبيا الاتفاق على برنامج عمل ومجموعة أهداف من أجل سوريا ومستقبلها وبإشراف من الجامعة العربية والمجموعة العربية الفاعلة المتمثلة بدول مجلس التعاون الخليجي والدول الإقليمية الحريصة على مستقبل آمن وسالم للمنطقة.
والأسماء هنا واضحة تمام الوضوح. وهذه الصياغات ماهي إلا خطوط عامة ويمكن بسهولة الدخول في تفاصيلها إن صدقت النوايا وعُقد العزم.