لم نلحظ أي نشاط احتجاجي يذكر داخل مجتمعنا العربي، ضد حكومة نتنياهو اليمينية، سواء على المستوى الحزبي، أو الجماهيري، أو منظمات المجتمع المدني
قادة المؤسسة السياسية الأهم بين المواطنين العرب في إسرائيل يشعرون بالتآكل الحاصل في مكانتها وبفقدان كثير من مصداقيتها بين المواطنين؛ فهل سيعيدون النظر في أولويات عملهم والتركيز على قضايا وحقوق الجماهير الفلسطينية داخل البلاد، كما جاء في دستور اللجنة، يعني داخل إسرائيل؟ هل فعلا هم قادرون على ذلك؟
كم قلنا مرارا إن مياديننا يجب أن تبقى هنا في الداخل، على طول البلاد وعرضها؛ وكم أكدنا لهم ولنا: أنهم لوحدهم لا يستطيعون، ونحن لوحدنا غير قادرين.
* * *
بقلم: جواد بولس
لقد مرت ثلاثة أسابيع على مصادقة الكنيست الإسرائيلية على حكومة بنيامين نتنياهو، وعلى شروع وزرائها الثلاثين بالعمل، كل وفق حجم حقيبته الوزارية، التي خاطها «الزعيم» بحرفية بهلوانية، محاولا إرضاء أكبر عدد من أتباعه وحلفائه الطامعين في المناصب، وفي مشاركته في صنع التاريخ.
لم تدعنا الحكومة الجديدة ننتظر طويلا، ولا أن نشقى في تكهناتنا حيال وجهتها السياسية العامة، وأهداف برامج عمل وزاراتها الفورية والمستقبلية؛ فمنذ لحظة استلام الوزراء لمناصبهم، شرعوا، كل من موقع سلطته، باستعراض وفائهم لناخبيهم ولكونهم، كما صرحّوا قبيل الانتخابات، حكومة يمينية خالصة، ستسعى إلى تغيير جذري في وضع مؤسسات الدولة، خاصة ما يتعلق بمبنى وصلاحيات المنظومة القضائية على تفرعاتها، وفي مكانة المواطنين العرب، «الذين يجب أن يفهموا من هم أصحاب البيت هنا»، وإن لم يفهموا طوعا فسوف تكون كل الوسائل متاحة في سبيل إقناعهم بهذه الخلاصة. أما على صعيد المناطق المحتلة فجميع الوزراء ملتزمون، كما جاء في الخطوط الأساسية للحكومة، بأن «للشعب اليهودي الحق الحصري، غير القابل للطعن، على جميع أنحاء فلسطين.. وأنه سيتم فرض السيادة على «يهودا والسامرة « مع اختيار الوقت المناسب، ووفقا للحسابات القومية والدبلوماسية المتعلقة بدولة إسرائيل». هكذا سيبقى، كما يبدو، ليل فلسطين طويلا.
ليس من الضروري تحليل ما جاء في وثيقة «الخطوط الاساسية» كي نستشرف مآرب الحكومة الاسرائيلية ومهامها وما تخططه لنا تحديدا؛ إذ يكفي للتيقن من خطورتها أن نتابع قرارات الوزراء المعلنة في الأسابيع الثلاثة الأولى من جهة، ورزمة مشاريع القوانين التي باشرت الكنيست فورا في سنها، من جهة ثانية؛ فجميعها يؤكد أننا نقف على عتبات نظام حكم سياسي جديد لا نعرف كيف وإلى أين ستأخذنا عواصفه، تماما كما أشرنا إليه في الماضي.
نقف! أو ربما معظمنا نائمون
من اللافت أنه على الرغم من مرور هذه الأسابيع، لم نلحظ أي نشاط احتجاجي يذكر داخل مجتمعنا العربي، سواء على المستوى الحزبي، أو الجماهيري، أو من قبل منظمات المجتمع المدني، وهي كثيرة بيننا. والأكثر غرابة هو عجز القيادات السياسية والدينية والاجتماعية البادي للملأ، وصمت التجمعات النخبوية؛ فسوى انتشار بيانات الوعيد وتحذير الحكومة من مغبة سياساتها المتوقعة في حقنا، لم تشهد مياديننا أية مبادرة شعبية جدية، ولا منصاتنا محاولة حقيقية لتناول تداعيات هذه المرحلة السياسية علينا، أو تقييم مخاطرها الوشيكة، وطرح سبل ملموسة لمواجهتها؛ ما عدا قيام البعض بتشخيصها أكاديميا، أو تقريريا على الطريقة النخبوية الحذقة.
قد يكون هذا الغياب المقلق عارضا لما تعاني منه معظم تلك العناوين، على اختلاف أهداف أنشطتها ومسؤولياتها تجاه مجتمعها وبشكل عام. فمنظمات المجتمع المدني مثلا، تعرف أنها أهداف مباشرة لسياسة الحكومة المقبلة، ويخشى بعضها، بسبب ذلك، القيام بأي «تحرش متسرع» فيها، ويلجأون، بدافع غريزة البقاء، إلى اعتماد سياسة التباطؤ والتحفظ «والتعقل».
أما المسؤولية الكبرى عن حالة النكوص والعجز المستحكمين في مجتمعاتنا، فتبقى ملقاة على كاهل المؤسسات القيادية السياسية التمثيلية الأساسية، التي بناها القادة المؤسسون في سبيل أن تقود الجماهير العربية في إسرائيل عند ساعات الحسم لمواجهة سياسات القمع والاضطهاد الفاشيين، التي نتوقع أن تمارسها الحكومة المقبلة. وقفت على رأس هذا الهرم المؤسساتي تاريخيا كل من: «لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في إسرائيل» و»اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية في إسرائيل»، ومن خلالهما وإلى جانبهما نشطت الأحزاب والحركات السياسية والدينية العربية الفاعلة في مواقعنا، حيث كان لبعضها دور ريادي مميز حفظته دفاتر الأيام وذاكراتنا التي لا تنسى.
سوف أعود لاحقا إلى قدرة الأحزاب الأساسية في مواجهة هذه المرحلة، ما لديها وما ليس لديها؛ فضعفها الواضح لا ينعكس في عدم نجاحها بتحريك «الشارع» العربي، كما كان متوقعا في ظل المستجدات السياسية الحالية، وكما كان يحصل في الماضي، وحسب، بل سنجده في ضعف أداء المؤسستين القياديتين الأخريين: «لجنة المتابعة، واللجنة القطرية للرؤساء».
فضعف الأحزاب الكبيرة الأساسية أدى، بشكل طبيعي، إلى ضعف باقي المؤسسات، وحتى إلى شلل بعضها شبه التام، كما حصل مع «لجنة المتابعة العليا» التي نلمس اليوم أكثر من أي وقت مضى، غيابها الكامل عن الفعل السياسي المؤثر لصالح المواطنين العرب، وعدم متابعتها وتأثيرها الإيجابي، المتوقع والمنشود، على الرأي العام المحلي والإسرائيلي.
أقول هذا مشيرا إلى كونها «لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في إسرائيل»، كما يؤكد اسمها الظاهر في رأس الصفحة الأولى من دستورها. من الضروري أن يكتب بموضوعية عن «لجنة المتابعة» أكثر وأكثر؛ فبقاء أدائها على الشكل الحالي ليس من مصلحة المجتمع، وضرورة التفكير في إعادة هيكلتها، وليس عن طريق إجراء انتخابات عامة بين المواطنين العرب، كما يطالب البعض، وإعادة تأهيلها يقع في باب المصلحة المجتمعية العليا.
لست بصدد تعداد الأسباب التي أدخلت هذه المؤسسة القيادية المهمة إلى أزمتها الحرجة؛ فبعض تلك الأسباب يتعلق بتمسك القيّمين على اللجنة وقبولهم تمثيل بعض الأجسام والأحزاب والحركات السياسية المندثرة أو الوهمية غير الموجودة فعليا في الواقع، حيث لا يزيد عدد أعضائها الفعليين عن عدد ممثليها في هيئات اللجنة. وبعض الأسباب الأخرى تستوردها اللجنة من الصراعات بين كوادر الأحزاب مع بعضها، أو الصراعات داخل هيئات الحزب ذاته؛ فجميع تلك الصراعات تتفاعل في أروقة اللجنة وتصيبها بالوهن وتتسبب بإبعاد الناس عنها وبالتوقف عن إيمانهم بدورها وبمصداقيتها.
لقد غابت أخبار عمل معظم اللجان المدنية المهنية الاختصاصية المنبثقة عن لجنة المتابعة، وبقيت أخبار «لجنة الحريات المنبثقة عن لجنة المتابعة» الناشطة في متابعة «قضايا الحركة الأسيرة في الداخل» هي أبرز الأخبار التي تكاد تذكر بوجود «لجنة المتابعة العليا»؛ وهذه اللجنة، على الرغم من أهمية نشاطها بالنسبة لشرائح معينة في المجتمع، ليست من أهم أولويات شرائح أخرى واسعة من المواطنين.
أعتقد أن قادة المؤسسة السياسية الأهم بين المواطنين العرب في إسرائيل يشعرون بالتآكل الحاصل في مكانتها وبفقدان كثير من مصداقيتها بين المواطنين؛ فهل سيعيدون النظر في أولويات عملهم والتركيز على قضايا وحقوق الجماهير الفلسطينية داخل البلاد، كما جاء في دستور اللجنة، يعني داخل إسرائيل؟ هل فعلا هم قادرون على ذلك؟
لا يغيب عن ذهني أن بعضا من هذا الصمت الرائج بين المواطنين العرب في إسرائيل، وحتى داخل كوادر الأحزاب والحركات الإسلامية، مرده إيمان هؤلاء بأن الحرب الأهلية بين اليهود باتت وشيكة؛ فدعوهم يقتتلون ويسجنون ويقتلون بعضهم بعضا. أنا لست من هذه الفرق، لأنني تعلمت من دروس التاريخ أن نيران مثل تلك الحروب كانت بحاجة إلى حطب خاص ومختلف؛ ونحن، في هذه البلاد، سنكون ذلك الحطب. فحي على العمل وحي على الفلاح.
في المقابل، فرحت لأن كثيرين مثلي لا يؤمنون بنظرية الحرب الاهلية اليهودية الوشيكة، كخيار لخلاصنا من القريب الآتي؛ وكان من بين هؤلاء النائب أيمن عودة الذي شارك كخطيب، في مطلع الأسبوع الجاري، من على منصة مظاهرة الألوف في تل أبيب؛ فعساها تكون الخطوة الجبهوية الأولى في مسيرة الألف خطوة على طريق النضال الضروري. كذلك كانت مبادرة «اللجنة القطرية لرؤساء المجالس العربية» التي بعثت باسم جميع الرؤساء العرب برسالة غاضبة لرئيس الحكومة نتنياهو تحذره فيها من سياسات القمع المخطط لها؛ ودعته، وهذا المهم، إلى عقد جلسة عمل شاملة وتفصيلية، في أقرب وقت ممكن بينه وبين ممثلي اللجنة القطرية كهيئة وحدوية جماعية تمثيلية لجميع رؤساء السلطات العربية في البلاد. فهذه مبادرة لافتة ومهمة وبحاجة إلى متابعة وإصرار.
كم قلنا مرارا إن مياديننا يجب أن تبقى هنا في الداخل، على طول البلاد وعرضها؛ وكم أكدنا لهم ولنا: أنهم لوحدهم لا يستطيعون، ونحن لوحدنا غير قادرين.. مهما صرخنا في رام الله أو نابلس أو القدس أو في أحلامنا: «وين وين وين الملايين»…
* جواد بولس كاتب فلسطيني
المصدر: القدس العربي
موضوعات تهمك: