هبة عبد الرحمن سليم… فتاة لم يكن يتجاوز عمرها الثلاثين لمع اسمها في عالم الجاسوسية في السبعينيات … لكنها
صُنفت أخطر جاسوسة بعد ان جندها جهاز الاستخبارات الإسرائيلي “الموساد”،وتم تجنيدها لنقل معلومات عن الجيش
المصري في الفترة ما بين حربي يونيو 1967 وأكتوبر 1973.
حصلت هبة في عام 1968 على شهادة الثانوية العامة ، ثم ألحت على والدها الذى كان يعمل وكيل وزارة بالتربية
والتعليم من أجل السفر إلى باريس لإكمال تعليمها ،ولم يستطيع والدها أن يمحو أوهامها ولأنها تعيش في حي المهندسين
وتحمل عضوية في نادي “الجزيرة”
وعندما حصلت على الثانوية العامة ألحت على والدها للسفر إلى باريس لإكمال تعليمها الجامعي، وأمام ضغوط الفتاة
الجميلة وافق الأب وهو يلعن هذا الوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه ولأنها درست الفرنسية منذ طفولتها فقد كان من
السهل عليها أيضاً أن تتأقلم بسرعة مع هذا الخليط العجيب من البشر،و فى الجامعة تعرفت بفتاة يهودية من أصول
بولندية ودعتها ذات يوم الى منزلها، وهناك التقت بلفيف من الشباب اليهود.
وبعد لقاءات مع الشباب اليهودي ، استطاعت هبة أن تستنتج أن إسرائيل قوية جدًا وأقوى من كل العرب، وهذا ما جعلها
تفكر في خدمة إسرائيل رافضة المال الذي قدموه لها.
وأعلنت وقتها أنها تكره الحرب، وتتمنى لو أن السلام عم المنطقة، و أطلعتها زميلتها على فيلم يصور الحياة الاجتماعية
في إسرائيل، و الحياة في “الكيبوتس” ووصفت لها كيف أنهم ليسوا وحوشًا آدمية كما يصورهم الإعلام العربي، بل هم
أناس على درجة عالية من التحضر والديموقراطية.
آمنت هبة أيضاً بأن العرب يتكلمون أكثر مما يعملون. وقادتها هذه النتائج إلى حقد دفين على العرب وثقت هبة أيضاً في
أحاديث ضابط الموساد الذي التقت به في شقة صديقتها وأوهمها باستحالة أن ينتصر العرب على إسرائيل وهم على
خلاف دائم وتمزق خطير ، في حين تلقى إسرائيل الدعم اللازم في جميع المجالات من أوروبا وأمريكا.
كانت هذه الأفكار والمعتقدات التي اقتنعت بها الفتاة سبباً رئيسياً لتجنيدها للعمل لصالح الموساد ، دون إغراءات مادية أو
عاطفية أثرت فيها، مع ثقة أكيدة في قدرة إسرائيل على حماية “أصدقائها” هكذا عاشت الفتاة أحلام الوهم والبطولة،
وأرادت أن تقدم خدماتها لإسرائيل طواعية ولكن.. كيف؟
فقط تذكرت فجأة المقدم فاروق الفقي الذي كان يطاردها في نادي الجزيرة، وإظهار إعجابه الشديد ورغبته الملحة في
الارتباط بها
وتذكرت وظيفته الهامة في مكان حساس في القوات المسلحة المصرية وفي أول أجازة لها بمصر. . كانت مهمتها
الأساسية تنحصر في تجنيده ، وكان الثمن خطبتها له ، وفرح الضابط العاشق بعروسه وبدأت تدريجياً تسأله عن بعض
المعلومات والأسرار الحربية ، وبالذات مواقع الصواريخ الجديدة التي وصلت من روسيا ، فكان يتباهى أمامها بأهميته
ويتكلم في أدق الأسرار العسكرية، ويجيء بها بالخرائط زيادة في شرح التفاصيل.
أرسلت هبة سليم على الفور بعدة خطابات إلى باريس بما لديها من معلومات ولما تبينت إسرائيل خطورة وصحة ما تبلغه
هذه الفتاة لهم اهتموا بها اهتماماً فوق الوصف ، وبدؤوا في توجيهها إلى الأهم في تسليح ومواقع القوات المسلحة وبالذات
قواعد الصواريخ والخطط المستقبلية لإقامتها، وسافرت هبة إلى باريس مرة ثانية تحمل بحقيبتها عدة صفحات ، دونت
بها معلومات غاية في السرية والأهمية للدرجة التي حيرت المخابرات الإسرائيلية.
فماذا سيقدمون مكافأة للفتاة الصديقة ؟
سؤال كانت إجابته عشرة آلاف فرنك فرنسي حملها ضابط الموساد إلى الفتاة ، مع وعد بمبالغ أكبر وهدايا ثمينة وحياة
رغدة في باريس ، رفضت هبة النقود بشدة وقبلت فقط السفر إلى القاهرة على نفقة الموساد بعد ثلاثة أشهر من إقامتها
بباريس.
ولم يكن المقدم فاروق الفقي بحاجة إلى التفكير في التراجع، إذ أن الحبيبة الرائعة هبة كانت تعشش بقلبه وتستحوذ على
عقله ، ولم يعد يملك عقلاً ليفكر، بل يملك طاعة عمياء وعندما أخذها في سيارته الفيات 124 إلى صحراء الهرم ، كان
خجولاً ويتبعها أينما سارت وسقط ضابط الجيش المصري في بئر الخيانة ، ليصير في النهاية عميلاً للموساد تمكن من
تسريب وثائق وخرائط عسكرية
موضحاً عليها منصات الصواريخ “سام 6? المضادة للطائرات التي كانت القوات المسلحة تسعى ليلى نهار لنصبها
لحماية مصر من غارات العمق الإسرائيلية.
ولاحظت القيادة العامة للقوات المسلحة ولجهازي المخابرات العامة والحربية أن مواقع الصواريخ الجديد تدمر أولاً
بأول بواسطة الطيران الإسرائيلي حتى قبل أن يجف الأسمنت المسلح بها، وحودث خسائر جسيمة في الأرواح ، وتعطيل
في تقدم العمل وإنجاز الخطة التي وضعت لإقامة حائط الصواريخ المضادة للطائرات.
تزامنت الأحداث مع وصول معلومات لرجال المخابرات المصرية بوجود عميل “عسكري” قام بتسريب معلومات
سرية جداً إلى إسرائيل ، وبدأ شك مجنون في كل شخص ذي أهمية في القوات المسلحة، وفي مثل هذه الحالات لا
يستثنى أحد بالمرة بدءاً من وزير الدفاع.
“اتسعت دائرة الرقابة التليفزيونية والبريدية لتشمل دولاً كثيرة أخرى، مع رفع نسبة المراجعة والرقابة إلى مائة في
المائة من الخطابات وغيرها، كل ذلك لمحاولة كشف الكيفية التي تصل بها هذه المعلومات إلى الخارج.
كما بدأت رقابة قوية وصارمة على حياة وتصرفات كل من تتداول أيديهم هذه المعلومات من القادة، وكانت رقابة لصيقة
وكاملة ، وقد تبينت طهارتهم ونقاءهم ، ثم أدخل موظفو مكاتبهم في دائرة الرقابة ومساعدوهم ومديرو مكاتبهم ، وكل من
يحيط بهم مهما صغرت أو كبرت رتبته.
وفي تلك الأثناء كانت هبة سليم تعيش حياتها بالطول وبالعرض في باريس وعرفت الخمر والتدخين وعاشت الحياة
الأوروبية بكل تفاصيلها ، لقد نزفت عروبتها نزفاً من شرايين حياتها، و تهللت بشراً عندما عرض عليها ضابط الموساد
زيارة إسرائيل، فلم تكن لتصدق أبداً أنها مهمة إلى هذه الدرجة، ووصفت هي بنفسها تلك الرحلة قائلة:
“طائرتان حربيتان رافقتا طائرتي كحارس شرف وتحية لي.”
وهذه إجراءات تكريمية لا تقدم أبداً إلا لرؤساء وملوك الدول الزائرين في مطار تل أبيب كان ينتظرني عدد من الضباط
اصطفوا بجوار سيارة ليموزين سوداء تقف أسفل جناح الطائرة وعندما أدوا التحية العسكرية لي تملكني شعور قوي
بالزهو.
واستقبلني بمكتبه مائير عاميت رئيس جهاز الموساد ، وأقام لي حفل استقبال ضخماً ضم نخبة من كبار ضباط الموساد
على رأسهم مايك هراري الأسطورة وعندما عرضوا تلبية كل “أوامري” طلبت مقابلة جولدا مائير رئيسة الوزراء التي هزمت العرب ومرغت كرامتهم ، ووجدت على مدخل مكتبها صفاً من عشرة جنرالات إسرائيليين أدوا لي التحية العسكرية ..
وقابلتني مسز مائير ببشاشة ورقة وقدمتني إليهم قائلة: “إن هذه الآنسة قدمت لإسرائيل خدمات أكثر مما قدمتم لها جميعاً
مجتمعين”.
وبعد عدة أيام عدت إلى باريس وكنت لا أصدق أن هذه الجنة “ إسرائيل” يتربص بها العرب ليدمروها!!
وفي القاهرة . كان البحث لا يزال جارياً على أوسع نطاق، والشكوك تحوم حول الجميع، إلى أن اكتشف أحد مراقبي
الخطابات الأذكياء “من المخابرات المصرية” خطاباً عادياً مرسلاً إلى فتاة مصرية في باريس سطوره تفيض
بالعواطف من حبيبها.
لكن الذي لفت انتباه المراقب الذكي عبارة كتبها مرسل الخطاب تقولن أنه قام بتركيب إيريال الراديو الذي عنده ذلك أن
عصر إيريال الراديو قد انتهى. إذن .. فالإيريال يخص جهازاً لاسلكياً للإرسال والاستقبال.
وانقلبت الدنيا في جهازي المخابرات الحربية والمخابرات العامة وعند ضباط البوليس الحربي، وتشكلت عدة لجان من
أمهر رجال المخابرات، ومع كل لجنة وكيل نيابة ليصدر الأمر القانوني بفتح أي مسكن وتفتيشه ، وكانت الأعصاب
مشدودة حتى أعلى المستويات في انتظار نتائج اللجان، حتى عثروا على جهاز الإيريال فوق إحدى العمارات ، واتصل
الضباط في الحال باللواء / مدير المخابرات الحربية وأبلغوه باسم صاحب الشقة ، فقام بإبلاغ وزير الدفاع الذي قام بدوره
بإبلاغ الرئيس السادات.
حيث تبين أن الشقة تخص المقدم فاروق الفقي ، وكان بحكم موقعه مطلعاً على أدق الأسرار العسكرية، فضلاً عن دوره
الحيوي في سيناء وكان الضابط الجاسوس أثناء ذلك في مهمة عسكرية بعيداً عن القاهرة.
وعندما اجتمع اللواء مدير المخابرات بقائد الضابط الخائن. رفض القائد أن يتصور حدوث خيانة بين أحد ضباط مكتبه ،
خاصة وأن المقدم فاروق يعمل معه منذ تسع سنوات، بل وقرر أن يستقيل من منصبه إذا ما ظهر:أن رئيس مكتبه
جاسوس للموساد ، وعندما دخل الخائن إلى مكتبه كان اللواء / نائب مدير المخابرات الحربية ينتظره جالساً خلف مكتبه
بوجه صارم وعينين قاسيتين فارتجف رعباً وقد جحظت عيناه وقال في الحال “هو أنتو عرفتوا؟؟”.
وعندما ألقى القبض عليه استقال قائده على الفور، ولزم بيته حزيناً على خيانة فاروق والمعلومات:الثمينة التي قدمها للعدو
، وفي التحقيق اعترف الضابط الخائن تفصيلياً بأن خطيبته جندته وأنه رغم إطلاعه على أسرار عسكرية كثيرة إلا أنه لم
يكن يعلم أنها ستفيد العدو ، وعند تفتيش شقته أمكن العثور على جهاز اللاسلكي المتطور الذي يبث من خلاله رسائله،
وكذا جهاز الراديو ونوتة الشفرة، والحبر السري الذي كان بزجاجة دواء للسعال ، ضبطت أيضاً عدة صفحات تشكل
مسودة بمعلومات هامة جداً معدة للبث، ووجدت خرائط عسكرية بالغة السرية لأحشاء الجيش المصري وشرايينه، تضم
مواقع القواعد، الجوية والممرات والرادارات والصواريخ ومرابض الدفاعات الهامة.
وفي سرية تامة قدم سريعاً للمحاكمة العسكرية التي أدانته بالإعدام رمياً بالرصاص ، واستولى عليه ندم شديد عندما
أخبروه بأنه تسبب في مقتل العديد من العسكريين من زملائه من جراء الغارات الإسرائيلية ، وأخذوه في جولة ليرى
بعينه نتائج تجسسه ، فأبدى استعداده مرات عديدة لأن يقوم بأي عمل يأمرونه به.
ووجدوا بعد دراسة الأمر بعناية أن يستفيدوا من المركز الكبير والثقة الكاملة التي يضعها الإسرائيليون في هذا
الثنائي ، وذلك بأن يستمر في نشاطه كالمعتاد خاصة والفتاة لم تعلم بعد بأمر القبض عليه والحكم بإعدامه.
وفي خطة بارعة من مخابراتنا الحربية، أخذوه إلى فيلا محاطة بحراسة مشددة، وبداخلها نخبة من أذكى وألمع رجال
المخابرات المصرية تتولى “إدارة” الجاسوس وتوجيهه، وإرسال الرسائل بواسطة جهاز اللاسلكي الذي أحضرته له
الفتاة ودربته عليه.وكانت المعلومات التي ترسل هي بالطبع من صنع المخابرات الحربية، وتم توظيفها بدقة متناهية في تحقيق المخطط للخداع، حيث كانت حرب أكتوبر قد اقتربت، وهذه هي إحدى العمليات الرئيسية للخداع التي ستترتب عليها أمور
إستراتيجية مهمة بعد ذلك.
لقد كان من الضروري الإبقاء على هبة في باريس والتعامل معها بواسطة الضابط العاشق، واستمر الاتصال معها بعد
القبض عليه لمدة شهرين، ولما استشعرت القيادة العامة أن الأمر أخذ كفايته ، وأن القيادة الإسرائيلية قد وثقت بخطة
الخداع المصرية وابتلعت الطعم، تقرر استدراج الفتاة إلى القاهرة بهدوء ، لكي لا تهرب إلى إسرائيل إذا ما اكتشف أمر خطيبها المعتقل.وفي اجتماع موسع.. وضعت خطة القبض على هبة ، وعهد إلى اللواء ومعه ضابط آخر بالتوجه إلى ليبيا لمقابلة والدها
في طرابلس حيث كان يشغل وظيفة كبيرة هناك ، وعرفاه على شخصيتهما وشرحا له أن ابنته هبة التي تدرس في باريس
تورطت في عملية اختطاف طائرة مع منظمة فلسطينية، وأن الشرطة الفرنسية على وشك القبض عليها ،
وما يهم هو ضرورة هروبها من فرنسا لعدم توريطها، ولمنع الزج باسم مصر في مثل هذه العمليات الإرهابية.
وطلبا منه أن يساعدهما بأن يطلبها للحضور لرؤيته حيث أنه مصاب بذبحة صدرية ، أرسل الوالد برقية عاجلة
لابنته:فجاء ردها سريعاً ببرقية تطلب منه أن يغادر طرابلس إلى باريس ، حيث إنها حجزت له في أكبر المستشفيات هناك
وأنها ستنتظره بسيارة إسعاف في المطار ، وأن جميع الترتيبات للمحافظة على صحته قد تم اتخاذها.
ولكي لا تترك المخابرات المصرية ثغرة واحدة قد تكشف الخطة بأكملها ، فقد تم إبلاغ السلطات الليبية بالقصة الحقيقية،
فتعاونت بإخلاص مع الضابطين من أجل اعتقال الجاسوسة المصرية ، وتم حجز غرفة في مستشفى طرابلس وإفهام
الأطباء المسئولين مهمتهم وما سيقومون به بالضبط وبعدما أرسل والدها رداً بعدم استطاعته السفر إلى باريس لصعوبة
حالته صح ما توقعه الضابطان إذ حضر شخصان من باريس للتأكد من صحة البرقية وخطورة المرض، وسارت الخطة
كما هو مرسوم لها، وذهب الإسرائيليان إلى المستشفى وتأكدا من الخبر، فاتصلا في الحال بالفتاة التي ركبت الطائرة
الليبية في اليوم التالي إلى طرابلس.
وعلى سلم الطائرة عندما نزلت هبة عدة درجات كان الضابطان المصريان في انتظارها ، وصحباها إلى حيث تقف
الطائرة المصرية على بعد عدة أمتار من الطائرة الليبية.
فسألتهما :
إحنا رايحين فين ؟
فرد أحدهما:
المقدم فاروق عايز يشوفك.
فقالت:
هو فين ؟.
فقال لها:
في القاهرة.
صمتت برهة ثم سألت:
أمال إنتم مين ؟
فقال اللواء :
إحنا المخابرات المصرية.
وعندما أوشكت أن تسقط على الأرض.. أمسكا بها وحملاها حملاً إلى الطائرة التي أقلعت في الحال، بعد أن تأخرت
ساعة عن موعد إقلاعها في انتظار الطائرة القادمة من باريس بالهدية الغالية ، لقد تعاونت شرطة المطار الليبي في تأمين
انتقال الفتاة لعدة أمتار حيث تقف الطائرة المصرية ، وذلك تحسباً من وجود مراقب أو أكثر صاحب الفتاة في رحلتها
بالطائرة من باريس قد يقدم على قتل الفتاة قبل أن تكشف أسرار علاقتها بالموساد.
وبلا شك فاعتقال الفتاة بهذا الأسلوب الماهر جعلها تتساءل عن القيمة الحقيقية للوهم الذي عاشته مع الإسرائيليين ، فقد
تأكدت أنهم غير قادرين على حمايتها أو إنقاذها من حبل المشنقة وهذا ما جعلها تعترف بكل
شيء بسهولة بالتفصيل ، منذ أن بدأ التحقيق معها في الطائرة بعد إقلاعها مباشرة.
وبعد أيام قليلة من اعتقالها تبين لها وللجميع عجز الإسرائيليين عن حماية إسرائيل نفسها وعدم قدرتهم على إنقاذها.
فقد جاءت حرب أكتوبر وتدمير خط بارليف بمثابة الصدمة التي أذهلت أمريكا قبل إسرائيل ،فالخداع المصري كان على
أعلى مستوى من الدقة والذكاء. وكانت الضربة صائبة غذ أربكت العدو أشلته ، لولا المدد العسكري الأمريكي..
والأسلحة المتطورة.. والصواريخ السرية. . والمعونات. . وإرسال الطيارين والفنيين الأمريكان كمتطوعين.
لقد خسرت إسرائيل في ذلك الوقت من المعركة حوالي مائتي طائرة حربية ، ولم تكن تلك الخسارة تهم القيادة
الإسرائيلية بقدر ما خسرته من طيارين ذوي كفاءة عالية قتلوا في طائراتهم، أو انهارت أعصاب بعضهم ولم يعودوا
صالحين للقتال.
ولقد سبب سقوط الطائرات الإسرائيلية بالعشرات حالة من الرعب بعد عدة أيام من بدء المعركة ، إلى أن وصلت
المعونات الأمريكية لإسرائيل في شكل طيارين وفنيين ووسائل إعاقة وتشويش حديثة.
تبخرت أوهام الجاسوسة هبة سليم وأيقنت أنها كانت ضحية الوهم الذي سيطر على فكرها وسرى بشرايينها لمدة طويلة
للدرجة التي ظنت أنها تعيش الواقع من خلاله ، لكن ها هي الحقائق تتضح بلا رتوش أو أكاذيب ،
لقد حكم عليها بالإعدام شنقاً بعد محاكمة منصفة اعترفت صراحة أمامها بجريمتها ، وأبدت ندماً كبيراً على خيانتها
وتقدمت بالتماس لرئيس الجمهورية لتخفيف العقوبة ولكن التماسها رفض.
وكانت تعيش أحلك أيامها بالسجن تنتظر تنفيذ الحكم ، عندما وصل هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي –
اليهودي الديانة – لمقابلة الرئيس السادات في أسوان في أول زيارة له إلى مصر بعد حرب أكتوبر ، وحملته جولدا
مائير رسالة إلى السادات ترجوه تخفيف الحكم على الفتاة ، ومن المؤكد أن كيسنجر كان على استعداد لوضع ثقله كله
وثقل دولته خلف هذا الطلب.
وتنبه الرئيس السادات الذي يعلم بتفاصيل التحقيقات مع الفتاة وصدور الحكم بإعدامها ، إلى أنها ستصبح مشكلة كبيرة
في طريق السلام ، فنظر إلى كيسنجر قائلاً:
“تخفيف حكم؟ .. ولكنها أعدمت.. !!”
دهش كيسنجر وسأل الرئيس: “متى.. ؟”
ودون أن ينظر لمدير المخابرات الحربية قال السادات كلمة واحدة: “النهارده”.
وفعلاً .. تم تنفيذ حكم الإعدام شنقاً في هبة سليم في اليوم نفسه في أحد سجون القاهرة.
أما الضابط العاشق المقدم فاروق عبد الحميد الفقي فقد استقال قائده من منصبه لأنه اعتبر نفسه مسئولا عنه
بالكامل ،وعندما طلبت منه القيادة العامة سحب استقالته، رفض بشدة وأمام إصرار القيادة على ضرورة سحب استقالته ، خاصة
والحرب وشيكة. .اشترط القائد للموافقة على ذلك أن يقوم هو بتنفيذ حكم الإعدام في الضابط الخائن.
ولما كان هذا الشرط لا يتفق والتقاليد العسكرية وما يتبع في مثل هذه الأحوال ، فقد رفع طلبه إلى وزير الدفاع “
الحربية” الذي عرض الأمر على الرئيس السادات “القائد الأعلى للقوات المسلحة” فوافق فوراً ودون تردد.
وعندما جاء وقت تنفيذ حكم الإعدام رمياً بالرصاص في الضابط الخائن ، لا أحد يعرف ماذا كان شعور قائده وهو يتقدم
ببطء يسترجع في شريط سريع تسع سنوات
مرت عليهما في مكتب واحد ، تسع سنوات كان بعضها في سواد الليل وبعضها تتلألأ خلاله ومضات الأمل قادمة من
بعيد ، الأمل في الانتصار على اليهود الخنازير القتلة السفاحين..
وبينما كان يخطط لحرب أكتوبر كان بمكتبه هذا الخائن الذي باع الوطن والأمن وقتل بخيانته أبرياء ، لا أحد يعرف ماذا
قال القائد له وماذا كان رد الضابط عليه لا أحد يعرف.
هل طلب منه أن ينطق بالشهادتين، وأن يطلب المغفرة من الله؟. . . لا أحد يعرف.
لكن المؤكد أنه أخرج مسدسه من جرابه وصوبه على رأس الضابط وأطلق طلقتين عليه كما تقضي التعليمات العسكرية
في حالة الإعدام.
أما الأيام الأخيرة في حياة هبة سليم فسجلها الكاتب أكرم السعدني على صفحات مجلة “روزاليوسف” نقلًا عن مأمور
سجن النساء الذي أكد أنه أدرك منذ اللحظة الأولى التى رآى فيها هبة أنه أمام فتاة تم تدريبها على أعلى مستوى ممكن
من قبل جهاز الموساد.
وقال” وجدتها بالفعل على درجة من الحذر والحيطة لم أعهدهما في أي إنسان من قبل مع أن عمرها لم يتجاوز في هذا
التوقيت 25 عاما وكان التقرير الذى تسلمناه بشأنها قبل تسلمها فى سجن القناطر يفيد بأنها شخصية شديدة الخطورة وأن
هناك احتمالًا قويًا لقيام أحد أجهزة المخابرات الأجنبية بعملية انتحارية لاختطاف هبة سليم.
وأضاف: لم يظهر على هذه البنت ذات الخمسة وعشرين ربيعا أي مظهر للقلق أو الاكتئاب.. وفي الغالب فإن هذه الفتاة
كانت مختلفة فى كل شيء.. فالمحكوم عليه بالإعدام دائمًا ما تجده يعيش كل لحظة مما تبقى له في الحياة وهو يقرأ القرآن
ويدعو الله أن يغفر له ما اقترفه من ذنب ولكن هبة كانت تقضي وقتها كله فى التزين ولبس الباروكات وكان عددها
«6»، ورش غرفتها بالمبيدات الحشرية والتعطر بالبارفانات الباريسية، لقد كانت أمور الحياة هي شاغلها وليس الموت
الذى أصبحت على بعد أيام منه بعد صدور الحكم بإعدامها.. ولكن هبة لم تكن تعترف بهذا الحكم وهي تؤكد لي: أن هناك
قوى فى الغرب ليست إسرائيل وحدها سوف تجبر القيادة في مصر على إخلاء سبيلي.. وقامت هبة بالفعل بإرسال
التماس إلى الرئيس السادات لمنحها عفوًا رئاسيا وكذلك قامت بإرسال خطاب إلى السيدة جيهان السادات عن طريق
المجلس الأعلى للمرأة، وبالطبع لم نعلم شيئا عن هذه الخطابات لكونها أرسلتها عن طريق أقاربها وليس عن طريق إدارة
السجن ووزارة الداخلية.
وقد أردت التحقق من هذه المعلومات وبالفعل بلغنا أنها أرسلت التماسا إلى السيد الرئيس أنور السادات وأن الالتماس
رفض وأصبح الحكم واجب النفاذ!!
ويضيف الضابط: علمنا من مصادر رفيعة في الوزارة أن العد التنازلى بدأ وأن ساعة الصفر اقتربت ومعنى هذا أن علينا
القيام ببعض الخطوات المهمة والضرورية لإعداد المحكوم عليه لعملية الإعدام ومنها معرفة وزن المحكوم بالضبط،
حيث إن بعض المساجين داخل السجن يزداد وزنهم والبعض الآخر ينقص وزنه.. وهذه الخطوة يتم على أساسها تحديد
الحبل المناسب لعملية الإعدام من حيث السمك والطول.
ويستطرد: بات علينا أن نجهز للخطوة الثانية، وهي إعداد مأمورية ترحيل على أعلى مستوى من السرية والتأمين لنقل
المحكوم عليها إلى سجن الاستئناف حيث لم يكن بسجن القناطر للنساء غرفة للإعدام وعليه كان لا بد من نقل السجينة
إلى سجن الاستئناف على بعد 40 كم.
وفى حالة معرفتها بالأمر فهي معرضة إما لنوبات هيستيرية أو صحية قد تؤثر على توقيت عملية الإعدام.. وهنا وحتى لا
يتسرب الخبر إلى أي من العاملين بالسجن أو خشية من أن يقوم أحد ضعاف النفوس بتسريب الخبر إلى هبة فقد
أحضرتها إلى مكتبي في الصباح الباكر وقلت لها إن ما سوف أخبرها به أمر على درجة عالية من السرية.. أومأت
برأسها.. فأكملت وقلت: لقد وردنا للتو إخطار يفيد بضرورة ترحيل المسجونة هبة سليم على الفور إلى القاهرة للبت في
الالتماس المقدم منها إلى السيد رئيس الجمهورية، وساعتها انفجرت ينابيع السعادة على وجه هبة التى قالت: أنا أكدت لك
من قبل أنني لن أخرج من هنا إلى حبل الإعدام ولكن إلى مطار القاهرة إن شاء الله.. وأنا أنظر إليها للمرة الأخيرة قلت:
طالما سيتم النظر في الالتماس أتصور أننا ربما لن نلتقي ثانية.. أتمنى لك رحلة طيبة وهي تبتسم قالت: حاولت أن أشرح
لك أنني لست جاسوسة ولكن أنا أعمل من أجل الحفاظ على الجنس البشري من الدمار وخلفي دول ومؤسسات دولية
تدعمني.. وهنا استأذنت وانصرفت فأخذتها حارستها الشخصية في تمام الساعة السابعة صباحا وبدأ الموكب يتحرك وقد
تم تأمين الطريق بالكامل من قبل كل الأجهزة الأمنية في الدولة، وقد رافق هبة أحد الزملاء الأفاضل وهو المقدم فوزي
الذي تحول إلى سمّيع طوال ساعة كاملة وهبة تتكلم فيها وليست معه ولكنها سألت عن الشخصية التي سوف تلتقى ولم
تلق ردًا.. فخمنت وقالت ربما السيدة جيهان السادات.
ويكمل: لم يستطع فوزي أن يفتح فمه بكلمة واحدة لأسباب نفسية، فالضابط في النهاية بشر وإنسان ولديه مشاعر
وأحاسيس فهو يقتاد فتاة في مقتبل العمر كي ينفذ فيها حكم الإعدام شنقا.. وكان المقدم فوزي يفكر في الحياة والموت وما
يفصل هذه الفتاة عن حبل المشنقة إنه الطريق من القناطر إلى الاستئناف.. وفجأة انقطع هذا السيل من الكلام الذي
انساب على لسان هبة وتوقف هذا الشلال من التفكير الذي دار في عقل فوزي، وبمجرد أن دخلت السيارة إلى سجن
الاستئناف صمتت هبة وهي ترقب المشهد المرعب وبعد ذلك وهي تتفقد اللجنة المشكلة لتنفيذ الإعدام، وهي مكونة من
رئيس النيابة العسكرية ومفتش مصلحة السجون ومندوب الأمن العام وطبيب السجن والواعظ الديني.. وهنا بلغت هبة
نقطة الانقلاب في المزاج وفي التوازن وفي التفاؤل الذي كان، وفي الأمل الذى انعقد على قبول الالتماس، كل ذلك انقلب
إلى النقيض ودخلت في الانهيار وبدأت تهذي وتتساءل عن الالتماس وعن منظمات حقوق الإنسان وعن رئيس الجمهورية
والسيدة حرمه وموشى ديان وجهاز الموساد الذي لا يتخلى مطلقا عن أبنائه المخلصين.
ويكمل: تم اقتياد هبة إلى فناء الدور الأرضي بسجن الاستئناف أمام حجرة الإعدام واصطفت اللجنة والحراس وبدأ
المأمور يتلو ملخص حيثيات الحكم وما تبعه من استنفاد طرق الطعن وتصديق رئيس الجمهورية على التنفيذ ثم تلا بعد
ذلك ساعة وتاريخ التنفيذ وسألها ممثل النيابة عما إذا كان لها مطالب فلم تجب ثم أعاد سؤالها فقالت: أين الالتماس المقدم
للسادات فتقدم الواعظ لإنطاقها بالشهادة وتم اقتيادها لغرفة تنفيذ الحكم.
ويكمل الضابط شهادته بالقول إنه “بعد أيام من الإعدام بلغنا ما هو أهم من ذلك.. وهي معلومة ينبغى أن نسجلها للتاريخ
فقد صارحنا أحد الأصدقاء الذى كان يشغل منصبا رفيعا بجوار الرئيس أن السادات في أحد لقاءاته مع مناحم بيجين
رئيس وزراء إسرائيل طرح اسم هبة سليم وطالب الرئيس السادات أن يبدي بعضا من حسن الصنيع لإسرائيل بمنح هبة
عفوا رئاسيا.. ولكن السادات عظيم الدهاء أكد لبيجن أن هذه الفتاة قد نفذ فيها حكم الإعدام بالفعل وأن الأمر لم يصل إلى
وسائل الإعلام بعد!! حتى يقطع أي طريق على بيجين لطرح مزيد من الأسئلة حول هبة وحتى لا تتحول إلى ورقة
للضغط أو المساومة، وبعد هذا اللقاء مباشرة جاء أمر رئاسى باستعجال تنفيذ الحكم على مواطنة مصرية ارتكبت جريمة
الخيانة العظمى للوطن.
أما عن عملية إعدام هبة.. فيؤكد ضابط سجن القناطر أنه لم يحضرها ولكن صديق له حضرها.. وحكى له أن السجان بدأ
يربط يديها من الخلف ووضع الطاقية السوداء على رأسها ثم قام بوضعها على طبلية الإعدام انتظارا لإشارة مأمور
التنفيذ.. ويضيف: أستطيع أن أقول أنه بمجرد فتح الطبلية تشعر بأن قلبك سقط فى قدميك.. أما العشماوي فإن اسمه
الرسمي الجلاد ومساعده أذكره جيدا حتى يومنا هذا واسمه فتحي سلطان، كلما فتح طبلية الإعدام جلس على الأرض
وطلب سيجارة ودخل في نوبة اكتئاب طويلة.. والحق أقول إنني عانيت خلال الـ12 عملية إعدام التى حضرتها من نفس
هذه الأعراض.
وكالات
عذراً التعليقات مغلقة