بقلم: أحمد موفق زيدان
كنت أحد الإعلاميين القلائل المحظوظين ممن غطوا العقدتين الروسيتين في أفغانستان وسورية. ثلاثة عقود تفصل بين التجربتين. لكن، يبدو أن لا مياه جرت أبداً، فقد أسنت المياه الروسية، إذ لا تزال العقلية نفسها تتحكم في الكرملين، الفرق الوحيد ربما بين العقدتين الأفغانية والسورية هي الجغرافيا، فبينما أفغانستان كانت على حدود الاتحاد السوفياتي قبل تشظيه، سورية بعيدة جغرافياً، لكنها قريبة استراتيجياً، ما دام الحلم الروسي القديم الجديد هو نفسه الوصول إلى المياه الدافئة، حلم الإمبراطورة كاثرين الثانية. هذا الحلم سعت إليه القيادة الروسية القديمة الجديدة مهما كانت التكاليف، وتحقق لها ببناء قاعدة بحرية في طرطوس السورية المطلة على البحر الأبيض المتوسط لصيانة الأسطول الروسي في البحر الأسود، وما تردد عن تجسسها ورصدها الاتصالات في الدول المجاورة.
يبدو أن العقود الثلاثة التي مرّت على الدرس الأفغاني، وعلى رغم تداعياتها المرئية وغير المرئية الكبيرة التي كلفت روسيا الكثير مادياً وبشرياً، لا تزال روسيا مصرة على فرض نظام شمولي ديكتاتوري على الشعب السوري، يحكم البلاد بقبضة من حديد منذ فرضه حال الطوارئ عام 1963 التي استمرت حتى قبل أشهر، فرفع النظام الحال تحت ضغط الثورة السورية ليستبدلها بقانون مكافحة الإرهاب الذي هو أشد وأنكى من الأولى. وفي ظل تحكم عصابات الشبيحة بتلابيب الحياة السورية العملية على الأرض، لا معنى للقانون ولا معنى للدستور، ما دام مَن ينفذ على الأرض ومن يدير البلد مليشيات خارجة عن القانون.
النظام السوري لجأ إلى استخدام الأسلحة الثقيلة من طيران ودبابات ومدفعية وراجمات صواريخ، وهي أسلحة متفق على عدم استخدامها بحق المدنيين حتى في ظروف الحروب بين الأعداء المتحاربين. ويستخدم النظام الأرض المحروقة حقيقة وفعلاً، إذ تابع الجميع حرقه غابات ضخمة على الحدود السورية – التركية وسط صمت عالمي مريب، وحتى منظمات الحفاظ على البيئة لم تدنْ هذا العمل البربري.
في حمص التي يبلغ عدد سكانها ثلاثة ملايين، قبل الحملة الوحشية الدموية عليها، لم يبقَ فيها – وفق الناشطين وشهود عيان – سوى 10 في المئة من أهلها الحقيقيين، وقضى في هذه الهجمة البربرية على سورية كلها – وفق إحصاءات الثورة السورية – أكثر من 18500 شخص، من بينهم 1400 طفل و1450 سيدة، واغتصبت المئات من السيدات، وغني عن الذكر أن ما حصل لحمص هو صورة لما يحصل في كل المدن والبلدات السورية تقريباً.
القانون يظل نظرياً وفي الأدراج… ما لم تتوافر له البيئة والنظام والأشخاص الجيدون الذين ينفذونه، إذ لا يوجد قانون حتى في أعتى الديكتاتوريات، سيئ، وإنما القوانين والدساتير كلها جميلة ولا ينقصها شيء في الغالب، فيما الإشكالية تكمن في تطبيقها والجهات التي تطبقها. وإن كانت عناصر الشبيحة التي هي أصلاً فوق القانون من يطبق القانون ويرعاه، لك أن تتخيل النتائج أو تراها في سورية اليوم، وهو ما دفع منظمات حقوقية عالمية، مثل «هيومان رايتس ووتش» و «العفو الدولية» إلى توثيق هذه الجرائم، ودفع معها مفوضة لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة نافي بيلاي، إلى المطالبة برفع الملف السوري إلى الجنائية الدولية مرتين من دون جدوى.
أحاول الآن رسم مقاربة بين أفغانستان وسورية، ففي بداية الحرب الأفغانية لعبت باكستان دور القاعدة الخلفية للمجاهدين والمهاجرين الأفغان، تماماً كهانوي بالنسبة للفيتناميين، وهو ما تلعبه نظيرتها أنطاكيا التركية الآن والواقعة على الحدود مع سورية، إذ توفر أنطاكيا المأوى والطعام والرعاية الصحية لأكثر من 30 ألف لاجئ وضابط وجندي منشق عن كتائب الأسد، يقاتلون كتائب الأسد في كل أرجاء سورية، ولعل الطوبوغرافيا تتشابه بين التجربتين من حيث الجبال والوديان والطبيعة الخلابة.
كان رد الاستخبارات الأفغانية الشيوعية المدعومة روسياً على باكستان حينها، القيام بتنفيذ أعمال تخريبية وإرهابية بحق المدنيين في المدن عقاباً على توفير هذا الدعم، وذلك عبر استخدام عملاء باكستانيين يتفقون معها في الأيديولوجية. الرد نفسه تكرر في الحال السورية اليوم من خلال استخدام النظام السوري حزب العمال الكردستاني، لتنفيذ هجمات إرهابية داخل المدن التركية، ربما الفارق بين الحالين أن الاستخبارات الأفغانية لم تخذل عملاءها في بيشاور، بينما في الحال السورية خذل نظام الأب حافظ الأسد حزب العمال الكردستاني حين أبعد زعيمه عبدالله أوجلان تحت تهديد تركي عام 1999 بالاجتياح، فكان التسليم في كينيا، ومع هذا عاد الحزب إلى التنسيق مع النظام السوري، ولم ينسق معه فقط بتنفيذ عمليات إرهابية في تركيا، وإنما يقوم الآن بدور التشبيح من خلال قمع التحرك الكردي في ريف حلب والجزيرة السورية عبر قمع المنتفضين وحرق ممتلكاتهم.
تركيا تنظر إلى سورية كبوابة اقتصادية وسياسية لها إلى العالم العربي، وهو السياق التاريخي الذي أدركته منذ دخلت سورية أيام العثمانيين عام 1516 بمعركة مرج دابق قرب حلب مع المماليك، فكانت بالفعل بوابة الولوج العثماني إلى العالم العربي. تركيا اليوم تعاني من وجود دول معادية لها على حدودها بدرجات متفاوتة، مثل اليونان وإيران والعراق وسورية، وهو ما بدد نظرية وزير خارجيتها أحمد داود أوغلو (صفر مشاكل) مع الجيران، ما دام الجيران بمعظمهم تتحكم بهم إيران التي لها علاقات عدائية تاريخية مع تركيا.
الدعم الخليجي:
بمقارنة الواقع السوري مع الأفغاني، نلاحظ أن الدول الخليجية في شكل خاص والعالم العربي في شكل عام تقريباً، وقفت موقفاً ثابتاً وراسخاً في دعم المجاهدين الأفغان، وهو ما يتكرر اليوم بدعم الثورة السورية. وصل الأمر إلى قطع الدول الخليجية علاقاتها الديبلوماسية مع النظام السوري، وهو الأمر الذي لم يحصل في ذروة العداء الخليجي مع نظام صدام حسين، ما يعكس كله مدى الإصرار الخليجي على التخلص من الأسد ونظامه.
وفي الحال الأفغانية استنفر الإسلاميون كل قواهم وقدراتهم في الثمانينات من أجل دعم المجاهدين الأفغان، وتحولت بيشاور إلى حاضنة ومحج لكل هذه النشاطات، وهو ما يتكرر اليوم في أنطاكيا التي تلعب الدور نفسه تقريباً.
في مؤتمر الأمة الذي عقد في اسطنبول قبل أيام بحضور وزير الأوقاف الدينية التركي والمئات من العلماء من عرب وعجم بمن فيهم علماء من باكستان، كلهم أكدوا التضامن مع الثورة السورية. وجدد الوزير التركي موقف بلاده القائل بضرورة التخلص من نظام الأسد، متعهداً بدعم الثورة السورية والشعب السوري، وحاضاً الشعب العربي والإسلامي على تقديم كل ما يستطيع للثورة السورية، وهي الأجواء نفسها التي عهدناها من قبل أيام الجهاد الأفغاني من تضامن الحركات الإسلامية والعلماء والدعاة.
على الساحة الدولية، نرى دعماً غربياً للانتفاضة السورية – وإن كان بخطى بطيئة – ستكون له تداعيات سلبية، وربما يتطور إلى مصائب كبرى على الغرب والعالم برمته إن تواصلت سياسة الخطى البطيئة الغربية في التعاطي مع الوضع السوري الذي يزداد تفاقماً، فالأمم المتحدة تلعب دوراً – كالعادة – يتلخص بإمساك العصا من الوسط. وحين أرسلت مراقبيها ليراقبوا الوضع عن قرب، ويتحققوا من تطبيق خطة أنان ذات النقاط الست التي وافقت عليها الأمم المتحدة، ظلت تصريحاتهم تساوي الجلاد بالضحية، والقاتل بالمقتول، والمساواة بين من يستخدم المروحيات والدبابات والمدفعية وراجمات الصواريخ وارتكاب الفظائع بحق الآمنين، وبين من يدافع عن نفسه بأسلحة خفيفة ومتوسطة في أحسن الحالات. وساوى المراقبون والوسيط الدولي كوفي أنان بين الدول التي ترسل شحنات أسلحة ثقيلة وتتورط حتى الآذان في دعم النظام السوري، كروسيا وإيران، وبين عمليات تهريب الأسلحة الخفيفة من دول مجاورة لسورية للدفاع عن النفس، بعد أن شهد رئيس النظام نفسه بشار الأسد بأن الأشهر الستة الأولى من الثورة كانت سلمية.
لقد فشلت الأمم المتحدة في تحميل مسؤولية المجازر في الحولة والقبير ودرعا واللطامنة وإدلب للنظام السوري وهي على الأرض، بل فشلت حتى في تحميل النظام مسؤولية مهاجمة فريقها في خان شيخون والحفة، ولا ندري ما الذي سيقوله أنان نفسه عن سورية بعد سنوات؟ وهو الذي قال عن مجزرة سربرينتسا حين كان أميناً عاماً للأمم المتحدة: «هذه المذبحة سيظل شبحها يلاحق الأمم المتحدة». وبعد مجزرة راوندا، قال أيضاً: «كان علي أن أفعل الكثير لكسب الدعم الدولي لمنع وقوع المذبحة».
الخطورة في الأمر أن اللاثقة التي تتملك الشعب السوري تجاه الأمم المتحدة والوساطة الدولية، هي تماماً ما عاشه الشعب الأفغاني من قبل، حين استمرت المفاوضات سنوات، وإن كانت حينها مبررة لوجود قوات سوفياتية محتلة على أرض أخرى مع أجواء الحرب الباردة، لكن المشترك بينهما مراعاة حساسيات القوى الدولية والإقليمية على حساب الدم السوري المهرق، وقبله الأفغاني، وهو الأمر الذي تسبب في أفغانستان بتغليب الحل العسكري، ودخول المجاهدين كابول في الوقت الذي كان الوسيط الدولي بينون سيفان منهمكاً بترتيب مرحلة ما بعد نجيب الله ولكن في الفنادق الفخمة، وهو ما قد يحصل في سورية، وهو ما لمح إليه أخيراً رئيس فريق المراقبين روبرت مود الموظف من قبل مجلس الأمن ولا حول له ولا قوة.
تعاون مبكر مع إيران:
التنسيق الروسي – الإيراني الذي جرى في الأيام الأخيرة لحكم نجيب الله، والمساعي المحمومة لتأمين حصة أكبر للأقلية الشيعية وكذلك للطاجيك، تتكرر اليوم في سورية بعد تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن معارضته لحكم السنّة في سورية، والدعم الإيراني اللامحدود للنظام السوري، ومعه دعم جماعاتها للنظام السوري.
إطالة أمد الأزمة والتسويف في حلها ربما عنصر مشترك آخر بين أفغانستان وما يجري في سورية، وهو ما يقود في الغالب إلى حال من الجمود يأمل ربما الكبار أن تدفع إلى مساومات وتنازلات من كلا الطرفين. ولكن، في الغالب حالات الجمود هذه – لا سيما إن كانت بين نظام متوحش وثورة شعبية عارمة – تصل نقاط احتجاجاتها يوم الجمعة إلى 700 نقطة غالباً، ما يدفع إلى بروز قوى أكثر تشدداً لكسر هذا الجمود. حدث هذا حين كسر الجمود السياسي بدخول القائد أحمد شاه مسعود عسكرياً إلى كابول، وألقى الجميع بخطة سيفان والأمم المتحدة خلف ظهورهم، وعاد لاحقاً حين وقع الجمود العسكري في القتال بين مقاتلي زعيم الحزب الإسلامي قلب الدين حكمتيار وأنصار برهان الدين رباني ومعه أحمد شاه مسعود، فبرزت حركة طالبان الأفغانية الأكثر تشدداً، وكسرت الجمود العسكري وحيّدت كلا القوتين، وهو ما قد يتكرر في سورية، لا سيما في ظل تعطش السوريين وتطلعهم إلى من يقدر على كسر قوة النظام والتخلص من المعاناة المستمرة منذ 16 شهراً، وفي هذه الحال قد يكون البديل مكلفاً داخلياً وخارجياً، ويجعل القوى العظمى والإقليمية تحن إلى أيام الجيش الحر والمجلس الوطني.
حين نتحدث عن المآلات والنتائج مع امتداد الأزمة، فإن ما حصل في أفغانستان هو أن تحولت إلى جرح نازف، كما وصفه ميخائيل غورباتشوف من قبل، ليغدو لاحقاً جرحاً متقيحاً، ألحق الضرر كما نعرف جميعاً، بالدول المجاورة وغير المجاورة، إذ تحولت أفغانستان إلى مركز زلزال لأحداث الـ11 من أيلول (سبتمبر)، وهو ما قد يتكرر على مستويات أضخم نظراً إلى الموقع الجيوبولوتيكي السوري وقربه من إسرائيل.
المجتمع الدولي مسؤول في شكل مباشر عن حال التباطؤ وعدم الاكتراث في التعاطي مع الوضع السوري الخطير، والغرب في شكل خاص لا يزال يعيش عقلية التعاطي نفسها مع أفغانستان، عقلية الربح السريع والرخيص، متناسياً أن سياسة التجاهل هذه ستكلفه الكثير، وما حصل في أفغانستان من إهمال لعقود جعل الغرب يصحو فجأة على بروز مفاجئ للقاعدة وطالبان هناك.
وفي المحصلة، فإن كل المحاولات اليائسة التي بذلتها روسيا للبقاء في أفغانستان ذهبت أدراج الرياح، وفشلت في فرض حكام غير مقبولين شعبياً في أفغانستان، وهو ما يتكرر اليوم في سورية، ربما الفارق هو أن قوة الرأي العام في ظل الثورات العربية اليوم ينبغي أخذها بالاعتبار أضعافاً مضاعفة عن تلك الأيام. كل ذلك لم يجلب لروسيا سوى العداء الأفغاني والسوري، والعجيب أن ما جُرّب في أفغانستان من مصالحة وطنية وتشكيل وزارة خاصة بها، وتكتيكات عسكرية سورية متبعة، هي نفسها التي جربتها روسيا في أفغانستان وفشلت، ومع هذا يتم تجريبها اليوم.
إن روسيا ورّثت للأجيال الروسية المقبلة عداوة الشعبين الأفغاني والسوري، وذكريات العرب والمسلمين، والمجازر التي ارتكبتها في أفغانستان لا تزال حية. ولكن، تسعى روسيا اليوم إلى إحيائها من جديد في سورية، ربما اللافتة التي رفعها أهالي كفرنبل بإدلب شمال سورية تعكس منسوب العداء السوري لروسيا، لا سيما بعد حرق العلم الروسي، فقد حملت اللافتة عبارة تقول: «الشعب الأفغاني مزق وفتت الاتحاد السوفياني، ونحن في سورية سنفتت روسيا بإذن الله».
كل شيء يشير إلى أن روسيا لم تتعلم شيئاً من أخطائها الماضية، وما تقوم به في سورية تماماً كما يقول المثل الإنكليزي: «خمر قديم في زجاجات جديدة». لكن، نأمل، إن كانت روسيا تكرر أخطاءها، بألا يكرر الغرب أخطاءه الأفغانية في سورية.