يسود اعتقاد واسع أن القوات المسلحة المصرية تلعب دورا مؤثرا، بل وربما مهيمنا، في الاقتصاد القومي إذ أنه من الثابت أن القوات المسلحة تدير اقتصادا موازيا يقوم بإنتاج العديد من المنتجات الاستهلاكية من الغذاء والألبان والقمح إلى الاسمنت والأسمدة وتوزيع مشتقات البترول كما يحضر الجيش بقوة في قطاع.
البنية الأساسية والمرافق العامة مثل الطرق والموانئ والكباري والأنفاق. على أنه خلافا للاعتقاد الشائع فإن المعلومات المتوفرة والتي يمكن الثقة في صدقيتها ـ على ندرتها ـ تشير إلى أن الجيش بالفعل حاضر في العديد من القطاعات الاقتصادية إلا أنه لا يحتل موضع السيطرة في أي منها كما أنه يغيب بشكل يكاد يكون تاما عن قطاعات اقتصادية هامة. ويضاف لهذا إلى أنه ليست هناك أدلة قوية بأن اقتصاد الجيش يزاحم أو يقصي شركات القطاع الخاص اللهم إلا في حالات ترسية العطاءات الحكومية، وبالأخص في حالة المشروعات القومية الكبرى التي أسند غالبها لشركات تابعة للجيش في أعقاب يوليو 2013.
وبينما لا تبدو مشكلة دور الجيش الاقتصادي ماثلة في مزاحمة القطاع الخاص في القطاعات الإنتاجية المختلفة، فإن الإشكال الحقيقي يقع في تحويل الجيش سيطرته القانونية والفعلية على الأصول المملوكة للدولة إلى عائد في صورة ريع، وينطبق هذا خاصة على الأراضي العامة، الصحراوية في الغالب، والتي تمثل نحو 94٪ من إجمالي مساحة مصر إذ يقوم الجيش بترجمة صلاحياته التنظيمية الواسعة إلى عوائد اقتصادية ذات طابع ريعي لا إنتاجي كما يمتلك الجيش تأثيرا كبيرا على تخطيط وإدارة الأراضي العامة في الجهاز البيروقراطي المدني من خلال شبكات واسعة من العسكريين السابقين.
إن الأراضي العامة ـ الصحراوية في الأساس ـ عنصر جوهري لتحقيق النمو الاقتصادي والتنمية في قطاعات هامة مثل التنمية العقارية والتصنيع والسياحة والزراعة، والتي تمثل مجتمعة جل الاقتصاد المصري، ويؤدي التحكم الخانق في الأراضي الصحراوية إلى تكبد الاقتصاد ككل لتكاليف باهظة، وذلك لأن تعقد وغموض البيئة التنظيمية والقانونية للنفاذ إلى الأراضي يقلل من كفاءة وفعالية عمل القطاع الخاص على نحو يفضي إلى ارتفاع تكلفة الفرص الضائعة للنمو والتوسع المحتملين اقتصاديا وسكانيا، خاصة في بلد مكتظ كمصر ربما تمثل فيه المساحات الصحراوية الممتدة شرق وغرب وادي النيل المنفذ الوحيد للتوسع المستقبلي.
اقتصاد الجيش المدني “صغير”
لقد قيل الكثير حول اقتصاد الجيش الموازي والذي يمتد لقطاعات عدة من بينها الزراعة والصناعة والخدمات، وتفيد المصادر القليلة التي يمكن إيلاؤها بعض الثقة بأنه على الرغم من الحضور المتشعب للأنشطة المملوكة للجيش إلا أن نصيب شركات الجيش فعليا صغير نسبيا، ولا يقارن بنصيب القطاع الخاص في غالبها، سواء أكان القطاع الخاص المصري أو الأجنبي، وتشير الدلائل إلى أن إستراتيجية التوسع الاقتصادي للجيش تقوم على تأمين حصص سوقية لا للهيمنة أو السيطرة على قطاعات اقتصادية.
لقد كان الدافع الأصلي وراء إنشاء الجيش لاقتصاد مدني مواز هو الحاجة لتوفير الإمداد والتموين اللازم لجيش كثيف عددا ما يخلق له احتياجات استهلاكية واستثمارية بشكل مستمر، وبجانب هذا العامل فإن القوات المسلحة قد سعت إلى تعويض تناقص نصيبها من الإنفاق العام منذ توقيع اتفاق السلام مع إسرائيل في 1979 عن طريق البحث عن مصادر بديلة للإيرادات، وذلك لأن الدولة في خضم أزمتها المالية منذ منتصف الثمانينيات قد سعت إلى التخفيف من عبء الإنفاق العسكري على كاهلها من خلال تمكين الجيش من تحقيق عوائد اقتصادية بشكل مباشر عن طريق الدخول إلى أسواق جديدة أو بإنشاء شراكات مع رأس المال العربي أو الأجنبي.
يتجلى هذا عند النظر إلى جهاز مشروعات الخدمة الوطنية التابع للقوات المسلحة المصرية ، وهو هيئة تابعة للجيش نشأت بموجب القرار الجمهوري رقم 32 لسنة 1979، ويهدف الجهاز بحسب موقعه الرسمي إلى “تحقيق الاكتفاء الذاتي النسبي من الاحتياجات الرئيسية للقوات المسلحة لتخفيف أعباء تدبيرها عن كاهل الدولة مع طرح فائض الطاقات الإنتاجية في السوق المحلي والمعاونة في مشروعات التنمية الاقتصادية في الدولة من خلال قاعدة صناعية متطورة”. ويمتلك جهاز مشروعات الخدمة الوطنية 21 شركة تعمل في قطاعات مدنية متنوعة من البناء والمقاولات إلى الزراعة والمنتجات الغذائية وصناعة الأعلاف والأسمدة والإسمنت وإدارة الفنادق وخدمات الأمن والحراسة بجانب محطة بنزين “وطنية”.
وبالاعتماد على البيانات الرسمية التي وفرها الجهاز لأول مرة على الإطلاق في إطار استعراضه لمشاركته في “خطة الدولة في التنمية الشاملة” من خلال بيان تم توزيعه على المراسلين العسكريين في مايو 2015، يمكن الوقوف على الحجم النسبي لعمليات الجهاز، علما بأن البيان كان يهدف لإظهار أهمية مشاركة الجيش من خلال شركات الجهاز في تحقيق التنمية وتدعيم خطة الدولة، ما يعني انتفاء الاتجاه نحو التقليل من وزنه النسبي، في ظرف سياسي يتصدر فيه الجيش الحكم بشكل غير مباشر، ويقوم على تنفيذ مشروعات التنمية الكبرى ودعم نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي.
تعد الإحصاءات الصادرة عن الجهاز الخاصة بالإنتاج والتوزيع المصدر الوحيد المتاح لتحديد نصيب شركاته ـ ولو بشكل مجمل ـ في بعض القطاعات الاقتصادية الهامة. ففي الزراعة يقوم الجهاز
باستصلاح وزراعة مائة ألف فدان في منطقة شرق العوينات بالصحراء الغربية حيث يتركز القسم الأكبر من مزارع القوات المسلحة، وتنتج تلك المزارع نحو 78 ألف طن من القمح سنويا (2013) و156 طن من زيت الزيتون و25 ألف طن من منتجات الألبان بالإضافة إلى 2000 طن من اللحوم الحمراء ونحو 30 مليون بيضة سنويا، وتمتلك نحو 16 ألف رأس ماشية، ونحو 60 ألف طن من الأعلاف الحيوانية. وتستخدم تلك المنتجات في تموين عدد من الشركات المملوكة للجهاز والتي تنافس في أسواق المنتجات الاستهلاكية الغذائية، ومنها شركة “صافي” للمياه المعدنية، وقد بلغ إنتاجها السنوي نحو 37 مليون زجاجة في 2014.
وبجانب السلع الاستهلاكية فإن جهاز مشروعات الخدمة الوطنية يمتلك شركة العريش للأسمنت والتي تنتج ما يتراوح بين 2.5 و3 مليون طن اسمنت سنويا (مايو 2014)، كما تضطلع شركة النصر للكيماويات الوسيطة بإنتاج الأسمدة، وبلغ إنتاجها نحو 150 ألف طن سنويا لصالح قطاع الزراعة.
توحي الصورة أعلاه بأن الجيش يملك اقتصادا مدنيا موازيا في قطاعات كالزراعة والصناعة والخدمات، ولكن مقارنة الكميات التي تم الإفصاح عن إنتاجها من قبل شركات الجهاز بحجم الإنتاج الكلي في مصر حسبما تفيد بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء لسنوات 2012 و2013 تظهر أن اقتصاد الجيش المدني في تلك القطاعات جد محدود مقارنة بنصيب القطاع الخاص الوطني كيما الأجنبي. ويوضح الجدول أدناه حصص شركات جهاز الخدمة الوطنية التقريبية.
المصادر: كميات الإنتاج الخاصة بشركات جهاز المشروعات الوطنية مأخوذة عن البيان العسكري والمنشور بجريدة اليوم السابع بينما البيانات الخاصة بالكميات الكلية للإنتاج مأخوذة عن بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء مدعومة ببيانات من بعض الصحف ذات التخصص الاقتصادي، والبيانات الخاصة بزيت الزيتون مأخوذة عن المجلس الدولي لزيت الزيتون ، والبيانات الخاصة بحصة شركة صافي في المياه .المعدنية مأخوذة عن موقع “يورومونيتور انترناشيونال”. أما العمود الثالث فمن حساب الباحث
تؤشر الأرقام أعلاه على أمرين: إن الجيش يمتلك بالفعل اقتصادا مدنيا موازيا، وهو ما قد يكون مبررا في ضوء حجم القوات المسلحة، والتي يبلغ قوامها نحو نصف المليون، والحاجة لتأمين متطلبات الجنود والضباط من المأكل والمشرب والوقود مع تصريف الفائض في الأسواق، بيد أن أنصبة شركات الجيش في تلك القطاعات ليست بكبيرة أصلا، وهي حتما دون مستوى الهيمنة بحيث يكون لها أثر المزاحمة على القطاع الخاص، بتراوحها بين 018 كحد أدنى و3.9٪ كحد أقصى.
إن القسم الأعظم من الأراضي الزراعية في مصر مملوك من القطاع الخاص الكبير والصغير والعائلي، وذلك هو الحال منذ العهد الناصري، والذي غاب فيه القطاع العام عن ملكية الأراضي الزراعية رغم ملكية الدولة لمعظم الأراضي الصحراوية، وينطبق الأمر نفسه على المنتجات الغذائية التي قد تكون موجودة، وقد تكون مستخدمة لأغراض سياسية تدعم من شعبية الجيش كتوزيع اللحوم في المواسم أو توفير منتجات غذائية منخفضة التكلفة عبر المجمعات الاستهلاكية أو توريد القمح لهيئة السلع التموينية والاضطلاع بدور مباشر في توزيع أرغفة الخبز المدعم، ولكن هذا كله أمر والحديث عن مزاحمة الجيش للقطاع الخاص في تلك القطاعات أمر آخر.
وينبغي الأخذ في الاعتبار أن تلك القطاعات الاستهلاكية من مواد غذائية تتميز بانخفاض عوائق الدخول للإنتاج ما يعني صعوبة وقوع ممارسات احتكارية فيها أو إبعاد المنافسين عنها، وينطبق هذا على المياه المعدنية على سبيل المثال التي تحظى شركة نسلة متعددة الجنسيات بنحو 26٪ من السوق المصرية في مقابل استحواذ شركة صافي على 3٪ فحسب، رغم أنها تأتي في المرتبة الثالثة، ولكن بفارق كبير عن الشركتين الخاصتين المتصدرتين.
ومن المسائل التي ينبغي التوقف عندها كذلك إذا كان الغرض هو تقييم حجم أعمال الجيش وشركاته الإنتاجية أن تلك الشركات ليس لها وزن يذكر في قروض الجهاز المصرفي، وذلك في حين تفيد تقارير البنك المركزي منذ 2002 وحتى 2012 أن الخزانة هي أكبر المقترضين من الجهاز المصرفي يليها شركات القطاع الخاص، والتي تستحوذ على ما يقرب من خمسين بالمائة من إجمالي قروض الجهاز المصرفي، وتزاحم الحكومة القطاع الخاص لتمويل العجز المتزايد في الموازنة وذلك من خلال بيع أذون وسندات الخزانة. وبما إن شركات القوات المسلحة ليس لا حضور لها في الجهاز المصرفي في بلد يعتمد كليا تقريبا على التمويل المصرفي فإنه من غير المرجح أن يكون لديها حجم أعمال ضخم يستوجب التمويل، وإن اعتمدت على أدوات أخرى للتمويل الذاتي من عائد المشروعات التي تديرها، وهو أسلوب تمويل بالقطع أقل مرونة وأصغر حجما من النفاذ إلى التمويل المصرفي.
مما سبق فإنه يبدو أن التوسع الاقتصادي للجيش إلى الأنشطة المدنية كان رد فعل لتخفيض الدولة للإنفاق العسكري طيلة العقود الماضية، وهو ما تظهره بيانات البنك الدولي حول نصيب الإنفاق العسكري من الإنفاق العام في مصر، والتي تفيد انخفاض نصيب الجيش من الإنفاق العام بشكل مطرد منذ بداية التسعينيات كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي (من 7٪ في 1990 إلى 2٪ في 2012) وكنسبة من إجمالي الإنفاق العام، ويشمل تقدير البنك الدولي لكل من المخصصات الحكومية والمعونات الأجنبية العسكرية بالإضافة إلى المعاشات والأجور المخصصة للعاملين المدنيين والعسكريين علاوة على نفقات استثمارية أخرى. ويبدو أن الجيش قد تفاعل مع هذا التخفيض من خلال زيادة حضوره في الأنشطة الاقتصادية منذ الثمانينيات من القرن الماضي.
رسم بياني (1): تطور نصيب الإنفاق العسكري من الناتج المحلي الإجمالي ومن الإنفاق العام للحكومة المركزية في مصر(1990ـ2012)
الخط الأزرق: نسبة الإنفاق العسكري للإنفاق العام
الخط الأحمر: نسبة الإنفاق العسكري للناتج المحلي الإجمالي
المصدر: مؤشرات التنمية ـ البنك الدولي
اقتصاد الجيش: حضور دون هيمنة
وفي المقابل فإن الجيش كان إما غائبا بالكامل عن القطاعات التي شهدت رواجا ونموا متسارعا منذ عقد التسعينيات، وإما كان حاضراً بشكل محدود في بعضها، والحديث هنا عن قطاع الصناعات التحويلية مثل الإسمنت والأسمدة والزجاج والسيراميك والحديد والصلب والألمنيوم وقطاعات كاتصالات التلفون المحمول، ومعها قطاعات خدمية كالسياحة والفنادق والمطاعم.
ففي الصناعات التحويلية توسع إنتاج الجيش من الإسمنت من خلال شركة إسمنت العريش، ولكن ظل القسم الأعظم من الإنتاج السنوي (97٪) بيد القطاع الخاص وشركة واحدة مملوكة للقطاع العام (وهي لا تتبع الجيش في جميع الأحوال)، وينطبق الأمر نفسه على الأسمدة، والتي ظل الجزء الأكبر من التوسع فيها خاضعا للقطاع الخاص بعد خصخصة الشركات الحكومية التي كانت تضطلع بإنتاج الأسمدة في 2008 و2009، فيما غاب أي حضور للجيش في قطاعات كالحديد والصلب (شركة عز تهيمن على ما يقرب من 52٪ في 2014) ، وعن الزجاج والسيراميك والألومنيوم (شركة قطاع عام هي المنتج الأوحد).
وينطبق ذات الأمر على قطاعات خدمية كالسياحة والمقاولات والبناء.
أما بالنسبة للسياحة والفندقة فقد قدم قرار وزير الدفاع المنشور بالوقائع المصرية (العدد 127 بتاريخ 3 يونيو 2015) والخاص بإعفاء بعض الوحدات التابعة للقوات المسلحة من الضريبة على العقارات المبنية كشفا حصريا للمنشآت التي يملكها الجيش طبقا لوثيقة رسمية، ولم يشتمل القرار بالطبع على بيان المساحات التي يحوزها أو يسيطر عليها الجيش من الأراضي غير المبنية، إلا أن الكشف يقدم صورة جلية وحية لعدد المنشآت وأوجه نشاطها الاقتصادي المحتمل.
جدول (2): المنشآت المبنية التابعة للقوات المسلحة حسب الاستخدام (حساب الباحث)
المصدر: قرار وزير الدفاع المنشور بالوقائع المصرية (العدد 127 بتاريخ 3 يونيو 2015)
تظهر الأرقام أعلاه أن مساهمة الجيش في قطاع السياحة والفنادق محدودة إلى حد كبير، فهي موجهة بالأساس لخدمة العاملين المدنيين والعسكريين بالقوات المسلحة وأسرهم، كما أنها تنتشر في مناطق من غير الجذب السياحي كمدن الدلتا والصعيد، والتي توجد فيها تلك الخدمات بكثافة، وعلاوة على هذا فإن العدد الإجمالي للدور والفنادق على مستوى الجمهورية لا يشي بأن للجيش نصيبا كبيرا في عدد الغرف خاصة وأن الفنادق التابعة للجيش بشكل مباشر تغيب تقريبا بشكل كامل عن مناطق الجذب السياحي في جنوب سيناء والغردقة، وحتى في الساحل الشمالي فإن دليل القرى السياحية والفنادق يظهر أن للقوات المسلحة أربع قرى سياحية من ضمن 128 قرية سياحية مقسمة ملكيتها على جهات تعاونية للعاملين بالحكومة كالوزارات والجامعات والنقابات المهنية، وهيئة االتنمية العمرانية (المجتمعات العمرانية سابقا) والتي أنشأت بعض أكبر الاستثمارات في الساحل الشمالي منذ الثمانينيات وآخرها مجموعة قرى مارينا، بالإضافة للقطاع الخاص الكبير الذي بدأ في التوسع في العقد الأخير.
وحتى مع الحضور المرئي للشركات التابعة للقوات المسلحة في مجال الإنشاءات وخاصة البنية الأساسية للطرق والكباري والأنفاق فإنه لا يبدو أن للجيش نصيبا مهيمنا على هذا القطاع رغم ندرة المعلومات المتوفرة حول حجم أعمال تلك الشركات. فطبقا لبيانات البنك المركزي المصري فإن قطاع المقاولات والبناء والتشييد مثل 4.63% من الناتج الإجمالي المحلي في مصر سنة 2013/2012، وأن نصيب القطاع الخاص منه كان 88.84٪ من الناتج في مقابل 11.51٪ فحسب للقطاع العام ،وقد يكون هذا التقدير بالطبع غير شامل لأنصبة شركات جهاز مشروعات الخدمة الوطنية إلا أنه من غير المنتظر أن يكون ذاك الحجم أكبر من نصيب القطاع الخاص دون أن ينعكس على وزن القطاع ككل في الاقتصاد.
وثمة قرينة أخرى يمكن استخدامها لبيان حجم أنشطة الجيش في قطاع التشييد والبناء بما في ذلك البنية الأساسية والمرافق، فطبقا لمصادر إعلامية وبمتابعة الجريدة الرسمية توسعت حكومة حازم الببلاوي التي تلت الإطاحة بمحمد مرسي في إسناد مشروعات إنشاءات للقوات المسلحة، وبلغ إجمالي قيمة تلك المشروعات المسندة نحو 5.5 مليار جنيه مصري في 2013 والنصف الأول من 2014 ، وهو مبلغ ضخم ولا شك ولكنه جرى في وقت استثنائي من حيث الاضطراب السياسي وانخفاض الاستثمارات الخاصة علاوة على توفر كافة الدوافع السياسية للجيش للمساهمة بثقل في دفع عجلة الاقتصاد قدما، ومع هذا كله فإن المبلغ الإجمالي هذا يمثل 10٪ فحسب من استثمارات الحكومة للعام المالي 2014ـ 2015، علما بأن الكثير من تلك المشروعات غير ممول من موازنة الدولة بالطبع، وإذا أخذنا المبلغ 5.5 مليار جنيه كمؤشر لحجم أعمال الجيش في قطاع المقاولات والتشييد وقسنا نسبتها من حجم القطاع طبقا لبيانات المركزي في 2013/2012 سنجد أن حجم شركات الجيش يمثل نحو 7.71٪ من إجمالي قطاع المقاولات، و8.71٪ من حجم أعمال الشركات الخاصة في القطاع ذاته في نفس الفترة، وهي نسبة بعيدة عن الهيمنة.
بيد أنه ثمة أدلة ظرفية قد تشير إلى تزايد انخراط الجيش في المشروعات القومية الكبرى في مرحلة ما بعد يوليو 2013 على نحو يزاحم بالفعل شركات القطاع الخاص العاملة في مجال التشييد والبناء. لعل المثال الأول هو قناة السويس الثانية، والتي انتهى العمل فيها في أغسطس 2015، ومشروعي المليون وحدة سكنية والعاصمة الإدارية الجديدة، وهي حالات يبدو فيها أن الشركات المملوكة للجيش تحصل على العقود العامة على حساب الشركات الخاصة، ولكن لا ينسحب هذا على قطاع البناء والتشييد ككل، والذي تظهر الأرقام أعلاه أن النصيب الغالب لا يزال منعقدا للقطاع الخاص.
كما صدر مؤخرا قرار جمهوري بقانون رقم 466 في ديسمبر 2015 والذي أباح للقوات المسلحة من خلال جهاز مشروعات أراضي القوات المسلحة إنشاء شركات تجارية، وامتلاكها إما كلية أو بالشراكة مع شركات خاصة مصرية أو أجنبية، وهو ما قد يوفر الإطار القانوني لصفقات مستقبلية في مجالات كالإسكان الاجتماعي ومشروعات البنية الأساسية بما يتيح لشركات الجهاز الدخول في شراكات بالأراضي التي تمتلكها بغاية توليد عائد اقتصادي.
تأمين حصص سوقية لا الهيمنة: منطق التوسع الاقتصادي للجيش
بعيدا عن مزاحمة القطاع الخاص فإن توسع اقتصاد الجيش في مصر قد تزامن منذ الثمانينيات مع توسع نصيب القطاع الخاص في الاقتصاد القومي، والذي أخذ في النمو سواء في صورة شركات كبيرة أو متوسطة أو صغيرة منذ إطلاق الرئيس أنور السادات ما عرف بسياسات الانفتاح في منتصف السبعينيات. وبمطلع التسعينيات كان القطاع الخاص يمثل نحو 70٪ من الناتج المحلي الإجمالي المصري (دون احتساب البترول والغاز الطبيعي).
جدول رقم (3) هيكل الناتج المحلي الإجمالي في سنوات مختارة (بالنسبة المئوية)
المصدر: البنك المركزي المصري، هيكل الناتج المحلي بحساب تكلفة المدخلات (1991ـ2012)
• البيانات الخاصة بالتسعينيات تشير إلى قطاع الصناعة شاملا الصناعات التحويلية والاستخراجية مثل البترول والتعدين.
+ البيانات الخاصة بالنقل والاتصالات في التسعينيات تشمل القطاعين معا قبل أن يتم فصلهما في القرن الحادي والعشرين. ^ لا تفصل بيانات التسعينيات حول التجارة بين تجارة الجملة والتجزئة.
لقد احتفظ القطاع الخاص المصري بنسبة غالبة في الناتج المحلي الإجمالي غير الهيدروكربوني (أي باستبعاد قطاع البترول) منذ مطلع التسعينيات، وقد زود من نصيبه بشكل ملحوظ على حساب القطاع العام في قطاعات كالتجارة والصناعات التحويلية والفندقة والنقل والاتصالات حيث كان النمو مطردا. ويشير هذا إلى أن التوسع في نشاط القطاع الخاص قد تزامن مع توسع الجيش في قطاعات اقتصادية مدنية أن بعض التعايش ممكنا، وأنه من ثم افتراض المزاحمة يحتاج الكثير من التدقيق حتى يمكن إطلاقه بشكل عام.
بيد أنه من غير الواضح ما إذا كان تقسيم العمل بين القطاع الخاص والجيش، والذي ظهر في ظل حكم مبارك سيستمر في المستقبل دون تغيير في ضوء توسع الجيش الاقتصادي الكبير بعد يوليو 2013، إذ يبدو أن الجيش قد بقى حتى الآن بعيدا عن التوسع في القطاعات الاقتصادية التي كانت متروكة تقليديا للقطاع الخاص عن طريق حصر توسعه في البنية الأساسية والمرافق، والتي كان حاضرا فيها بشكل دائم من قبل. وهو ما قد يشير إلى أن التحولات الخاصة بدور الجيش الاقتصادي كمية وليست كيفية أي أنها لا تزال تتعلق بالتوسع في أنشطة كان الجيش يملك حضورا فيها تاريخيا. ولكن ينبغي الحذر فيما يتعلق بتقدير التوسع الحاصل في نشاط الجيش الاقتصادي في الفترة الراهنة في ظل ندرة المعلومات التي قد تمكن من مقارنة اقتصاد الجيش حاليا بما كان عليه في عصر مبارك.
المشكلة الحقيقية: الحصول على الريع وليس المزاحمة في الإنتاج
في حين لا يتمتع الجيش بوضع الهيمنة كفاعل اقتصادي فإنه يملك تأثيرا واسعا وفريدا من نوعه في جانب أساسي وهو الصلاحيات التنظيمية والقانونية المنعقدة له في تخطيط وتخصيص وإدارة الأراضي العامة. وهنا يكمن وجه الإشكال الرئيسي في انخراط الجيش في أنشطة اقتصادية، إذ تؤثر هذه السيطرة على قدرة القطاع الخاص والاقتصاد ككل على النمو، ويستخدم الجيش صلاحياته القانونية وسيطرته الفعلية على الأراضي العامة ـ خاصة الصحراوية ـ في واقع الحال لتوليد أشكال مختلفة من الريع ـ وإن صعب تحديد حجمه بدقة ـ. ويتجلى الأثر الاقتصادي لإدارة استخدامات الأراضي الصحراوية في كونها محطا تقريبا لكافة الفرص المستقبلية للتوسع سواء العمراني من أجل السكنى بعيدا عن الوادي والدلتا المتكدسين بالسكان، أو للتوسع الاستثماري في مجالات شتى تضم الزراعة والسياحة والتصنيع والاستثمار العقاري أو لأنشطة توليد الطاقة ، ومن هنا فإن إدارة الدولة للأصول العامة المتمثلة في الأراضي تعد أمرا جد خطير من حيث تحكمه الفعلي في فرص التوسع الاقتصادي، وتوزيع فرص النفاذ للأراضي، وما يترتب عليها من إمكانية الحصول على التمويل، ومن ثم التكلفة التي تقع للحصول على مدخل هام من موارد الإنتاج، علاوة على استخدام الأراضي والعقارات المنشأة عليها كشكل من أشكال الإدخار لدى الغالبية من أبناء الطبقات المتوسطة العليا في مصر هربا من ارتفاع معدلات التضخم.
الريع القانوني
تنعقد قانونا للقوات المسلحة سلطات واسعة في التحكم في استخدامات الأراضي الصحراوية العامة في مصر، سواء على مستوى التخطيط المبدئي بمعنى تحديد أي أراضي ـ كما وكيفا ـ التي سيتم تخصيصها للهيئات الاقتصادية المتخصصة لكي تقوم بدورها بتخصيصها للمستثمرين في القطاعات الصناعية والعقارية والزراعية والسياحية، إذ أنه طبقا للقانون رقم 143 لسنة 1981 الخاص بتنظيم استخدام الأراضي الصحراوية فإنه لا يجوز تخصيص أي قطعة أرض صحراوية بدون موافقة من وزير الدفاع (بجانب البترول والآثار، ولكن بالطبع لا تتمتع هاتان الوزارتان فعليا بنفوذ الجيش وتأثيره)، كما يتمتع وزير الدفاع طبقا للقانون ذاته بالحق في تحديد الأراضي الصحراوية ذات الاستخدام العسكري أو الإستراتيجي، والتي لا يجوز تملكها أو تخصيصها، كما لا يجوز تغيير الغرض من استخدامها العسكري إلا بقرار من وزير الدفاع نفسه. ومن هنا أمكن القول بأن الجيش فعليا يملك “حنفية” الأراضي الصحراوية على حد تعبير مصدر في مجال حقوق الأرض والسكن.
لقد احتل الجيش المركز الأشد تأثيرا بجانب أجهزة الدولة الأخرى في وضع قواعد وإستراتيجيات تنظيم الأراضي العامة منذ سبعينيات القرن الماضي عندما وضعت خطط التوسع في الصحراء لأول مرة، وبجانب ولاية الجيش الرسمية لاعتبارات الأمن القومي والاستخدامات العسكرية فإن الجيش يملك تأثيرا كبيرا على إدارة الأراضي العامة في المراحل اللاحقة على تخصيصها للاستخدامات الاقتصادية إذ كثيرا ما يضطر المستثمرون إلى الحصول على موافقات من وزارة الدفاع في مسائل عدة تتعلق بارتفاعات المباني على اختلاف أغراضها في المناطق الصحراوية، ويضاف إلى هذا حالات كالحصول على موافقات للأراضي الصحراوية التي قد تكون مدرجة ضمن خرائط الألغام وكذا الحال مع المناطق الساحلية، والتي تقع ضمن المناطق الحدودية التي يحظر تملكها وتقع مباشرة تحت ولاية القوات المسلحة رغم السماح باستخدامها لأغراض سياحية كما هو الحال في الساحل الشمالي وفي سواحل البحر الأحمر.
كما يحق للجيش الحصول على تعويضات مالية عن أي أرض تثبت ملكيتها له، تقع بين مناطق تم تخصيصها لأغراض استثمارية أو سكنية (ما يرفع قيمتها بالطبع)،وهو ما وقع في حالة الأراضي الواقعة شرق حي مدينة نصر وبين الطريق الدائري.
وطبقا للقرار الجمهوري بقانون رقم 531 الصادر في 1981 فإن الجيش يستحق تعويضات مالية عن أي قطعة أرض تستخدم لأغراض عسكرية ـ كأراضي المعسكرات ـ يجري تخصيصها لاستخدامات أخرى، بما يتيح له بناء مواقع ومنشآت عسكرية بديلة، وقد قدم هذا القانون الإطار الرسمي لتحويل الصلاحيات التنظيمية التي يتمتع بها الجيش على الأراضي العامة إلى عوائد اقتصادية مباشرة. وفي 1981، صدر قرار جمهوري بقانون رقم 223، والذي أنشأ جهاز مشروعات أراضي القوات المسلحة، ونص على منحه صلاحيات إدارة وبيع الأراضي المملوكة للقوات المسلحة والحصول على العائد المالي اللازم لبناء مواقع ومنشآت عسكرية بديلة لتلك التي جرى تخصيصها أو بيعها لأغراض غير عسكرية. وقد نص القرار على أن يتلقى جهاز مشروعات الأراضي الأموال المستحقة وأن يودعها في حساب خاص لدى بنك الاستثمار القومي لحين صدر قرار آخر في 1990 (رقم 233)، والذي أباح للجهاز إيداع عائد بيع الأراضي في أي من البنوك التجارية المملوكة للدولة.
وفي نهاية 2015 جرى تعديل قانون جهاز مشروعات أراضي القوات المسلحة بقرار جمهوري رقم 446 بما يبيح للجهاز حق إنشاء شركات تجارية يملكها وحده أو بالشراكة مع رأس المال الخاص الوطني أو الأجنبي، وقد تشكل هذه الخطوة طريقا قانونيا للاستثمار المباشر من جانب الجيش في مشروعات عقارية أو خدمية في المستقبل القريب إما بمفرده أو بالشراكة مع القطاع الخاص حيث يوفر التعديل الأخير الإطار الرسمي لاستخدام الجيش الأراضي التي يملكها للدخول في مشروعات استثمارية خاصة في محور قناة السويس والعاصمة الإدارية الجديدة.
وعلاوة على ما سبق فإن القوات المسلحة تنظم الاستثمار في شبه جزيرة سيناء من خلال هيئة تنمية سيناء المنشأة طبقا للمرسوم بقانون رقم 14 لسنة 2012 الخاص بالتنمية الشاملة في سيناء، والذي بموجبه يقوم رئيس الجمهورية بتعيين رئيس الهيئة بناء على ترشيح من وزير الدفاع، ويمنح القانون هيئة تنمية سيناء كافة الصلاحيات التنظيمية الخاصة باستخدامات الأراضي للأغراض الاستثمارية.
السيطرة الفعلية على استخدامات الأراضي العامة
في مقابل الصلاحيات القانونية واسعة النطاق التي يتمتع بها الجيش في مجال إدارة الأراضي العامة فإنه ثمة آلية أخرى أقل رسمية للسيطرة تتمثل في استحواذ المسئولين من ذوي الخلفيات العسكرية على المناصب العليا في الغالب الأكبر من الأجهزة البيروقراطية المدنية التي تدير الأراضي العامة المخصصة لأغراض الاستثمار أو التنمية، وينطبق هذا على الهيئات المتخصصة التي تدير الأراضي الواقعة خارج الزمام كهيئة التنمية العمرانية (المجتمعات العمرانية سابقا) ومعها وزارة الإسكان وهيئة التعمير والتنمية الزراعية وهيئة التنمية السياحية وهيئة التنمية الصناعية، علاوة على الحضور الكثيف للواءات المتقاعدين على مستوى المحافظات وما هو دونها من الأحياء على المستوى المحلي، وهي الجهات التي يقع ضمن صلاحياتها إدارة الأراضي العامة داخل الزمام أي الواقعة داخل حدود المحافظات سواء من الأراضي الزراعية أو من الأراضي الواقعة ضمن كردونات المدن.
على أن هذا المنطق الريعي في مقاربة استخدام الأراضي العامة لا ينحصر في الجيش فحسب بقدر ما يمتد إلى أجهزة مدنية للدولة تقارب الأمر من زاوية تحقيق مكاسب مالية ـ أي ريع ـ من ملكيتها للأراضي العامة بدلا من تغليب منطق تنموي يقضي بإخضاع استخدامات الأراضي العامة لحسابات تتعلق بالعائد على الاقتصاد المصري ككل وليس العائد المالي المباشر، وهو ما ينطبق على هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، والتي طالما دخلت كمستثمر لتحقيق عائد استثماري للدولة، وهو ما خلق تضاربا في المصالح بين كونها الجهة المسئولة عن تخطيط وإدارة الأراضي مع وزارة الإسكان المصرية لأغراض اقتصادية تشمل القطاع الخاص وبين كونها مستثمر يسعى لتعظيم العائد المتحقق من استثماره.
يضيف حضور الجيش الكثيف في الأجهزة المنظمة لاستخدامات الأراضي العامة طبقات من الإجراءات البيروقراطية في إدارة يشوبها أصلا عدم الكفاءة وارتفاع تكاليف التعامل معها، وذلك باشتراط المزيد من الإجراءات المعقدة التي تستغرق وقتا طويلا لاستخراج التراخيص والتصاريح اللازمة.
وفي هذا الخضم كانت سيطرة الجيش المتشعبة والمستمرة في ضوء عدم وضوح القواعد القانونية والإدارية الحاكمة لاستخدامات الأراضي العامة سببا في رفع التكلفة النهائية للحصول على الأراضي العامة في مصر إما من خلال التكلفة المالية المباشرة أو من خلال تعقيدات الإجراءات وعدم اليقين فيما يتعلق بحقوق الملكية وحقوق الحيازة، خاصة في ضوء الحفاظ على سياسة تقوم على التعتيم والغموض المتعمد تحت زعم اعتبارات الأمن القومي والدفاع فعلى سبيل المثال يشير قرار رئيس الجمهورية رقم 7 لسنة 2001 والخاص بتحديد المناطق الإستراتيجية التابعة للقوات المسلحة إلى خريطة على مستوى الجمهورية لم تنشر قط لاعتبارات الدفاع والأمن القومي وهو ما يعني أن أيا من الجهات الحكومية أو المستثمرين الخاصين يعرف أين تقع تلك الاراضي ذات الاستخدام العسكري، وما يعنيه هذا من تعقد الإجراءات ورفع تكلفتها أو تهديد حقوق الملكية والاستثمارات الواقعة عليها من ثم.
يكبد هذا النظام ذو القواعد المعقدة والغامضة والتحكمية الاقتصاد تكاليف باهظة متمثلة في الفرص الاقتصادية الضائعة للنمو والتوسع العمراني في بلد مكتظ بالسكان تكاد تنحصر فرص التوسع فيه في الأراضي الصحراوية المترامية شرقا وغربا من وادي النيل والدلتا، وما قد يخلقه من فرص عمل واستثمارات لا تتحقق نتيجة تلك الإدارة الريعية لمورد عام كالأرض، هي في نهاية المطاف ملك عام، ومن ثم ينبغي أن تكون إستراتيجية استخدامه قائمة في المقام الأول على اعتبارات التنمية لأكبر عدد ممكن من المواطنين. ولا شك في أن المنطق الريعي في إدارة أصول الدولة الثابتة يؤدي إلى رفع كلفة الأرض على رأس المال الصغير والمتوسط، والذي يواجه صعوبات طبقا لتقرير البنك الدولي مقارنة بالعديد من البلدان، خاصة في بلد كمصر من المفترض أن تتوفر فيه المساحة للتوسع منخفض التكاليف في المحافظات ذات الظهير الصحراوي المترامي الأطراف. وينطبق الأمر نفسه على التكلفة الاقتصادية والاجتماعية في ملف كالإسكان والذي يتجلى في التوسع فيما يسمى بالمناطق العشوائية وارتفاع تكلفة الحصول على شقق للشباب والتضخم الشديد في تكاليف الإسكان.
إعادة صياغة إدارة الأراضي العامة: بعيدا عن تحصيل الريع
شهدت مصر منذ الثمانينيات تزامنا بين توسع اقتصاد الجيش من ناحية وزيادة نصيب القطاع الخاص في الناتج من ناحية أخرى دون أن يتسبب ذلك في المزاحمة أو التضييق من طرف على الآخر بدرجة ملموسة، وقد حدث هذا دون تخطيط مسبق من خلال تقسيم فعلي للعمل بين الطرفين بحيث تركز نشاط الجيش في قطاعات بعينها هي البنية الأساسية والمرافق بينما هيمن القطاع الخاص على القطاعات الأخرى، بيد أن المشكلة الجوهرية تكمن في الصلاحيات القانونية والفعلية المنعقدة للجيش إزاء إدارة الأصول العامة، وخاصة الأراضي الصحراوية، دائما بحجة الدفاع والأمن القومي. وثمة دلائل عدة على أن تلك الصلاحيات الموسعة قد رفعت من تكلفة الاستثمار على القطاع الخاص سواء من خلال إضافة المزيد من الإجراءات المكلفة والمعقدة أو من خلال استخراج الريع مقابل تخصيص الأرض بشكل رسمي أو غير رسمي.
إن الأراضي الصحراوية العامة تحتل موقعا شديد الأهمية للتنمية المستقبلية في مصر كونها تمثل نحو 94٪ من إجمالي المساحة الكلية للبلاد، وكون الفرص المستقبلية للتوسع في مجالات كالإسكان واستصلاح الأراضي والسياحة والتصنيع وتوليد الطاقة تدور حول استخدامات تلك المساحات المتوفرة ـ نظريا على الأقل ـ بتكلفة منخفضة شرق وغرب وادي النيل.
أما في ظل الإطار القانوني والتنظيمي الحالي فإن تداعيات الإدارة المنشغلة بتحقيق الريع تؤثر سلبا على تكلفة الاستثمار وترفع من الأعباء الاجتماعية لإسكان الطبقات المتوسطة والفقيرة التي تعاني من ارتفاع أسعار الأراضي نتيجة النقص المصطنع في العرض، كما يمس النفاذ للأراضي العامة سؤالا رئيسيا حول التوزيع العادل للأصول في مصر، وليست هناك إمكانية لإصلاحات جادة لنموذج التنمية القائم في مصر دون علاج قضية إدارة الأراضي العامة، وفي القلب من هذا الدور الرسمي وغير الرسمي الذي تلعبه المؤسسة العسكرية.
المصدر: جدلية