مسيرات العودة الفلسطينية .. ماذا بعد؟
حول المراجعات الفلسطينية المتجددة
بقلم: عيسى الشعيبي
قبل نحو شهر، نُشر مقال لمنشئ هذه السطور، تحت عنوان “آن أوان المراجعات الفلسطينية”، انطوى، في حينه، على دعوةٍ، ليست هي الأولى، خاطب فيها أولي الشأن وأصحاب الحل والعقد، للقيام بعملية مراجعةٍ شاملةٍ لمجمل الأوضاع الراهنة في الأراضي المحتلة، بهدف إعادة تقويم المسارات التي أوصلت الحالة الفلسطينية إلى ما باتت عليه من انسداد وتآكل على كل صعيد. وقد لقيت تلك المطالعة بعض الاستحسان من قراء وأصدقاء، طالب عدد منهم بضرورة المبادرة بتعليق الجرس، أو قل قرع جدران الخزّان، من خلال إجراء هذه العملية التقويمية، المنوطة دائماً بالمفكرين وذوي الرأي، كما اقترحوا طرح أمثلة ونماذج ملموسة لواحدةٍ، او أكثر، من المسائل المطروحة على جدول الاهتمام العام.
قد تكون “مسيرات العودة الكبرى” التي مضى على انطلاقها 28 أسبوعاً، واحدةً من بين هذه الموضوعات المثيرة للاهتمام الفلسطيني بشكل خاص، وواجبة المراجعة من دون تأخير، ليس لأنها أشد الموضوعات إلحاحاً على جدول الأعمال الوطني المثقل بفيضٍ من الهموم والتحدّيات، بل لأن مسيرات العودة هذه هي أقل المسائل تعقيداً، وأكثرها قابليةً للتقويم في الحال، ناهيك عن حقيقة أنها محلّ نقاش داخلي واسع في الواقع، الذي انخرطت فيه قوى ونخب ومثقفون، باتوا يُجمعون على ضرورة إخضاع هذه الظاهرة الكفاحية النبيلة لعمليةٍ نقديةٍ عاجلة، قبل أن تتلاشى جوانبها الإيجابية الملهمة مع مرور مزيدٍ من الوقت، وتتعاظم فيها، في المقابل، المظاهر السلبية الباعثة على القلق مما لحق بهذه الأداة الكفاحية من عوار، يهدد مآل مسار المقاومة الشعبية، وقد يقوّضه بعد حين قصير.
لقد بدأت مسيرات العودة في ذكرى يوم الأرض الخالد (30 مارس/ آذار)، وكأنها انبعاثٌ لطائرة الفينيق الأسطوري من تحت الرماد، أخرجته إلى حيّز الصراع المديد فكرةٌ كفاحيةٌ مبدعةٌ، قوامها الكفاح الشعبي والمقاومة غير العنيفة، بديلاً عن الشكل الكفاحي السائد منذ عقود طويلة، تبدّلت في غضونها سائر المعطيات، وقضت في ما قضته من حقائق قاسية، لزوم التكيّف مع ضرورات واقع موضوعي صارم، ازداد فيه الخلل في موازين القوى، وتضاعفت خلاله كلف المواجهة المسلحة على نحو أثقل بشدة على أيدي شعب فقير الموارد ومحاصر، لا سند له في المحيط المجاور، وليس في وسعه مواصلة النزيف، وسط كل هذه اللامبالاة المريبة.
بدت هذه المسيرات قرارا وطنيا جامعا ومنسّقا بصورة طيبة، وهي صورة غابت طويلاً عن الفعل الفلسطيني، لا سيما منذ الانقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة، كما بدت شعاراتها عملية، واقعية إلى أبعد الحدود، ومتماهية مع متطلبات هذه المرحلة غير المواتية لرفع السقوف وتعلية نبرة الخطاب، الأمر الذي عقد معه الوطنيون، من خارج الوعاء الفصائلي، رهاناً كبيراً على تحقيق مكاسب نضاليةٍ متراكمةٍ، يمكن البناء عليها، وتحويلها إلى منجز سياسي ضد الاحتلال، خصوصاً أنها أدت إلى تجديد الروح الكفاحية الفلسطينية، بعد تهافت معيب، ورفعت المعنويّات المتزعزعة، وأعادت بث صورةٍ مشرقةٍ عن نضال شعبٍ لم تنكسر لديه الإرادة، وفوق ذلك استعادة الاهتمام الدولي بقضيةٍ خبت أضواؤها في زحمة التطورات الإقليمية والحرب على الإرهاب.
غير أن ما كان معقوداً من رهانٍ كبير على هذه الظاهرة النضالية الواعدة، أخذ بالتبدّد رويداً رويداً، فيما راحت العوامل السلبية تطغى على العوامل الإيجابية مع مرور الوقت، لا سيما بعد أن تم اختطاف هذه الظاهرة جهاراً نهاراً، من جانب الفاعل الأساسي المنظم هذه المسيرات، حيث بدأ يعمل على توظيفها في خدمة مصالح فصائلية جزئية، غايتها تعزيز سلطة الأمر الواقع، ومدّها بأسباب البقاء بكل ثمن، بما في ذلك تهميش اللجنة الوطنية العليا لمسيرات يوم العودة، ذات التكوين التعدّدي، والظهور من ثمّة بمظهر القائد الفعلي لكل هذا الحراك الشعبي العارم، بل والتفاخر بأن شهداء المسيرات في غالبيتهم هم من أبناء “حماس”، وكانت تلك غلطةً سياسيةً استثمرتها جيداً سلطات الاحتلال.
وهكذا، بعد نحو سبعة أشهر من المظاهرات على السياج الفاصل على حدود قطاع غزة، استشهد خلالها أكثر من 200 شاب وشابة، بمن فيهم الأطفال، وجُرح في أثنائها آلاف من مختلف الأعمار، تبدو اليوم هذه الظاهرة غير المسبوقة، بعيدةً عن بداياتها الأولى، محاصرة ومعزولة في غزة فقط، بل صوتا لا صدى له لدى التجمعات الفلسطينية الأخرى، لا سيما في القدس والضفة الغربية وديار الشتات، وتحوّلت، في زمن قصير، إلى حدث روتيني شديد الاعتيادية، لا يثير إيقاعها اهتماماً خارج فلسطين، ولم تخلق جسارتها الهائلة رأيا عاما دوليا متعاطفا، كما لم تشكّل تضحياتها العظيمة أداة ضغطٍ سياسيٍّ على المحتلين الذين لا يتورعون عن القتل بدم بارد، ويشدّدون في الوقت ذاته الحصار.
هذه دعوة أخرى إلى القيام بمراجعةٍ أحسب أنها تأخرت بعض الشيء، وقد تفقد جدواها إذا تقاعس عن القيام بها مَن يمسكون بناصية القرار في القطاع، وتُرك الحبل على غاربه لمن يوهمون أنفسهم أن هذه المسيرات قد حقّقت المعجزة، وأسقطت صفقة القرن، حسب بعض الادعاءات، الأمر الذي يُملي على من أيديهم في النار المبادرة إلى إعادة تقويم المسار، وليست المسيرات فقط، بعيداً عن الذهنية الفصائلية المغرقة في أنانيتها، وبمنأى عن الحسابات الصغيرة المقيتة في جوهرها، وهو ما يعني، بالضرورة الموضوعية، إجراء مراجعةٍ تأخذ بالاعتبار أوضاع غزّة المنهكة، وطاقاتها المتآكلة أسبوعاً بعد أسبوع، وربما يوماً بعد يوم، مع الانتباه إلى ضرورة تقليل هذه الأثمان البشرية الباهظة إلى أدنى الحدود، أي التراجع خطوةً إلى الخلف من أجل التقدم خطوتين إلى الأمام على الطرق الطويل.
بكلام آخر، ينبغي تصويب أهداف هذه المسيرات وعقلنتها، وخفض أكلافها، وترشيد خطابها، وتوسيع قاعدتها، على نحوٍ يجعل منها أداة ضغط سياسي وأخلاقي وإنساني على الذئاب المتعطشّة للدم الفلسطيني، بل وتحويلها إلى رافعةٍ كبرى للمطالب الوطنية الجامعة، لا مجرد السعي إلى إقامة مطار في سيناء أو ميناء بحري في قبرص، وهو ما يقتضي بداية رد الاعتبار للجنة العليا للمسيرات، وتعديل إطار هذه اللجنة، كي تصبح جهداً مشتركاً لمختلف القوى الاجتماعية والسياسية الفاعلة، لا أن تظل هذه الظاهرة الكفاحية وكأنها مجرد فعل غزّي مقطوع الصلة عن المجموع الفلسطيني الأشمل، وذلك بعد أن تم توظيف فعالياتها تارة لكسر الحصار، وطوراً لتحقيق تهدئة مع جيش الاحتلال، وهما أمران بالغا الأهمية على أي حال، لكن تحقيقهما عسير المنال في ظل استمرار حالة الانقسام، وتواصل وضع عربة التهدئة قبل الحصان المربوط على مذود تعزيز سلطة الأمر الواقع في مطلق الأحوال.
ولعل ما يساعد على رفع الصوت أعلى من ذي قبل، ضد ما أخذ يطفو من عوارض جانبية ضارّة، على سطح هذه الظاهرة الكفاحية العظيمة التي بشّرت مشاهدها المبكرة باستعادة طابع انتفاضة الحجارة المجيدة، هي هذه الأصوات الصادرة من غزة، ومن على مختلف منابر الإعلام، بما في ذلك وسائط التواصل الاجتماعي، المطالبة بضرورة إجراء المراجعات الحثيثة قبل فوات الأوان، والكفّ عن قياس مضاء المسيرات بعدد الشهداء، وإنهاء سياسة الإنكار والمكابرة والعناد، والتوقف عن لعبة الدم بالدم (200 شهيد مقابل جندي إسرائيلي واحد)، وغير ذلك مما ارتفع من شعارات مرتجلة في سماء شريطٍ ضيق من الأرض، مكتظ بالبأس والبؤس، بات معظم سكانه المفتقرين لأبسط حقوق الإنسان، وبالأساس حياة تشبه ما لدى الآخرين من حياة، لا ينشدون أكثر من البقاء بشروط الحد الأدنى، والنجاة من شرور انهيار معيشي بات يطرق الأبواب.
المصدر: العربي الجديد