نفى مسيحيون مناهضون للنظام من أهالي مدينة القصير بمحافظة حمص، صحة ما نقلته وكالة أنباء الفاتيكان الرسمية حول إنذار وجهه قائد في الجيش الحر للمسيحيين «بمغادرة القصير فورا». واستنكر بيان صادر باسم أهالي القصير ونشرته تنسيقية المدينة تلك الأنباء، نافيا أن تكون المساجد قد أذاعت نداء ينذر «الإخوة المسيحيين بالرحيل».
وأكد البيان أن «أغلب العائلات المسيحية التي نزحت من المدينة قد نزحت مع العائلات المسلمة منذ فترة شهرين تقريبا؛ نتيجة القصف الهمجي المتواصل والعشوائي من قبل دبابات ومدفعية و(هاون) الجيش الأسدي الذي لم تميز قذائفه بين مسيحي ومسلم، وحتى أن قناصات الجيش الأسدي استهدفت المسلمين والمسيحيين على السواء». ولفت البيان إلى أن تقرير وكالة الفاتيكان لم يبن على «أساس الواقع»، كما أن النداء المذكور لم يحصل.
وكانت وكالة «فيديس» البابوية الرسمية ذكرت في تقرير لها نشر منذ أيام، أن أعدادا كبيرة من المسيحيين في بلدة القصير السورية غادروها بعد تلقيهم إنذارا من القائد العسكري للثوار في البلدة. وأضافت الوكالة أن مدة الإنذار انتهت يوم الخميس الماضي، وأن غالبية مسيحيي البلدة، البالغ عددهم نحو 10 آلاف، هربوا من القصير الواقعة في محافظة حمص التي أصبحت ساحة معركة وسط سوريا. وجاء في تقرير وكالة الأنباء البابوية «أن بعض المساجد في المدينة أعادت إطلاق الرسالة، معلنة من المآذن أنه يجب على المسيحيين أن يرحلوا عن القصير».
أحد سكان القصير، من الناشطين في الحراك السلمي، أكد لـ«الشرق الأوسط» أن «الحادثة وقعت، ولكن ليست على النحو الذي تم تداوله»، ووضعها في إطار «الأخطاء التي ترتكب عادة جراء حالة الفوضى والقمع الشديدين»، ولفت إلى أن «قائد مجموعة من الثوار، وليس من الجيش الحر، تحدث إلى مجموعته في رد فعل على مجزرة الحولة وتوعد العلويين والشيعة والمسيحيين إذا لم يعلنوا انضمامهم للثورة ومساندة الثوار فعليهم الرحيل فورا، لأنهم لن يقبلوا بأي شخص موال للنظام أو ساكت على جرائمه في البلدة».
وأضاف الناشط أن تلك الأنباء أثارت الكثير من الاستياء لدى جميع أهالي المدينة، التي كانت وما زالت نموذجا للتعايش. وقد جرى اجتماع حضره الوجهاء من المسيحيين والمسلمين وتم التبرؤ من ذلك الكلام، واعتبر «ضمن الأخطاء التي يقع فيها بعض الثوار، ويسيء للثورة ويخدم أهداف النظام وغاياته». وفيما بدا أن الأمر انتهى، يقول الناشط إن هناك من عاد وسرب تلك الأنباء لوسائل الإعلام الأجنبية وضخمها «لغايات باتت مكشوفة».
الناشط عمر إدلبي، ممثل لجان التنسيق المحلية وعضو المجلس الوطني السوري، الذي زار القصير لأسبوعين قبل عودته إلى مدينته حمص لينضم إلى الثوار وينشط بالعمل الميداني، قال: «أخطاء كثيرة ارتكبت، لكن ليس كما وصف»، مشيرا إلى أن «الأخطاء كانت تأتي من أفراد معزولين، هم بالأصل جهلة وبعضهم مجرمون سابقون، جرى ردعهم مرات عديدة».
مدينة القصير التي يسكنها أكثر من 50 ألف نسمة غالبيتهم من المسلمين السنة، مع أقليات مسيحية وعلوية وشيعية، يشكل فيها المسيحيون الكاثوليك الأقلية الكبرى. ولم يتبق من سكانها سوى بضعة آلاف، حيث نزح غالبية السكان ومن جميع الطوائف باتجاه لبنان ودمشق والقلمون منذ شهرين مع تصاعد العمليات العسكرية الشرسة والقصف العنيف.
وتقول أم باسل، وهي نازحة من حمص إلى لبنان: «لم يبق بيت في حارتنا وسط المدينة لم يتعرض للقصف.. حارتنا تضم المسيحيين والمسلمين والعلويين؛ ولم نشعر يوما من الأيام بأننا مختلفون بل إخوة وأهل. وعندما اندلعت الثورة في البلاد، هناك من شعر بالخوف من النظام، وهناك من وقف إلى جانبه، كل حسب مصالحه وليس حسب طائفته».
وتتابع أم باسل: «جرت مشكلات كثيرة بين الناس في المدينة، إلا أن حارتنا حافظت على علاقات المودة بين السكان، ولكن القصف العنيف والفوضى وانتشار السرقة دفعتنا إلى النزوح». وتضيف من مشاهداتها أن «حاجز قوات الجيش النظامي كان قريبا من بيتنا، وكل يوم هناك اشتباك وإطلاق نار، فضلا عن القنص الذي حرمنا من التحرك داخل المنزل. وكنا لكي نعبر في الغرفة نركض أو نزحف على الأرض بعيدا عن النوافذ.. ولا يمكننا ليلا إشعال النور، ولا التحرك في العتمة». هذا الواقع عاشه كل أبناء المدينة دون استثناء، كما تقول أم باسل، «حتى إن العيش بات مستحيلا».
واحد من وجهاء القصير نفى بشدة وجود تهديدات طائفية قائلا: «الثوار والجيش الحر ليسوا مجموعة واحدة تحت قيادة واحدة، هناك مجموعات مسلحة متعددة، إضافة لوجود عصابات استفادت من حالة الفوضى. هذه المجموعات تقوم بأعمال نهب وسرقة وتخريب وخطف، وهناك مساع دائمة من الأهالي لتطويق تلك المجموعات والتغلب عليها، ولكن استمرار القصف والعنف والقتل الممنهج من قبل النظام يجعل مهمة الأهالي والوجهاء بالغة الصعوبة».
ويتهم الرجل النظام وأجهزته الأمنية، التي وصفها بـ«القمعية»، بأنها من «تستهدف العقلاء بالقنص والقصف، لأن هذا النظام يريد تعميم حالة الفوضى لتبرير بقائه». كما أشار إلى أن النظام والموالين له «يستغلون الأخطاء التي تجري لافتعال صراع طائفي بين المسلمين والمسيحيين».
وهنا يلاحظ الوجيه أن النظام دائما «كان يدفع المسيحيين للمواجهة مع المسلمين في القصير، ولا يدفع أبناء الطوائف الأخرى كالشيعة والعلويين، مع أن المتعاملين مع النظام وأجهزته الأمنية في القصير ينتمون لكل الطوائف»، وحذر الوجيه من أن «ينجح النظام في جعل المسيحيين تحديدا كبش فداء في معركته من أجل البقاء».
ويرى إدلبي أنه «من الطبيعي أن تكون هجرة المسيحيين على نطاق أوسع من غيرهم بحكم المخاوف التي يضمرونها في أنفسهم من حالة إسلامية متشددة ظهرت بوادرها مرارا، غير أن الواعين يعملون على تلافي أي إشكال قد ينجم عنها، فينجحون كثيرا ويفشلون مرات».
يخشى الناشطون على الثورة من حالة الفوضى التي تعم القصير.. ويتحدث أحمد، وهو أحد أبرز الناشطين الإعلاميين في المدينة قبل الثورة، قائلا: «علينا أن لا ننسى أن مجتمعنا أنهكه الفساد، فالقصير كمنطقة حدودية شجع النظام فيها التهريب على مدى ثلاثة عقود، مما أدى إلى بروز ثلاثة أجيال من المهربين بكل ما يعنيه ذلك من سلوك اجتماعي خارج عن القانون». ويتابع أنه «في ظل غياب الدولة وجد هؤلاء فرصة ذهبية لفرض سيطرتهم بالقوة على المجتمع، لكن وجود عقلاء ونخب واعية، كان صمام الأمان بوجه الفلتان المجتمعي»، لافتا إلى أنه منذ بداية الثورة حصلت حوادث عدة «أخذت طابعا طائفيا، لأن هناك من يريد لها أن تبدو كذلك؛ وليس لأنها طائفية في الواقع».
ويعقب شاب مسيحي نزح مع عائلته إلى لبنان، طالبا تسميته رياض، بالقول: «المسيحيون أقلية تعرضت للظلم كسائر الأطياف السورية في ظل حكم البعث، وهم كأقلية في محيط سني ثائر ومسلح باتوا في موقف محرج جدا، بين خوفهم من النظام وبطشه، والخوف من التيارات الإسلامية الغريبة عن المجتمع السوري، كـ(القاعدة) والسلفيين المتطرفين».
ويضيف أن هذه المخاوف زادت مع «انتشار السلاح بين الثوار، وغالبيتهم من المسلمين.. كما سلح النظام أبناء الطائفة العلوية، وبقيت الطائفة المسيحية كيانا ضعيفا غير متماسك، وموزعا جغرافيا، وغير مسلح في مهب المخاوف، وغير قادر على الاستمرار بالوقوف على الحياد. كما أنهم غير قادرين على الانخراط بالثورة على نحو أوسع أكثر وضوحا؛ في ظل وجود نظام متوحش».
وبقي المنخرطون المسيحيون في الثورة بشكل علني «قلة»، بينما الأغلبية من الداعمين لها «يعملون سرا». ومؤخرا استشهد شاب يعد من أهم الناشطين الإعلاميين، وهو المخرج السينمائي المسيحي باسل شحادة مع اثنين من رفاقه في حي باب سباع، ولولا استشهاده ما علم بنشاطه أحد. ولفت رياض إلى أن «النظام منع أهل باسل من تشييعه في الكنيسة التي أغلقت أبوابها، بينما شيعها رفاقه المسلمون في حمص وبكنيسة أم الزنار التي تعرضت للقصف العنيف».
ويشكل المسيحيون نحو 10 في المائة من سكان سوريا، ولكن وضعهم في المناطق المتوترة يزداد صعوبة. وفي القصير يؤكد الناشط الإعلامي أحمد أن «قوات الجيش عندما اقتحمت المدينة كان أكبر تمركز لقواتها عند الكنيسة، مع أنها الكنيسة الوحيدة في المدينة. وبهذا التمركز حرم الأهالي من الصلاة، وباتوا يقصدون الكنائس في القرى القريبة من أجل عقود الزواج والإجراءات الأخرى.. النظام هو من حرم المسيحيين في القصير من الكنيسة؛ وليس الثوار». واستغرب أحمد «تركيز الإعلام الغربي على ما قاله قائد مجموعة صغيرة، بينما تجاهل وجود دبابات ومدرعات على باب الكنيسة».
كما نقلت وكالة الأنباء البابوية عن مصادر أن «مجموعات إسلامية متطرفة في صفوف المعارضة السورية في القصير تنظر إلى المسيحيين على أنهم كفار، وتصادر بضائعهم وترتكب إعدامات سريعة بحقهم، وهي مستعدة لإشعال حرب طائفية». وقال تقرير الوكالة البابوية «إن المسيحيين النازحين من القصير انتقلوا إلى قرى قريبة من دمشق، وبعض العائلات حاولت بشجاعة البقاء في بلدتها، ولكن لا أحد يعرف المصير الذي ينتظرهم».
ويعقب أحمد بأنه «في اليوم الذي نشر فيه تقرير الوكالة البابوية، كانت القصير تتعرض لقصف عنيف من قبل دبابات النظام، وقتل رجل مسيحي على يد قناص بينما كان يشتري الخبز من الفرن الآلي، وظل على الأرض ينزف لأكثر من ساعتين، ولم يتمكن أحد من سحبه لأن القناص كان يطلق على كل من يحاول الاقتراب منه. وبعد معاناة كبيرة نجح الثوار في سحبه بواسطة سيخ ونقله إلى المشفى الميداني، إلا أنه كان قد استشهد».
ويظل الأمر الذي يبدو غير مفهوم لوكالة الأنباء البابوية ذاتها – كما الحال للآخرين – هو أسباب الإنذار الذي يأمر المسيحيين بالرحيل عن القصير، التي قالت عنها إنها «غير معروفة»، مشيرة إلى أن الإنذار «بحسب البعض يهدف إلى تجنيب المؤمنين مزيدا من المعاناة».