مستقبل النهوض في الوعي العربي
من الصعب التنبؤ بمستقبل النهوض فى الوعى العربى. فمسار التاريخ يصعب التنبؤ به. ومع ذلك هناك مسار التاريخ فى الماضى ودوراته. وربما يمكن التعلم منه. وفى حالة الإحباط السائدة عند الجميع من النماذج الثورية الأربعة ألا يمكن مع ذلك سبر غور الوعى العربى اعتمادا على وعيه التاريخى الذى بدأ يتشكل وإن لم يتحول إلى واقع لرؤية المستقبل ونظرا للتصور الدائرى لحركة التاريخ والعود على بدء، فإنه يصعب معرفة المستقبل الذى يتطلب تصورا مستقيما للتاريخ فى مراحله الماضية والحاضرة والمستقبلة. ونظرا للتصور الدائرى للتاريخ فالبداية من الصفر أى بداية دورة جديدة .
فإذا بدأنا بعصر المماليك، قبل محمد على بقليل، عصر الفروسية والشجاعة والتى يمثلها الفارس الذى قفز بحصانه من فوق أسوار القلعة هربا من المذبحة التى دبرها محمد على للتخلص منهم ومن شجاراتهم. أتوا من آسيا الوسطى كعبيد ثم أصبحوا أسيادا، يعزفون بالإضافة إلى فنون الحرب وفنون اللباس والعمارة تعويضا عما افتقده العرب فى الأندلس مثل قصر الحمراء فى غرناطة. ولم تغب عنهم فنون الموسيقى والغناء والرقص. فالقصر المملوكى بلا هذه الفنون يكون قاعا صفصفا. وانتقل ذلك كله إلى تركيا عند من يسمون الأتراك المماليك. وآثارهم تعادل الآثار الفاطمية .
ولا تعاد التجربة فى خط منحنٍ ولا فى خط مستقيم بل تظل جزءاً من بداية الوعى الفنى والعلمى الحديث. ولا هى خط مستقيم لأنها أصبحت جزءا من تاريخ العمارة والفنون منقطعة عن سابقها ولاحقها. فالتراث المملوكى- شئنا أم أبينا- مغلق على نفسه لا تواصل معه. وأصبح البديل حداثة محمد على والتراث التركى الذى ورث التراث المملوكى. فهل تعاد تجربة المخلِّص الأوحد المستبد مثل صدام والأسد والقذافى ما دام التاريخ لا يكتمل إلا فى دورة وليس فى خط مستقيم؟ لقد قامت الثورة العرابية كنموذج ثورى بالقضاء على هذا النموذج. فقد هرب الحاكم الأوحد مثل الرئيس التونسى أو قتل مثل القذافى أو القبض عليه وإعدامه مثل صدام يوم عيد الأضحى أو فى السجن أو وراء القضبان بتهمة الخيانة العظمى لرئيس انقلب عليه الشعب والجيش .
فالمدنى لا يكون رئيسا للعسكرى حتى لو كان منتخبا. العسكرى لا يؤدى التحية العسكرية إلا لعسكرى مثله. ولا يتكرر نموذج النخبة العسكرية فقد تم اختباره منذ عرابى. وماذا لو قيل: لقد نجحت النخبة العسكرية فى قيادة الثورات بقيادة الضباط الأحرار فى مصر 1952، وفى العراق 1958، وفى اليمن 1964، وفى سوريا 1968، وفى ليبيا 1969، ومازالت قادرة عليه باعتبارها هى النخبة الوحيدة المنظمة القادرة على التعبير عن حركة الجماهير؟
والخوف من الطائفة والمذهبية والعرقية التى تتفتت عليها الدول الوطنية كالعراق وسوريا وليبيا واليمن. وهى قنبلة موقوتة فى لبنان وفى الخليج. ما يحمينا منها هى القومية العربية التى تجعل الجميع عربا بصرف النظر عن طوائفهم وأعراقهم. هم عرب باللسان فكل من تحدث العربية فهو عربى طبقا لحديث الرسول أن العربية ليست بأب أو أم. وإن لم تكن الطوائف فهناك الأسر والقبائل. فالمجتمع العربى مازال مجتمعا بدويا .
ما الذى يبقى؟ هل يمكن أن تتكرر ثورة يناير 2011 بتلقائيتها؟ هنا التاريخ لا يعيد نفسه. والجيش يقف بالمرصاد. والهبات الشعبية كثير فى الوعى المصرى: هبة يناير 1977 «انتفاضة الحرامية» كما وصفها رئيس الجمهورية الثانية، انتفاضة الأمن المركزى يناير 1986 التى قمعها الجيش، اعتصام الطلبة فى ميدان التحرير احتجاجا على استمرار احتلال سيناء 1971، الوقوف فى حرم الجامعة ضد الغزو الأمريكى للعراق 2003، وأخيرا ثورة يناير 2011. ولكن هذه المرة سرعان ما تناثرت الثورة لعدم وجود قيادة واحدة لها، وغياب أيديولوجية موجهة، وعدم وجود تنظيم أو جهاز عصبى يرعاها. فسرعان ما تموجت بين اليمين واليسار، بين إسلاميين وعسكريين. إلى أن اقتطفها رجال الأعمال وحولوها إلى ثورة مضادة .
ومن يدرى ماذا سيحدث فى المستقبل بعد أن أصبح حاملا لكل الاحتمالات؟ والسؤال هو: متى يتم الوضع؟ مازال شبح الفرد المخلِّص ماكثا فى الذهن. قد يتمثله صلاح الدين محرر القدس أو محمد على جديد بانى مصر الحديثة أو عبدالناصر الذى مازال حيا فى الأعماق؟ والخوف من العودة إلى هذا النموذج الذى تكرر عدة مرات، ولكنه مازال قابعا فى أعماق الوعى العربى. هو الزعيم أو الإمام أو النبى أو الرسول. ووراءه قوة دافعة غير قابلة للانكسار. عبدالناصر يُبعث من جديد فى وجدان الأمة. وقد تعود النخبة العسكرية مثل جيل جديد من الضباط الأحرار، مدنيين وعسكريين. فما زال عرابى فى الأذهان، وكلاهما عود على مبدأ الحرية من المبادئ الأربعة لثورة 2011
وقد تثور النخبة المثقفة دفاعا عن حقوق الإنسان وضد التعذيب والاعتقال والاختفاء القسرى. وهو الملف المعروض بقوة على الساحة الدولية. صحيح أن المفهوم لم يبرز فى تراثنا القديم ولكن برزت مفاهيم أخرى بديلة مثل بنى آدم، حقوق الآدمى، وهو ما يؤكد مبدأ الكرامة الإنسانية من المبادئ الأربعة لثورة يناير 2011
وأخيرا قد يهب الجياع الذين انتظروا طويلا من ثورة 2011 تحقيق بعض أوجه العدالة الاجتماعية، ولكنهم وجدوا الأسعار فى ارتفاع ولا يوجد حد أعلى للأجور. فالفنانون وكبار الضباط يصلون إلى الملايين. قد تقع فى أية لحظة طبقا لمفهوم الانبثاق الحيوى عند برجسون أو عندما قامت امرأة، واستولت على ميدان الباستيل فى الثورة الفرنسية أو هدى شعراوى عندما قررت رفع الحجاب فى ثورة 1919. وكان انتحار بوعزيزى البائع المتجول فى تونس رد فعل على إهانة شرطية له- بداية الثورة العربية .
وبعض المتفائلين ضد حالة الإحباط الجماعى يظن أن ازدياد العنف فى البلاد ليس فقط فى سيناء بل فى شتى أنحاء البلاد مؤشر على نهاية النظام، والحوادث العرضية مثل وقوع الطائرات الروسية والمصرية، والأحكام بالإعدام بالعشرات مؤذن بنهاية دورة وبداية أخرى، وأن غلاء الأسعار وانخفاض الأجور صرخة اجتماعية سيسمع صوتها عن قريب، وأن تفاوت الدخول وأساليب الحياة والتقابل بين العشوائيات والمجتمعات الجديدة مهما قيل فى ضرورة إعادة بناء العشوئيات ولكن دون المساس بثروات الأغنياء بضرائب تصاعدية، وأن استشراء الفساد فى جهاز الدولة من قمة الوزراء حتى عنف الفقراء كل ذلك وغيره من الظواهر المتتالية بما فيها عسكرة المجتمع والتدخل فى توزيع المواد الغذائية وحل المشاكل الاجتماعية، كل ذلك علامات على نهاية دورة، ولكن الانشغال بالشوادر والمنافذ والعربات يجعل الخبز مقدما على الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. والبعض الآخر الذى يعرف بطء حركة التاريخ يقول همسا: ” أنا وانت والزمن طويل ”