بقلم :ـــ أحمد عزت سليم … مستشار التحرير
” لقد أثبتت البعثة البريطانية فى اكتشافاتها الحديثة فى منطقة أريحا أن أريحا قد دمرت فعلاً ولكن اللوحات الحجرية والأنقاض تدل على أن ذلك الدمار قد حصل فى القرن الرابع عشر ق . م وليس فى القرن الثالث عشر ق . م ” (1) ، وذلك على عكس ما تؤكده المزاعم الإسرائيلية أن الكشف قد حدث فيه ، ويكون سقوط أريحا حصل قبل قرن كامل من الخروج ، واعتبر زينون كوسيدوفسكى بناء على ذلك أن القصة التوراتية عن أريحا أسطورة خيالية لفقها مؤلفو التوراة بقصد تضخيم هالة يشوع بن نون العسكرية وأثبتت البعثة الأثرية الإنجليزية أن أريحا سقطت قبل مائة عام من ظهور إسرائيلى مصر فى أرض أريحا ، وأن الرواية تم اقتباسها من نسل أولئك الذين احتلوا أرض كنعان (2) وقدم الكهنة مؤلفو التوراة حلاً لمأزق مقاومة أهالى أريحا للإسرائيليين بظهور رجل هو رئيس جند الرب واقفاً وسيفه مسلول بيده ، وأصر بعض شراح التوراة على أن الذى ظهر لم يكن رئيس جند الرب بل هو يهوه إله إسرائيل (3) ، ويكشف لنا الدكتور محمد بيومى مهران صحة مزاعم يشوع فإنه لم يكن صحيحاً ما زعمه فى الإصحاح ” (12 : 7- 24) ” من أنه قد استولى على أملاك الحيثيين والأموريين والكنعانيين الفرزيين والحويين واليبوسيين حيث أخضع ملوك أريحا وعاى وأورشليم وحبرون ويرموت وعجلون وجازر وبيت إيل وحاصور ومجدو وقادش ودور وغيرهم ممن ذكره فى سفره وزعم أنهم واحد وثلاثون ملكاً ، وما زعمه فى ” (11 : 23) “من أنه أخذ كل الأرض حسب ما كلم الرب موسى وأعطاها ملكاً لإسرائيل ، إذ لم يمض إلا إصحاح واحد من سفر يشوع هذا حتى نراه يقول فى ” (13 : 1) ” وشاخ يشوع … وقد بقيت أرض كثيرة جداً للامتلاك ” هذا فضلاً عن أن السفر يقدم الكثير من الأدلة التى تهدم كل ما قاله عن انتصاراته المزعومة من ذلك ما جاء فى” (13: 13) ” لم يطرد بنو إسرائيل الجشوريين والمعكيين فسكن الجشورى والمعكى فى وسط إسرائيل إلى هذا اليوم ” وأن أورشليم ظلت فى أيدى اليبوسيين ، ولم ” يقدر بنو يهوذا على طردهم فسكن اليبوسيين مع بنى يهوذا فى أورشليم ” ، بل يشار بعد ذلك فى القضاة (19: 12) ” إلى أنها ” مدينة غريبة حيث ليس أحد من بنى إسرائيل هنا ” ، بل أن التاريخ ليحدثنا أن الإسرائيليين لم يستطيعوا الاستيلاء عليها إلا على أيام داود . وبعد أكثر من مائتى عام من عهد يشوع هذا .
ومنها كذلك أن بنى إفرايم ” لم يطردوا الكنعانيين الساكنين فى جازر والتى لم يتم الاستيلاء عليها إلا على أيام سليمان ” وبجيوش مصر . كما لم يقع فى أيديهم سلسلة القلاع الهامة الواقعة بين شين عبر وادى يررعيل وبين سهل إزدرايلون (مجدو) غرباً ، وقد شكا بنو يوسف من ضآلة حصتهم وضيق نصيبهم إذ حشروا فى رقعة ضيقة مع الكنعانيين الساكنين فى أرض الوادى والذين لهم مركبات من حديد ومنها أن القضاة (1: 27- 33) يقول : ” ولم يطرد منسى أهل شان وقراها ولا أهل تعنك وقراها ولا سكان دور وقراها ولا سكان بيلعام وقراها ولا سكان مجدو وقراها ، فعزم الكنعانيون على السكن فى تلك الأرض ” وأن زبلون لم يطرد سكان قطرون ولا سكان نهلول فسكن الكنعانيون فى وسطه ، ومن ناحية أخرى يقال عن أشير ” فسكن الأشيريون فى وسط الكنعانيين ، سكان الأرض لأنهم لم يطردوهم ، أما بنو دان الذين كان لهم نصيبهم ضيقاً فبحثوا عن إقليم جديد فى أقصى الشمال ، لأن الأموريين حصروهم فى الجبل ولم يفسحوا لهم المجال للنزول فى الوادى ، ويشير سفر القضاة (3: 1-7) إلى أن هناك أمماً تركها الرب ” ليمتحن بها إسرائيل ” كانت مكونة من أقطاب الفلسطينيين الخمسة وجميع الكنعانيين والصيدونيين والحويين الخمسة سكان جبل لبنان من جبل بعل حرمون إلى مدخل حماه ، وهكذا سكن إسرائيل كما يشير هذا الإصحاح الثالث فى وسط الكنعانيين والحيثيين والأموريين والفرزيين والحويين واليبوسيين وتزوجوا منهم وعبدوا آلهتهم . هكذا يبدو واضحاً أن غزو كنعان كان بعيداً عن التمام على أيام يشوع (4) ويتساءل الموندليتش كيف يتسنى تقبل حقيقة وجود مملكتين إسرائيليتين: مملكة إسرائيل فى الجنوب (مملكة يهوذا) ومملكة ثانية فى الشمال (مملكة إسرائيل) ، والعهد القديم يؤكد أن أبناء إسرائيل يجب أن يكونوا شعباً واحداً وليس شعبين منفصلين؟ ويتساءل هل أبناء المملكة الشمالية إسرائيليون حقيقيون أم أغراب ؟ الواقع أن النص يراوغ فى هذه النقطة ولا يقدم إجابة محددة وإن كنا نلاحظ أن نصوص العهد القديم تضع ضمناً أبناء المملكة الشمالية فى وضع أدنى بل وتعاملهم فى بعض الأحيان ككفار كلية . ولكننا نجد البيتين الملكيين يتصاهران دائماً أبداً ، ويعامل النص تلك الزيجات كزيجات شرعية مما يعنى فى هذا السياق بالذات أن الشماليين هم فى النهاية إسرائيليون وأبناء نفس الدين ! فهل يمكن إذن أن نعتبر المملكة الشمالية كياناً شرعياً ، ولكن التسليم بأمر كهذا ينطوى على تناقض مع ضرورة وحدة البيت المالك الإسرائيلى فى أبناء يهوذا ، والأصل الواحد لسليمان وللقدس . فوجود مملكتين يمثل إذن نوعاً من التناقض فى ذاته (5) إلا أن هذا التناقض يفسر لنا السقوط الذى آلت إليه مملكة إسرائيل المزعومة القداسة وما كان فيها من قتل وجرائم مبررة دينياً من أجل هوى كتبة ومؤلفو التوراة الكهنة مثلما بررت جريمة داود فى قتل نسل شاول ، وما انتهت إليه فى عصر ابن سليمان إلى عبادة آلهة غريبة ، فيكف النص أمام السقوط فلم يحدثنا سفرى صموئيل ولو بكلمة واحدة عن مصير شيلوه عاصمة إسرائيل آنذاك وتستروا على هذا المصير إذ حولوا أذهان الناس والقراء نحو موكب النصر الذى قام به تابوت الرب فى المدن الفلسطينية ـ كما ذكرنا من قبل ـ ليطغى على مملكة حكمتها نوبات النشوة الدينية التى كانت تتملك صموئيل وشاول وداود والأنبياء المتسكعين ، وبددت سحب العظمة فيها الخيانة والصراع ، ولم يستطع مؤلفو التوراة الكهنة أن يهيلوا عليه التناقضات التى وقعوا فيها نتيجة أنه لا وجود للحقيقة التاريخية المزعومة بل اخترعوها اختراعاً وكمثال : وإذا حاولنا الاستفسار عن كيفية وصول داود إلى حكم قصر شاول ، فإن التوراة تقدم فرضيتين مختلفتين تماماً ، فالإصحاح السادس عشر من سفر صموئيل يقول بأن داود أحضر إلى قصر شاول لأنه كان عازف عود ممتاز . وقد استحوذ على قلب الملك بعزفه ، وفى الوقت نفسه يخبرنا الإصحاح السابع عشر من نفس السفر بأن داود آثار انتباه الملك له بسبب انتصاره على جوليات ، فقاتل جوليات راع مجهول أمر شاول بإحضاره إليه وسأله : ” ابن من هذا الغلام ” إذ شاول لم يعرف داود سابقاً .
ويقدم زينون كوسيدوفيسكى مثلاً آخر حول مقتل جوليات خلال مبارزته مع داود ، فحسب سفر صموئيل الأول قتل جوليات خلال مبارزته مع داود ، أى أن داود هو قاتله ، لكننا نفاجأ عند قراءتنا لسفر صموئيل الثانى ، لأننا نعرف من هناك أنه لا علاقة لداود مطلقاً بمقتل جوليات ، بل الذى قتله هو شخص من بيت لحم اسمه ألحانان بن يعرى أرجيم (إصحاح 21 آية 109) ، ويعتبر التأكيد على أن داود أخذ رأس جوليات إلى أورشليم ، مثالاً أنموذجياً على عدم تطابق الأمور ( تزييفها ) – المنوه عنها ، إن هذه الحادثة بلا شك إضافة لاحقة للقصة ، فنحن نعرف أن داود احتل إسرائيل بعد فترة طويلة لمقتل جوليات ، وذلك بعد أن صار ملكاً على إسرائيل (6) ويرى زينون كوسيدوفيسكى أن علاقة الكهنة بالمملكة ونظرتهم إليها تظهر بشكل واضح فى النص التوراتى فشاول عدو الكهنة يصور على أنه شخصية سوداء بالرغم من أن نمط حياته قد لا يستحق الاستنكار أما داود حبيب الكهنة ، فيرفع إلى السماء وينظر إلى جرائمه وأفعاله الشنيعة بعطف وتفهم (7) وبالنسبة لنصوص التوراة فإنه يبدو مشكوكاً فيه أيضاً التأكيد على أن داود كان يهوهياً مخلصاً لربه يهوه فإذا ما كان يعبد إلهاً واحداً هو يهوه فمن أين خلق فى بيته التمثال الذى ألبسته ميكال لباسه ووضعته فى الفراش مكان داود إن ذلك التمثال صديقنا المعروف ، إنه إله المنزل ، عنصر الطقس الوثنى الممنوع ، والملاحق من قبل أتباع يهوه (8) وعندما نوى داود أن يبنى معبداً فى أورشليم قال له ناتان النبى فى حينه أن يهوه اعتاد العيش فى خيمة ، وأنه لا يريد بيتاً حجرياً ، وحسب التوراة امتنع داود عن تنفيذ خطته رغم أنه قد جهز الخشب والمعادن الثمينة من أجل بناء المعبد ، إلا إننا نقرأ ونستغرب ما تذكره الآية الثالثة من الإصحاح الخامس فى سفر الملوك الأول : ” إذ يقول سليمان فى رسالته لأحيرام الملك الفينيقى : ” أنت تعلم أن داود أبى لم يستطع أن يبنى بيتاً لاسم الرب إلهه بسبب الحروب التى أحاطت به … ” (9) فإذا عرفنا وأضفنا إلى ذلك كما تقول التوراة أن داود أخذ يجهز المواد اللازمة لبناء المعبد معتمداً على الفنيين الأجانب ونقرأ فى الأخبار الأول (22: 2-1، 14ـ 6) ” وأمر داود بجمع الأجانب الذين فى أرض إسرائيل فاتخذ نحاتين لنحت حجارة مربعة لبناء بيت الإله … وكثيرون من عاملى الشغل نحاتين وبنائين وكل حكيم فى كل عمل ” (10) ثم ما روته نصوص توراتية أخرى من أن رب إسرائيل نفسه قد منع داود أن يقيم له هيكلاً لأنه سفك دماء كثيرة … ، ومن كل هذا يتضح أن المملكة المزعومة بأنها أنصع فترات اليهود كانت فى حقيقة الأمر تطحنها الحروب وسفك الدماء والآثام ويتحكم فيها الكهنة وتعيش بلا حضارة ، متطلعة لتحقيق أقصى ما تصبو إليه من بناء للرب على يد خبراء أجانب ، فأى مملكة ناصعة هذه ، ينتهى بها الأمر إلى الانقسام والتفرق والأسر وعبادة ألهة غريبة .
المراجع :ــ
1 ) الأسطورة والحقيقة فى التوراة ص 124
2 ) الأسطورة والحقيقة فى التوراة ص 131
3 ) دراسات فى تاريخ الشرق 2 أسرائيل ص 367
4 ) نفسه ص 372
5 ) د . محمد الجوهرى ، علم الفلكلور ، دار المعارف ، القاهرة ، الطبعة الرابعة 1981 ص 286
6 ) الأسطورة والحقيقة فى التوراة ص 284
7 ) نفسه ص 286
8 ) نفسه ص 287
9 ) نفسه ص 288
10) دراسات فى تاريخ الشرق 2 أسرائيل ص 466
موضوعات تهمك:
تداخل المصادر الصهيونية الكاذبة لامتلاك أرض فلسطين
الحروب المخابرتية الذكية تصل إلى ” الإنسان المنحنى ” و ” هجرة الأدمغة “