بدء تلاشي محركات النمو الاقتصادية بالعالم، وهي مشكلة مثيرة للقلق بشكل خاص في بيئة تشغيلية متقلبة كالتي نعيشها اليوم.
نظرا لحجم الاضطرابات، لن يكون مفاجئاً إصدار صندوق النقد الدولي مراجعة هبوطية أخرى لتوقعات النمو الخاصة به، وتحديداً في أوروبا.
تواجه بلدان كثيرة قيودا سياسية أكثر صرامة ويقف تضخم مرتفع ومستمر سداً منيعاً أمام عودة حوافز السياسة النقدية التقليدية وغير التقليدية.
أعادت الحرب التجارية بين أمريكا والصين رسوم جمركية مرتفعة وإجراءات حمائية أحدثت ندوباً ضارة لفترة طويلة في جميع أنحاء الاقتصاد العالمي.
العولمة الاقتصادية والمالية تتطور بطرق تجعل من الصعب على الاقتصادات الوطنية الاستفادة من التجارة الدولية والاستثمار الأجنبي المباشر من أجل النمو المحلي.
توقعات نمو متشائمة وزيادة كبيرة بالتضخم وأجواء كئيبة من عدم اليقين وانحدار ميزان المخاطر ونبوءات متنامية بتفاقم عدم المساواة داخل البلدان وفي ما بينها.
ثلاثة تطورات رئيسية وراء النظرة الفاترة الحالية للاقتصاد: طبيعة العولمة المتغيرة؛ اعتماد مطول على معززات النمو الاصطناعي؛ فشل طويل الأمد في الاستثمار بمصادر النمو المستدام.
* * *
بقلم: محمد العريان
كان لتقرير «آفاق الاقتصاد العالمي» المعدّل والصادر عن صندوق النقد الدولي، تأثير الصدمة على المحللين. فمن النادر أن تراجع المنظمة توقعاتها للنمو الاقتصادي بهذا الهبوط الحاد بعد ربع واحد فقط من السنة الجديدة.
ومع ذلك، خفّض الصندوق توقعاته في 86% من الدول الأعضاء البالغ عددها 190 دولة، مما أدى إلى انخفاض بنسبة نقطة مئوية واحدة تقريباً في النمو العالمي لعام 2022 من 4.4% إلى 3.6%.
ترافقت هذه التوقعات مع زيادة كبيرة في أرقام التضخم، وطال الأجواء الكئيبة هذه، سواد عميق من عدم اليقين، وانحدار في ميزان المخاطر، ونبوءات متنامية بتفاقم عدم المساواة داخل البلدان وفي ما بينها.
جذب تقرير «آفاق الاقتصاد العالمي» المعدّل لصندوق النقد الدولي، قدراً كبيراً من اهتمام الصحافة العالمية ووسائل الإعلام. وانصبّ التركيز بشكل مفهوم، على حجم التعديلات الكبير نسبياً للعام الحالي، والتي يرتبط معظمها بالآثار الاقتصادية الضارة للأزمة الروسية الأوكرانية.
حيث عطلت الحرب إمدادات الذرة والغاز والمعادن والنفط والقمح، وأدت لارتفاع أسعار المدخلات المهمة كالأسمدة (المصنوعة من الغاز الطبيعي)، وأرسلت التطورات الأخيرة تحذيرات حقيقية من أزمة غذاء عالمية تلوح في الأفق، وزيادة حادة في الجوع على مستوى العالم.
وبالنظر إلى حجم الاضطرابات، لن أتفاجأ إذا أصدر صندوق النقد الدولي مراجعة هبوطية أخرى لتوقعات النمو الخاصة به في وقت لاحق من هذا العام، وتحديداً بالنسبة لأوروبا.
ولكن رغم أهمية أحداث عام 2022، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالتأثير في الشرائح الضعيفة من السكان والبلدان الهشة، يجب علينا مراقبة قراءات صندوق النقد الدولي لعام 2023؛ إذ تشير توقعات العام المقبل إلى مشكلة متوسطة المدى لا تقل أهمية عن الحاصل اليوم، وهي فقدان الفاعلية لنماذج النمو في جميع أنحاء العالم.
كما لا يتوقع الصندوق العامل على تعزيز الاستقرار المالي والتعاون في المجال النقدي على مستوى العالم، أن يتم تعويض أرقامها المخفّضة للنمو الاقتصادي العالمي لعام 2022 في عام 2023؛ بل على العكس، خفّض صندوق النقد الدولي توقعاته للعام المقبل من 3.8% إلى 3.6%، مع تطبيق تلك المراجعات على الاقتصادات المتقدمة والنامية.
ويشير المعنى الضمني هنا، إلى بدء تلاشي محركات النمو الاقتصادية في العالم، وهي مشكلة مثيرة للقلق بشكل خاص في بيئة تشغيلية متقلبة كتلك التي نعيشها اليوم، لأنها تعني أن نماذج النمو السائدة لا ترقى إلى مستوى مهمة جذب الاقتصادات من خلال الصدمات السلبية غير المتوقعة.
ومما زاد الطين بلة، أن النماذج ذاتها، فشلت أيضاً في الحفاظ على مستوى لائق من النمو الشامل خلال فترات الإجهاد الأقل.
تحضرني الآن ثلاثة تطورات رئيسية مسؤولة عن النظرة الفاترة الحالية للاقتصاد، أولاً الطبيعة المتغيرة للعولمة، وثانياً الاعتماد المطول على معززات النمو الاصطناعي، وأخيراً الفشل طويل الأمد في الاستثمار في مصادر النمو المستدام.
وهنا يمكن القول إن العولمة الاقتصادية والمالية تتطور بطرق تجعل من الصعب على الاقتصادات الوطنية الاستفادة من التجارة الدولية والاستثمار الأجنبي المباشر من أجل النمو المحلي.
وبينما أثار الوباء أسئلة جوهرية ولحظية حول الانتشار ونقاط الضعف المحتملة لسلاسل التوريد عبر الحدود، حريّ بنا أن نتذكر أن قيود التجارة والاستثمار كانت تتزايد حتى قبل ظهور فيروس كورونا.
كما نتجت عن الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، عودة الرسوم الجمركية المرتفعة، وغيرها من الإجراءات الحمائية التي أحدثت ندوباً ضارة لفترة طويلة في جميع أنحاء الاقتصاد العالمي.
جاءت هذه التطورات في وقت تواجه فيه الكثير من البلدان قيودا سياسية أكثر صرامة، ويقف التضخم المرتفع والمستمر سداً منيعاً أمام العودة إلى حوافز السياسة النقدية التقليدية وغير التقليدية.
وكما يلاحظ صندوق النقد الدولي، فإن هذه البيئة الجديدة تفرض على البنوك المركزية مقايضات سياسية حساسة للغاية وإشكالية، كما أنها تعرّض الاقتصاد الحقيقي لموجة محتملة من تقلبات الأسواق المالية.
ورغم أن نطاق الإجراءات المالية أقل محدودية مما هو عليه بالنسبة للتدابير النقدية، فإنه غير موزّع بشكل جيد بين البلدان. وبينما يتعين على الحكومات استخدام القوة المالية التي بحوزتها لحماية الفئات الأكثر ضعفاً من سكانها، يواجه البعض بالفعل، مستويات ديون مقلقة.
وتتزامن هذه التطورات مع فترة من انخفاض نمو الإنتاجية في العديد من البلدان، وهي نتيجة حتمية لإخفاقات الماضي والحاضر في الاستثمار بمحركات النمو الحقيقي، بما في ذلك البنية التحتية المادية، ورأس المال البشري.
يُمثل تقرير صندوق النقد الدولي تذكيراً مهماً لصانعي السياسات بأن عليهم الاهتمام أكثر بتوليد الابتكار، وتحسين الإنتاجية، وتقوية المحركات الأخرى للنمو الاقتصادي القوي الشامل.
وسيؤدي عدم القيام بذلك إلى زيادة مخاطر ركود النمو على المدى المتوسط بشكل غير مطمئن. وفي عالم يخضع بالفعل لتحديات مناخية واقتصادية ومالية ومؤسساتية وسياسية واجتماعية كبيرة، نجد أنفسنا أمام سيناريو لن نقدر على تحمّله.
* د. محمد العريان خبير اقتصادي دولي ورئيس المستشارين بمجموعة أليانز
المصدر: الخليج – الدوحة
موضوعات تهمك: