الآن وقد شهدنا لحظة توقيع فلاديمير بوتين رسمياً على قرارات ضم المناطق الأوكرانية الأربع إلى الاتحاد الروسي، تزامناً مع الاندفاعة العسكرية المضادة من جانب أوكرانيا واستعادة مساحات في غرب ما اقتطعته روسيا من مناطق، وكذلك مع إعلان موسكو حشد قوات بمئات الآلاف من الأفراد الإضافيين.
* * * *
بقلم: تامر منصور
هناك واقع فعلي على رقعة الحرب، يجب أن تنظر إليه وتستمع إلى تحليلات الخبراء من جميع الأطراف، لتُكوّن رؤية لك أن تعتقد أنها الأقرب إلى الحقيقة، وليس بيننا من يملك الحقيقة في جيبه، سواء أكان مصاباً بالروسوفوبيا، أو شوّشت الروسوفيليا رؤيته. من هذا المنطلق، لنقارب مدينة ليمان نموذجاً، وهي المدينة التي تفخر أوكرانيا، ويريد الغرب ـ لكل متابع للحرب الأوكرانية ـ أن يعتقد، أن تطويقها يُعد انتصاراً لا مثيل له. لم أزل أحاول، وبقدر طاقتي، أن أتقمص شخصية المتابع المحايد، برغم سخف المبالغات وركاكة السيناريوهات الغربية.
بداية، تبلغ مساحة مدينة ليمان حوالي الـ 1000 كلم2، يسكنها أقل من 25.000 مواطن هذا إن كانوا قد بقوا في أماكنهم للآن. بينما مساحة الأوبلاست (الأوكراني سابقاً) الذي تتبعه مدينة ليمان، وهو إقليم دونيتسك، تبلغ 26.500 كلم2، ويسكنه أكثر من 4 ملايين مواطن (روسي حالياً).
هذه هي المساحة الصغيرة التي تم الطبل والزمر لها إعلامياً، وهذا ينطبق أيضاً على خيرسون لكن بمساحة أكبر. تصوير هذه الإختراقات على أنها انتصارات ساحقة لأوكرانيا، وهزيمة مذلة لروسيا، يحمل الكثير من البروباجندا، والتمنيات وربما العجلة في إصدار الأحكام. هذا النموذج غرضه توضيح الفارق الضخم، بين ما يجري على أرض الواقع، وبين ما يريدون للعالم تصديقه من بروباجندا، كجزء من الحرب النفسية، التي تستهدف في الحقيقة المواطن الروسي الذي يراد له أن يفقد “إيمانه” بامكانية انتصار بلده عسكرياً، وأن يشعر بأن الخسائر البشرية والمالية وتبعات العقوبات الدولية على الاقتصاد الروسي، كلها ذهبت سدى، فينقلب على نظامه الحاكم، كما تحلم أمريكا وباقي حلفائها، وفق هذا السيناريو.
للمناسبة، هو سيناريو ركيك وخطير في الوقت ذاته. روسيا ضعيفة، بوتين غبي، الدب يسقط صريعاً، قاطعوا روسيا، أوكرانيا تستعيد أراضيها، كل هجمات روسيا تم صدها، كل دفاعات روسيا تم اختراقها، روسيا ترجع إلى الخلف، تاركة أسلحة يلتقطها الأوكرانيون ليحاربونهم بها، شكراً روسيا.
“بصحتكم يا شباب”! أليس هذا ما تريد أن تحمله لك مانشيتات الأخبار وعناوين التقارير الصادرة عن الجانب الأمريكي/الأطلنطي حالياً؟ الحقيقة تتمثل في عدم وضوح خطة استراتيجية للاندفاعة العسكرية الأوكرانية.
فما قامت كييف بتنفيذه، كما يقول الكثير من المحللين، هو تطويق ما أمكن تطويقه، وما لم تهتم روسيا مؤقتاً بالتصدي لمحاولة الحفاظ عليه، استعداداً للجولة الثانية من العملية العسكرية بعد الحشد الجزئي الذي دعت إليه موسكو بقرار إعلان التعبئة العامة الجزئية. بل يذهب بعض المحللين، إلى القول إأن مدينة ليمان لم تكن من الأساس، ضمن باقة الخطوط الروسية الحمر.
لكن التساؤل الأهم في رأيي هو، لماذا لم تُكمل القوات الأوكرانية المدعومة عسكرياً من أمريكا وحلف الناتو، تقدمها نحو ما هو أبعد من ليمان؟ تأتي الإجابة كالآتي: لأنها واجهت خطوط تحصين روسية، وتلك هي التي تمثل الخط الأحمر الحقيقي (المرحلي)، وعند هذا الحد توقف التقدم الأوكراني. هذه الاندفاعة العسكرية المضادة من جانب القوات الأوكرانية، لم تكن مدروسة بل متسرعة وعشوائية، كونها لا تندرج ضمن تكتيكات واثقة وخطة استراتيجية أكبر، والأهم أنها غير قابلة للاستمرار.
هي مجرد حملة للحصول على ما يمكن الحصول عليه واستبدال بعض الأعلام الروسية بالأوكرانية أمام الكاميرات، نتيجة للدفع من جانب من يرسلون الأسلحة والمساعدات، لوكز الدب الروسي، قبل أن يحشد قواته الإضافية، فمن غير المنطقي أن يتوقع أي متابع، أن يُترك لروسيا طريق النصر مفروشاً بالورود. ويمكن أن تعد خطوة مثل عملية التخريب التي جرت لخط نوردستريم 1، أكثر أهمية من تقدم عسكري يصعب توقع حفاظ القوات الأوكرانية عليه طويلاً، إذا قررت روسيا قصفها من داخل أراضيها.. طبعاً إن اتخذت قراراً بذلك.
لا شك في أن الهدف هو تصعيب الأمر على بوتين، وصنع موجة إحباط وارتباك سيكولوجية للجندي الروسي في الميدان، وأيضاً للمدني الروسي المتابع من داخل بلاده. والهدف من ذلك، مفهوم كما أسلفت: تأليب الرأي العام الروسي ضد قيادته.
تساؤل آخر؛ هذا التقدم الذي حقّقته أوكرانيا، وفضّلت روسيا مرحلياً عدم إهدار موارد بشرية، عسكرية ومالية للتصدي له، وتركيزها على خطوط مواجهة أخرى سيأتي ذكرها لاحقاً، هل يُدلّل على أن أوكرانيا قادرة على استعادة كامل أراضي دونيتسك، لوجانسك، خيرسون زابوريجيا أو القرم؟ بل وإزاحة بوتين من الحكم كما نسمع البعض يُردد؟ سأترك الإجابة للقارئ، لأحاول المحافظة على حيادي غير المحايد!. لكنني سأقول، إنه إذا كانت أوكرانيا قادرة على استرداد كل هذه المساحات، وتثبيت أقدامها فيها، لماذا قررت التوقف عند ليمان؟
علامة استفهام أخرى تطرح نفسها، لماذا لم يبادر من هلّل للتقدم العسكري الأوكراني في ليمان، إلى إلقاء نظرة على التقدم المضطرد للقوات الروسية نحو مدينة باخموت، الواقعة في أوبلاست دونيتسك. وهي التي تعد أقوى خطوط التحصين الأوكرانية منذ بداية الحرب. وهذا هو الخط الذي تسعى روسيا لكسره. حيث يرى بعض المحللين العسكريين، أن هدف روسيا هو إختراق خط تحصينات أوكرانيا في أقوى نقاطه، لتتموضع في باخموت، ومنها تشن قصفها البعيد، ثم زحفها البطيء، بهدف تفكيك جميع الخطوط الدفاعية المتصلة به في كلا الاتجاهين.
لكن يبدو أن الجميع سيتنظر خطوة الحشد العسكري الروسي عبر إستجلاب قوات إضافية، بما في ذلك كل قادر على الخدمة العسكرية ممن تم توطينهم بجوازات سفر روسية في الأقاليم التي تم ضمها للاتحاد الروسي، لكي تتمكن من تنفيذ عملية عسكرية تحاول من خلالها حفظ الأراضي الروسية المقتطعة حديثاً. نقتبس فقرة من مقال بجريدة نيويورك تايمز الأمريكية، نشر بتاريخ 14 سبتمبر/أيلول 2022: “في الأسابيع الأخيرة، اقتربت القوات الروسية أكثر من ضواحي باخموت من الشرق والجنوب، وكسبت الأرض عن طريق القصف المتواصل والتقدم الزاحف للقوات”.
فهل هذا هو ما دفع القوات الأوكرانية، بإيعاز من المُخَطِط العسكري الخارجي بالطبع، للتقدم نحو مدينة خاركيف، التي تقع على بعد 120 كلم شمال غرب مدينة باخموت. في محاولة واضحة لتعزيز خط تحصين، أغلب الظن، أنه كان قاب قوسين وأدنى من الإختراق؟ المحزن في الأمر، هو استطالة أمد الحرب، وزيادة عذابات السكان الذين حاروا، أيغادرون بيوتهم، أم يبقوا آملين في انتهاء القصف من أي من الجانبين، مهما كانت الدولة التي ستسميهم مواطنيها في النهاية، فأغلب الناس لا يرغبون إلا العيش بسلام. لكن تضارب مصالح الكبار، وإصرار أمريكا على تركيع الدب، فوق رقعة الشطرنج المسماة أوكرانيا، وكل رقعة أخرى إن أمكن؛ وفي المقابل، فإن التزام روسيا بحماية مصالحها، ورفضها الانصياع لمحاولات التركيع من قبل القطب الأمريكي، لا يوحي بالسلام القريب حتى الآن.
هذا هو الواقع دون بروباجندا ومبالغات غربية فجة. فالدعاية والدعاية المضادة وصلت إلى مرحلة كان يمكن وصفها بالكوميدية إن لم يكن الأمر يتعلق بحرب. مانشيتات أوكرانية، تنقلها مواقع أوروبية غير جادة. بينما أي محلل جاد يحاول رؤية الحقيقة، يدرك أن في الأمر، دعاية خادعة، وهو أمر متوقع ومفهوم في أوقات الحروب. لكن تصديقه ورسم مشهد نهاية على أساسه، هو الأمر الذي لا يعقل.
يذهب بعض المحللين إلى أن المقارنة الأقرب لما تفعله أوكرانيا حالياً بالحجم المصغر، هو مع معركة الثغرة Battle of the Bulge، الشهيرة بمسمى هجوم الأردين The Ardennes Offensive، الذي قامت به قوات ألمانيا النازية بدءاً من 16 ديسمبر/كانون الاول 1944، حتى 25 يناير/حزيران 1945. كانت هذه الهجمة، هي المحاولة العسكرية الأخيرة لألمانيا النازية لمحاولة السيطرة على مدينة وميناء أنتويرب ببلجيكا على الجبهة الغربية. وقد فاجأ هذا الهجوم القوات الأمريكية بالفعل، لكن هذه المحاولة الأخيرة اليائسة ، لم تغير شيئاً في مآل الأمور.
لذا، أدعوك يا عزيزي الروسوفوب، أن تتمهل قليلاً قبل رسم مشهد النهاية الحالم بدحر بوتين ووصف تقدم أوكرانيا بالصمود البطولي. التمهل ذاته أرجوه من عزيزي الروسوفايل أيضاً قبل وصفه للاندفاعة الأوكرانية بالمقاومة البائسة. فالأمر ليس مشهداً سينمائياً في فيلم الموسم ولا مبارة ملاكمة تنتظر نهايتها بالضربة القاضية. الأمر أكبر بكثير من ذاك وتلك. وما أوكرانيا إلا الرقعة الحالية التي تدور عليها الحرب الفاترة.
اسمحوا لي أن أختم بتكرار لكلماتي في مقال سابق بتاريخ 19 مارس/آذار 2022: ” أطرح رؤية مفادها أنه حتى لو خسر بوتين في نظر الكثيرين في نهاية هذه الجولة من المواجهة، لن يستطيع أحد إنكار أن النظام العالمي الذي بني وترسخ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، جرت زعزعته باستمرار واضطراد. ولينشغل إذن جميع محللي الأرض في مناقشة الموداس أوبيراندي Modus Operandi التي يتبعها بوتين. بينما ينجح هو من خلالها في تغيير الستاتس كو Status Quo المرة بعد الأخرى”.
- تامر منصور كاتب صحفي
المصدر: 180 بوست
موضوعات تهمك: