(المقال الثامن والأخير من سلسلة مقالات وعددها 8 مقالات، للمفكر في الشؤون اليهودية والصهيونية، أحمد عزت سليم، في نقده لقانون “القومية اليهودي”، لمطالعة ما سبق: المقال الأول والثاني والثالث والرابع، والخامس، والسادس، والسابع).
ولكن الأمر لا يتوقف عند هذه المزاعم فاليهودى فوق المقدس ذاته والإله يندم من أجله بل لم يعد الإله جلد على اللعب والرقص بعد هدم الهيكل واعترف بخطيئته وندمه على ما فعله ، واعتبر أنه ارتكب خطيئة ثقيلة وهذه الخطيئة أنهكت ضميره الحى حتى أنه قد خصص ثلاثة أرباع الليل للبكاء والندم ، وكان إذا بكى سقطت من عينيه دمعتان فى البحر تسبب اضطراب الحياة وارتجاف الأرض وتنجم عن سقوطها الزلازل ، هكذا يدفع غير اليهود ثمن خطيئة الرب ، فترجف الأرض وتتوالى الزلازل التى تهلكهم ثم أن الرب يصرخ على خطيئته فى حق اليهود قائلاً : الويل لى … الويل لى .. والويل للذى يمجد أبناءه .. الذى قضى عليهم بالتشريد .. لأنه يصبح غير أهل لذلك ” كما أن قرارات الحاخامات فوق قرارات الإله إذا تعارضت معه ، فالإله لا يساوى اليهودى ولكن اليهودى يفوقه ويسأله ويلومه ولا يثق فيه ولا يصدقه ، حتى أن الإله المستمر فى الخضوع لهم يتساءل ” حتى متى لا يصدقوننى”.
ولأنهم اختياره ـوللاختيار عبءـ فقد جعلهم “مملكة كهنة، وأمة مقدسة” وأصبحت الدولة الصهيونية هى سند العرش الإلهي على الأرض ، ويقول الحاخام جيتسبرج فى مقال نشره عام 1996 بجريدة الأسبوع اليهودى بنيويورك: إذا شاهدت شخصين يشرفان على الغرق أحدهما يهودى والآخر غير يهودى، فإن التوراة تقول يجب عليك أن تنقذ اليهودى أولاً، وأضاف قائلا : إذا كانت كل خلية بسيطة فى جسد اليهودى تحتوى على ألوهيته فهى جزء من الرب وبذلك فإن كل ضرب من ضروب الحمض النووى الأميني DNA هو جزء من الرب، ولهذا فإن هناك شيئا ما مميزاً فى الأحماض النووية الأمينية اليهودية، وتساءل قائلا: إذا كان هناك يهودى يحتاج إلى كبد فهل يمكنك أن تأخذ كبد شخص غير يهودى برئ يمر بالصدفة من أجل إنقاذه؟ إن التوراة تجيز لك ذلك فالحياة اليهودية لا تقدر بثمن.. إن هناك شيئاً ما أكثر قداسة وتفردا بشأن الحياة اليهودية أكثر من الحياة غير اليهودية ” (10) وجاء فى تلمود أورشليم (ص94) أن النطفة المخلوق منها باقى الشعوب الخارجين عن الديانة اليهودية “نطفة حصان”.
وهذا التعارض المزعوم بين الآخر الملوث الملعون المدنس وبين هذا اليهودى المقدس هو تعارض بين عالمين غير متجانسين وغير متقابلين وبشكل جذرى فالآخر المدنس لا يأكل الكوشير ولذا فالتعامل معهم ” يخرب الأرواح اليهودية ويحرمها من دخول الجنة “فهو ليس إنساناً”، فهو يقتل مع خرافه وأبقاره حتى لو كان من الأخيار، وأطفاله الرضع مع رضع الحمير والبهائم، ولا نصيب لهم سوى البكاء لما فيه من الظلام والعفونة والطين “(11) ومن هنا لابد من الامتناع عن أية علاقة مع الأشياء النجسة قد تنشأ مع الأطهار البررة المقدسين الذى حل فيهم الإله والذين يمتلكون الشريعة ويستحقون أن ينخضع العالم لهم فسلطتهم هى سلطة من حل فيهم، وهم مع امتلاكهم الشريعة الحقة قد أصبحت سلطتهم أبدية سرمدية ، هى ذاتها أبدية الإله والشريعة، وهذه الأزلية والأبدية جعلت” أنوف اليهود لا يمكن إصلاحها وشعر اليهودالأسود، المتموج، لا يمكن أن يصبح أشقراً ولا يمكن فرد تجاعيده بالتمشيط المستمر، والجنس اليهودى من الأجناس الأولى للبشرية التى حافظت على سلامتها، برغم التغير المستمر فى مناخ بيئتها، واحتفظ النوع بنقائه عبر القرون ” ( 12 ) كما يرى موسى هس.
وهذه الأبدية والأزلية والثبات المزعوم تجعل التقدم هو عودة إلى الوراء خارج مسيرة التاريخ الإنسانى حيث الزمن الماضوى هو الذى يصبح زمن الحاضر، والإلهى الماضوى هو الذى يدير حركة الزمن طبقاً للمخطط الإلهى من آدم إلى نوح ومن نوح إلى إبراهيم ومن إبراهيم إلى يعقوب ومنه إلى داود ومنه إلى الأسر البابلى ومن ذلك إلى الشتات ثم عودة إلى عودة الماسيح المخلص فى النقلة التالية حيث راحة الإله وراحة الإبن مع الإله!
ـ فهل سينزل الماسيح فى هذا العصر لابساً الجينز وتى شيرت عليه صورة مادونا وحاملاً لكمبيوتر محمول وهاتف جوال تتش ويتخذ له مواقعا على صفحات التواصل الاجتماعى الفيس بوك والتويتر!؟
ـ لا، فطبقاً للمخطط اللاهوتى الماضوى الذى لا يكون التاريخ منه إلا بتدبير الإله الذى حل فى الشعب، وأصبح سلطة فوقية متعالية فوق الآخرين وأصبح على الأرض يقوم مقام الإله فيصير له الامتياز الذى أخذه بـ “ميثاق الكهنوت” إلى الأبد، فيعود الماسيح على جحش ابن أتان، وتطرح الأرض فطيراً وملابساً من الصوف وقمحاً حبه بقدر كلاوى الثيران الكبيرة ، وفى ذلك الزمن ترجع السلطة لليهود، وكل الأمم تخدم ذلك الماسيح وتنخضع له، وفى ذاك الوقت يكون لكل يهودى ألفان وثمانمائة عبد يخدمونه وثلاثمائة وعشرة أكوان تحت سلطته كما يقول التلمود ، وترى الناس كلهم حينئذ يدخلون فى دين اليهود أفواجاً ويقبلون كلهم ماعدا المسيحيين فأنهم يهلكون لأنهم من نسل الشيطان، ويقيم الرب كرسى ملك سليمان وذريته على إسرائيل إلى الأبد.
وجدلية هذا الأبد تنتهى بالأبد فإذا غضب الرب من شعبه ندم وكف أبده عنهم كما كف سيفه عن بيت داود إلى الأبد، يقوم الشعب ـ إلى الأبد ـ كما تقول التوراة كلبؤة ويرتفع كأسد لاينام حتى يأكل فريسة ويشرب دم قتلى ، وكما يقول الحاخام كوهين فى التلمود : سكان الأرض قسمان: إسرائيل والشعوب الأخرى منظوراً إليها ككل يتسلط عليها الرب ـ إلى الأبد ـ، والشعب الذى حل فيه ، كقربان يجب أن يتم بطريقه شرعية كفريسة للشعب المختار الذى يستحق الحياة الأبدية وكما قال الرابى (البو): سلط الرب اليهود على أموال باقى الأمم ودمائهم” (13) هكذا يتمركز ويتمحور لاهوت الأبدية حول الذبيحة ويصير صفة ملازمة يتعذر أن يكون اليهودى بدونها، كما يدعو هذا اللاهوت ، ومشكلاً لذاته وعياً عنصرياً معبراً عن نفسه من خلال النصوص الدينية والقيم التى تتفجر منه وترتبط بآليات النشاط الباطنى النفسى والتى تستوعب ماهيته وتشكل حركته وسلوكه وشعائره من طبيعته العنصرية الخاصة فتنفضح منطلقاته العنصرية الصهيونية اللاإنسانية وزيف الفرادة والعبقرية والتى وصفها هنرى فورد بالعبقرية الطفيلية، ويصبح بها هو الأعلى والشعوب الأخرى هى الدنيا تلك التى يستوجب عليها الانخضاع وقبول العبودية صاغرة.
أن هذا الوعى العنصرى وهو ينمو فى بيئته المادية الموضوعية والتى عاشتها الجماعات اليهودية فى العالم، وخاصة أوربا، وانخلقت منها الدولة الصهيونية الإسرائيلية كقاعدة إمبريالية غربية ذات وظيفة استيطانية إحلالية، قد ازداد بداخلها وغاص فى تفاعلاتها وأحاطها كجيتو لاهوتى يوفر لأفراده الحماية النفسية والروحية والطمأنينة وراحة الضمير أثناء عمليات الاستيطان والإحلال، وراحة البال وهم يمارسون دورهم الوظيفى بالسرقة والنهب والقتل، ثم هو يطلق مع الخرافات التى تحتويه قداسة وربانية مزعومة، ووهم بالقوة المدهشة التى لا تقهر ولا تقاوم وذلك بغية تسييد نموذجه الإحلالى الاستيطانى بإضعاف الهمة فى مقاومته والوحدة فى مواجهته، وادعاء أقصى درجات الحلول الإلهى والتجاوز البشرى بإلحاق أكبر درجات الضرر والأذى والفوضى والتشويه وعزل المقاومة عن بيئتها الشعبية ثم بكل وضوح كالشمس الحارقة تدفعه الآلة الاستعمارية الغربية لكونه قاعدة استراتيجية وجزءاً من الصراع الحضارى مع العروبة والإسلام، فيتبدى فائقاً قاهراً متسيداً، فى حين أن عوامل الفناء والموت والتآكل تمسك بتلابيبه كلما ازدادت المقاومة قدرة على البقاء والتمسك بأرضها والتترس بعقيدتها وبتراثها وخيارها النضالى وقد جاءت المقاومة اللبنانية والانتفاضة والفلسطينية لتنهيا مزاعم هذا اللاهوت العنصرى الصهيونى فى التفوق والنقاء والصفاء والخصوصية والحلول الإلهى والتجاوز، ويتراجع كل هذا أمام إبداع المقاومة الذى عجزت عن إدراكه أجهزتها المعرفية ومؤسساتها التحليلية والاستخباراتية كما عجزت عن إيقافها آلتها العسكرية الوظيفية “دولة إسرائيل” والتى أصابها الفشل فى القيام بدورها الوظيفى كقاعدة غربية إمبريالية عجزت عن حماية أمن مستوطنيها وعجزت الآلة الغربية الاستعمارية عن دفع الهزيمة عنها وبقاؤها آمنة من صواريخ القسام وخيبر وحجارة الأطفال فى الأراضى الفلسطينية، ويحتوى كل هذا مقاومة تعبرعن ثقافة نضالية تجاوزت المتوقع وتعانقت بقوة مع واقعها الحياتى المنتج حركتها المستمرة وإمكاناته الثورية المبدعة وماهية نضالية، لا تموت ولا تنقهر ولا تنحنى، وضد نظام عالمى تدفعه قوة استعمارية رافعة لواء حكم القانون الذى تغذيه دوافع لاهوتية عنصرية راح ضحيتها الملايين من البشر.