ماذا يريدون؟
بعد خطاب الأمين العام لحزب الله مساء الجمعة 13 كانون الأول-ديسمبر، اتضح أن الصورة ليست واضحة.
فالطبقة الحاكمة عاجزة عن إقامة نصاب سياسي بعد عاصفة الانتفاضة الشعبية التي لا تهدأ. وعجزها ليس مجرد تعبير عن خواء لعبة الكراسي والمحاصصة فقط، بل هو أيضاً تعبير عن عدم القدرة على استنباط حلول لكارثة اقتصادية واجتماعة صنعتها هذه الطبقة بجشعها ونهبها.
سليم صفير، رئيس جمعية أصحاب المصارف، أتحفنا بإنجازات جمعيته، في مقال نشره في «النهار»، صباح اليوم نفسه الذي ألقى فيه السيد نصر الله خطابه، كأن الرجلين كانا على موعد.
صفير لا يرى أبواب المصارف وقد صارت حكاية الناس اليومية مع مدخراتهم المصادرة، ويتفاخر بقطاع احترف توظيف أموال المودعين في الدين العام، أي في أكبر عملية نهب في تاريخنا المعاصر.
صفير لا يرى، وأمين عام حزب الله لا يريد أن يرى. غريب أمر هذا التحالف بين المصارف وحزب المقاومة والممانعة!
نصر الله يأخذنا إلى ميتافيزياء الصراع مع أمريكا كي يفسر لماذا طارت أموال اللبنانيات واللبنانيين، ولا يرى فساداً ونهباً، وصفير لا يرى سوى قطاع مستقر، مؤكداً على ضرورة تشكيل حكومة، كي يحافظ الاستقرار على استقراره!
هذه هي معادلة السلطة الفعلية، أما تهويمات باسيل عن الانتقال إلى المعارضة، وأحلام سعد الحريري السعيدة، وإصرار نبيه بري على لعب دور ميليشيا النظام وضابط البرلمان، وإلى آخره… فليست سوى تعبير عن العجز والبقاء في مربع الكراسي الذي حولته الانتفاضة إلى ركام.
اللعبة الحقيقية تدور بين قطبي الحياة السياسية: جمعية أصحاب المصارف، والحزب المسلّح، والطريف أن الطرفين يلعبان «الغميضة».
نصرالله بصفته حامي النظام يريد الاستقرار ولمّ صفوف طبقة متهالكة، وصفير يريد الاستقرار أيضاً واستعادة الثقة بالمصارف. نصر الله تبنّى في الماضي مطالب ما أطلق عليه اسم «الحراك»، وصفير بشّرنا بأن أصحاب المصارف إصلاحيون أكثر من الثوار! لكن الرجلين يدعواننا اليوم إلى تناسي المطالب، لأن المطلوب هو العودة إلى ما قبل 17 تشرين- أكتوبر.
الرجلان في المأزق، ومأزقهما نابع من نفاد القدرة على الإقناع، واضمحلال الخطاب السياسي لطبقة أصيبت بالعجز والخَرس.
في السياسة يجد حزب الله نفسه عالقاً في ثلاث مصائد:
1. مصيدة التيار العوني، الذي عُرف عن مؤسسه العناد والذهاب إلى مغامرات غير محسوبة النتائج. وقد ورث الباسيل هذا العناد عن عمه. صحيح أن وزير العهد يبدو كاريكاتيريا في موقع زعامة كانت تتألق فيها نجوم الجنرال، لكن هذا لا يمنعه من التذاكي.
والقول إنه سيلعب دورين، من فوق بواسطة رئيس الجمهورية ومن تحت بواسطة نواب التيار. أي أنه سيحكم ويعارض، يعرقل ويتذاكى. والطريف أنه أهدى مقاعد تياره الوزارية إلى «الحراك» الذي ألّف على شرفه أهزوجة «الهيلا هو». و»الحراك» الذي اتُهم بالعمالة للسفارات، سوف يهديه نصر الله مقاعد وزارية!
2. مصيدة التحالف مع نبيه بري، وهي مصيدة شلّت قدرة نصرالله على المناورة، وأوقعته في خانة مذهبية مقفلة، حولت مشروع المقاومة إلى تفصيل داخل الاصطفافات الطائفية والمذهبية.
3. ومصيدة الحريري، المصرّ على تطبيق إصلاحات «سيدر» وصندوق النقد الدولي، أي أن السيد سيجد نفسه عاجزاً عن مواجهة نظام العقوبات، وحليفاً لحلفائها. كما أن مصيدة الحريري تقود إلى مصيدة المصارف ومصيدة حماية قرارات الحاكم بأمرهم، السيد رياض سلامة.
هذه المصائد الثلاث تشير إلى حقيقة أن الطبقة الحاكمة لا تعي ماذا يجري في الشارع، ولم تفهم أن هناك انتفاضة شعبية، وأن الناس لم تعد تصدّق «وعود» الطبقة الحاكمة، ولا تخاف وعيدها.
ونصر الله، وهو يمثل المصلحة العليا للنظام الأوليغارشي، وحامي الطغمة الحاكمة، والذي لم يرشق المصارف وسياساتها الوحشية بوردة، يجد نفسه عاجزاً عن إنقاذ الطبقة الحاكمة من نفسها ومن جشعها السلطوي الذي يهدد بالإطاحة بها.
مرد هذا العجز ليس قلة الحنكة السياسية، ولا غياب الكاريزما، فالسيد عُرف بحنكته وبهالة كاريزمية حولته إلى الزعيم الأعلى في لبنان، بل هو الأزمة البنيوية في النظام، التي جعلت الشعب يخرج عن طاعة زعمائه وطوائفه، ويتهمهم كلهم بالسرقة والنهب والفساد والتشبيح. فالأزمة لا تعالج بحكومة وفاق ومحاصصة، بل تحتاج إلى تغيير جذري في قوانين اللعبة.
صفير وجمعيته ومعهم الحاكم رياض سلامة، علقوا في اللعبة، ولا يجدون مخرجاً سوى في مزيد من الديون ولحس المبرد، وتدفيع المودعين ثمن تمويل المصارف للمافيا الحاكمة وشراكتهم معاً.
ونصر الله يجد نفسه عالقاً في نظام اعتقد أنه سيطر عليه وجيّره في الصراع الإقليمي، واليوم يكتشف حدود هذه السيطرة وثمنها.
حدود السيطرة هو عدم استقرار النظام الإقليمي، والاضطرار إلى الالتحام بالنظام الطائفي الذي يشكل مظلة حماية داخاية.
أما ثمنها فكبير جداً، وهو أن تتحول المقاومة الإسلامية إلى الحارس الأول للمصارف وللاقتصاد الريعي، أي حارسا لهاوية الإفقار والتجويع.
والمفارقة المحزنة هي أن خطاب العداء لأمريكا وسياساتها في المنطقة، وهي سياسات تدعم الاحتلال الإسرائيلي، وتسعى إلى الاستمرار في نهب المنطقة وتسليط المستبدين على شعوبها، هذا الخطاب أفرغ من معناه.
شرط مقاومة هذه السياسات هو حرية الشعب. كيف يقاوم من يحرس جوعنا وإذلالنا؟ وكيف نؤيد نظام الأوليغارشية الفاسدة باعتباره نظاماً ممانعاً؟
هذا عين الهراء.
خلاصة القول أن الطبقة الحاكمة صارت عاجزة عن الحكم.
ولبنان أمام أزمة طويلة حبلى بالاحتمالات والمفاجآت.
موضوعات تهمك:
عذراً التعليقات مغلقة