يحدث في جنوب العالم: مأساه اليمن الراهنة!
هذه الشهادات – الأصوات إصبع في عين القتلة وكلاب الصيد الذين يختبئون خلفهم، هي أيضاً ذاكرة ضد النسيان، ضد التجاهل، ضد اللامبالاة، عزاء وسلام لأرواح كل الذين قُتلوا وتركوا ورائهم أحبة يتذكرونهم.
بقلم: بشرى المقطري
… في أحلامي، تصمت الحرب. لا قذائف، لا غارات، لا قتل، لا مجاعة، لا خوف، لا ضغينة. أصحو من خيالاتي فتكون الحرب لا تزال مستمرة كما هي منذ اندلاعها قبل أربعة أعوام. تُضيء غارات الطائرات ليل صنعاء، ويتناهى إليّ صافرات سيارات الإسعاف تقطع صمت الليل. وأفكّر فيما أنا أكتب في الزمن الذي قطعته الحرب لتصل إلينا، لكن الحرب لا تظهر هكذا فجأة، بل تأخذ زمناً طويلاً، دورة تاريخية، عقود، سنين، كي تُدفع إلى حياتنا. أتذكر الرأس العائم للحرب الذي بدا واضحاً لا تخطئه العين. كان ذلك في الأسابيع الأولى من آذار/ مارس 2015، لكننا لم نفتح عيوننا جيداً لنرى، أو كنّا نرى ولا ندرك أن ما نراه هو نُذر الحرب الآتية. المليشيات في شوارع المدينة، ليس أبداً كيوم سقوط “صنعاء”، كنت ترى في الساعات الأولى من الليل عربات مُصفحة ومسلحين قَبَلِيين يرتدون زيَّ الجيش، وتحرك المعسكرات في في الطرقات البرية التي يعبُرها المسافرون. أتذكر رؤيتي لقاطرات عسكرية في الطريق البري من صنعاء إلى عدن، كانت تتقدم ببطء في الممر الجبلي، معرقلة مرور السيارات المدنية. رأيتُ قاطرات عسكرية تحمل مدرعات يبدو بعضها أنها أُخرج للتوّ من المخازن، ثم في صف طويل، قاذفات صواريخ، مُعدلات، رشاشات، يحرسها جنود متعبون، قاطرات أخرى على ظهرها جنود مكدسون، بعضهم كان يبتسم بغباء لسائقي البيجوهات، ثم سيارات شرطة عسكرية تحرس الجيش الذي كان يتجه إلى جنوب البلاد.
وصلتُ إلى مدينة “عدن” في الأسبوع الثاني من شهر مارس. كانت القذائف تهزّ جنبات المدينة، المليشيات تقصف قصر الرئاسة في منطقة “مَعَاشِيق”، مدرعات الجيش في الشوارع الرئيسية. على وقع المدافع، يستعيد الأهالي ذكرياتهم المريرة لحرب صيف 1994، لكنهم لم يدركوا أن حرباً أخرى أكثر دموية تنتظرهم. في الثالث والعشرين من مارس أُتخذ قرار الحرب، الدبلوماسيون والموظفون الدوليون يغادرون مدينة صنعاء، أغلقت السفارات الأجنبية أبوابها وأجلت رعاياها، غادر أيضاً قيادات الأحزاب السياسية مع أسرهم، ودعتُ بعضهم بنية طيبة بالسلامة، لم أظنّ أنهم استشعروا قدوم الحرب، وفضلوا كعادتهم الفرار وتركنا لمصيرنا.
ظننتُ حينها أن العالم المتحضر لن يتركنا لحماقة السياسيين وجنرالات الحرب، وأن هذا العالم لن يقف متفرجاً على حُطامنا القادم، سيتدخل هذا العالم الذي لا أستطيع تحديده، اليوم أو غداً، ربما بعد الغد، سيُوقف سَوقُنا كقطيع أعمى إلى الهاوية. وحين اخترقت مقاتلات “التحالف العربي” سماء العاصمة صنعاء، في الساعة الثانية من فجر الخميس، السادس والعشرون من مارس، أُخرجت الحرب للوجود. ما رسخ في ذاكرتي من ذلك الفجر ليس دويَّ الانفجارات ولا هدير الطائرات حين تخترق حاجز الصوت باعثة الرعب، ولا ترقبي القلق لمسار الصواريخ حين تُصيب أهدافاً بعيدة عن مجال رؤيتي، ليس أبداً أصوات الحرب التي اعتدتها الآن، بل صدمة اختلاق الحرب وانهيار الحياة دفعة واحدة، الاقتتال الأهلي، ذُلّ الجوع والمهانة، خيبات جيلنا حين قرر الجنرالات الذهاب إلى الحرب، مُقسِّمين المواطنين إلى معسكرين يتقاتلان، وتحويل الأكثرية منا إلى ضحايا أو كائنات بلا حناجر.
* * *
لستُ معنية بسرد الحقائق السياسية للحرب، لكني ارتأيتُ أن أدون في هذه الصفحات، كمقدمة لهذا الكتاب، ما عَلقَ في رأسي من مرارة الحرب التي نعيشها، وتقطيراً لما رأته عيناي وخبرته ذاتي من صور الحرب واختفاء مظاهر الحياة، ما ترسخ في نفسي من أذى وهزيمة حين داس عَرّابِو الحرب على الوطنيةَ والسيادةَ والوحدةَ الوطنية تحت بياداتهم الثقيلة. لكن كيف يمكن اختزال حياتنا في ظل حرب أتت على كل شيء؟ ما أدركه جيداً أننا ارتددنا إلى عصور ما قبل الحضارة، انقطعت الكهرباء في جميع المدن، فعشنا على ضوء الشمع وفوانيس الجاز التي استخدمها أجدادنا، وحين نفذ الغاز المنزلي، لجأ الأهالي إلى قطع الأشجار لاستخدامها في مواقد الحَطب. لا ماء صالحاً للشرب، لذا فإن رؤية طوابير الأطفال وكبار السن، وهم يحملون أواني فارغة لتعبئتها من عربات المياه التي يتبرع بها الطيبون أصبح مشهداً يومياً. سترى الفقر أينما حللت: مواطنون فقدوا أعمالهم ومصادر دخلهم، أُفقِروا حتى لا يسألوا عن معنى حرب تأخذ أرواحهم، أطفال ونساء يقتاتون على بقايا الطعام من النفايات، أسر نائمة في العراء، نازحون نسيهم العالم في مخيمات البؤس على أطراف المدن. جٌرِّد المواطنون من حقوقهم المدنية، حاصرهم المتقاتلون والدول التي تدخلت عسكرياً في بلادهم، إذ أغلقت قيادة “التحالف العربي” المنافذ البحرية والبرية والأجواء الوطنية، عَلِق آلاف المواطنون في الخارج، وحين أعاد التحالف فتح مطار “عدن الدولي”، لم تتغير مرارة الحصار. لا تقلع طائرة من المجال الوطني إلا بعد موافقة قيادة التحالف، يسرد أصدقاء مرارة إذلالهم في مطار “بيشة”، تتشمّم الكلاب البوليسية أمتعتهم كمجرمين، تَنتهك دولة أخرى حقوقهم. حتى أغلق التحالف مطار صنعاء ليتضاعف حصار المواطنين.
في أعلى البؤس الذي نعيشه، سترى عالماً آخر، فيلات جديدة تمتد متاريسها الإسمنتية لأكثر من شارع، عمارات شاهقة تبرق فخامتها في الأزقة الخلفية المتربة، مولات فخمة، محطات بترول جديدة، شركات صرافة، مستشفيات ومدارس خاصة بُنيت من نهب إيرادات الدولة. كان هذا عالم أغنياء الحرب الجدد، تجار الحرب والسوق السوداء، أقرباء جماعة الحوثي وصالح وأسرها ومتنفذيها وأصهارها. توسع عالم الحرب المخملي الذي نما في غفلة منا إلى عواصم أخرى، حمل رايته وزراء السلطة الشرعية وسفراؤها ووكلاؤها، نخب أثرت على حساب الملايين الجائعة في الداخل، فيما ظلوا مُصرّين، كالآخرين الذين يقاتلونهم، ويشبهونهم، على استمرار الحرب.
كانوا بعيدين عن زمن الحرب، زمن الذين يُقتلون كل يوم بالغارات والقذائف والألغام، زمن الذين يموتون في أقبية السجون، والذين يخُفون ولا يترك جلادوهم لهم أثراً، زمن الذين يموتون من الجوع والكوليرا والأوبئة، زمن من سلبت الحرب أحلامه. وفي هذا الزمن تمضي حياتنا، شعورك بأنك محكوم بقوى لا تراها ولا تسري قوانينها إلا على أمثالك، لتواجه عبثية الحرب التي يدفع ثمنها البسطاء. أتذكر أبريل العام الأول من الحرب، كانت الحرب طرية في شوارع المدينة، المحلات مغلقة، محطات الوقود معطّلة، اصطفت أمامها طوابير السيارات الواقفة، كانت الساعة الرابعة عصراً حين اتجهتُ أنا وزوجي إلى مركز “ضمران”، وكان الطيران يقصف أماكن متفرقة في صنعاء.
لم أُبالِ بدويِّ الانفجارات القريبة، لكن حين حجبت سحب الدخان “جبل عطان” ومركز “ضمران”، اختبرت معنى الحرب في دمي ووعي، ثم تكررت لحظات كهذه: قصف طيران، قذائف المليشيات، لكني أتذكر يوم “عطان”، لأن صديقي “محمد اليمني” الذي كان يصور القصف يومها، كتب لي محتجاً:
“ما لذي أتى بك إلى عطان؟ كنتِ ستقتلين”. سيُقتل صديقي “محمد” بعد أشهر برصاص المليشيات، سُيخلف مقتله تساؤلاً يومياً عن عبثية حرب تسفك دماء الأبرياء، ثم ستتسع قوائم القتلى من حولي: أصدقاء، أقرباء، أهل، جيران، مدنيون يُقتلون كل يوم بلا معنى.
* * *
أكتب الآن على ضوء الشمع تماماً كالأيام الأولى للحرب. يتصاعد دويُّ انفجار، ترتجٌّ نوافذ البيت، تتشرخ القَمَرية التي أصلحناها بعد تحطمها في غارة سابقة للتحالف، لتغدو تلك الانفجارات التي تقوِّض نوم الآمنين، وأحياناً كثيرة حياتهم، خلفية درامية للكتابة عن ضحايا الحرب. كأن الزمن لم يمَّر منذ بدأتُ الاشتغال على الكتاب، وتسجيل شهادات أُسر ضحايا الحرب. أتذكر رائحة شواء الجلود البشرية، بقايا شعر محترق التصق بأرضية المصنع المتربة بعد غارة لـ”التحالف العربي” على مصنع العاقل في مدينة صنعاء.
في تعز، المرارة مركبة، مرارة حصار المليشيات للمدينة، ومرارة الطريق الذي قَطَعتُه للوصول إليها، الذي يبدأ من الدوران حول المدينة، ثم اجتياز الجبال والقرى في ريف المدينة إلى تعز. من مدخل المدينة تُسمع صدى الاشتباكات بين المليشيات والمقاومة، سترى بعينيك مشاهد الدمار، منازل مهدمة، مخيمات الأهالي الذين هجَّرتهم المليشيات من قراهم، القهر في عيون المواطنين الذين لجأوا إلى ممرات جبلية صعبة كـ”طالوق” لكسر الحصار. سترى في شوارع وسط المدينة، مسلحين يتبعون فصائل المقاومة يتقاتلون فيما بينهم، رصاصاً عشوائياً يقتُل كل يوم أبرياء. خلف كل هذا البؤس عالم الضحايا الذين تجاهلتهم السلطات.
زيارة مدينة “الحُديدة” مخاطرة كبيرة، إذ تعتقل المليشيات أي صحفي قادم من خارج المدينة. نزلت مع صديقتي مرتدية غطاء الوجه التقليدي للمرأة اليمنية، وصلت على وقع ترقب الأهالي دخول قوات “التحالف” إلى المدينة. المستشفيات مكتظة بضحايا الغارات من المدنيين، رأيتُ بعيني ما فعلته القنابل العنقودية في جسد بائع سمك فقير، والجوع في الأجساد العظمية النافرة، رأيتُ الخوف في عيون الأهالي الذين لا يعلمون مصير ذويهم، والذين مات العشرات منهم جراء التعذيب. لم تكن مدينة الحديدة استثناءً في السجن الكبير الذي يعيشه المواطنون، وإن كانت الأكثر معاناة جراء الاعتقالات والإخفاءات القسرية. ففي مدينة تعز، تحولت المدارس إلى سجون لإخفاء الأبرياء، وفي مدن الجنوب، قضى معتقلون نحبهم في السجون.
تحضرني تفاصيل كثيرة رسّختها مرارة الحرب، وطن لم يعد لنا، بل للمتحاربين. أختبرت معنى أن أكون غريبة في وطني، حين استوقفتنا قرب مدينة “الضالع” جماعة مسلحة جنوبية. لم يسمحوا لنا، باعتبارنا مواطنيين ينحدرون من مناطق الشمال، بمواصلة السفر إلا بعد موافقة رسمية من القوات الإماراتية. وفي مدينة عدن، دُشنت حرب جديدة تخوضها مليشيات محلية بمساعدة “المحررين” للسيطرة على المدينة، مسلّحون يتبعون “المقاومة الجنوبية” يشتبكون مع قوات الحرس الرئاسي، الطائرات الإماراتية تقصف مطار عدن الدولي. أدركتُ حينها كيفية تماثل النقائض وتشابهها في لحظة تاريخية ما.
* * *
لا شيء حقيقياً في هذه الحرب سوى الضحايا ومن سحقته الحرب، لكن الحرب التي دخلت عامها الرابع، وفاق ضحاياها عشرات الآلاف، قوضت الدولة وقسمت البلاد، لم تثر أسئلة أخلاقية عند مثقفيها، لم يسألوا أنفسهم عن جدوى الحرب، ومعنى قصف طائرة بلد آخر لمدنهم وقتلها للأبرياء، أحياناً أحلل العطب في ضميرنا الثقافي بكونه ناتجاً من ارهاب سلطات الحرب، لكن حين أفكر، أدرك أن السبب هو أن حمَلة الارهاب مثقفون، إعلاميون وصحفيون، حقوقيون يتبعون أطراف الحرب. كان بعضهم أصدقاء لنا، كانوا في زمن السلم يناقشون معنا أحلامهم التي كانت كأحلامنا، لكنهم تنكروا لنا، حرضوا جنرالاتهم، تحولوا إلى كلاب صيد، يقتفون آثار نصوصنا، خونونا وأحلوا دمائنا.
بدأت كلاب الصيد تنبح حينما وقف مثقفون يمنيون ضد الحرب، ضد قتل أطراف الحرب لأبرياء، ضد إفقارنا وإنهاكنا، ضد كلفتها على مستقبل أجيالنا، وقّعوا على بيان يطالب أطراف الحرب بالسلام، وتعرض هؤلاء للملاحقة والتخوين، نشرت صحيفة “الهوية” أسماء الموقعين على البيان تحت عنوان “الطابور التاسع..عملاء ومرتزقة العدوان السعودي”، ثم حرضت صحف تابعة وممولة من المليشيات على الصحفيين المعارضين للحرب. أطلق مسلحون النار على الصحفي “نبيل سبيع”، قُتل الصحفي “محمد العبسي”. وحكم قضاء المليشيا على الصحفي “يحيى الجبيحي” بالإعدام بتهمة التخابر مع العدو. لكن كلاب الصيد ومطاردة الساحرات لم تكن حِكراً على إعلام المليشيات، إذ اِسَتَهَدف الصحفيون والحقوقيون والإعلاميون المحسوبون على “السلطة الشرعية” كل من يُدين قتل التحالف للمدنيين، أو ينتقد فساد السلطة الشرعية أو يدعو للسلام. اتهموا الكتّاب بـ”المحايدين” وبأنهم “الشبكة الناعمة للانقلاب”، تزعَّم التحريض مذيعون في قناة “بلقيس”. في مقابلة لأحد الناشطين في ذات القناة، اتهمته المذيعه بتأييد المليشيات في مدينة تعز، ثم طوَّق مسلّحون من المقاومة منزله. الكوميديا السوداء هو أن المُحرضين منتفعين من سلطات الحرب في الداخل، أو يقيمون في عواصم عربية وأوروبية، بعيدون عن الحرب التي تدور في بلادهم، لكنهم ظلوا يوزعون صكوك الوطنية على من بقى في بلاده يتلقى العواصف التي تريد اجتثاثه.
* * *
انفجار آخر، تذوب الشمعة وستنطفئ قريباً، لكن سيظل أثرها على المنضدة، ليذكرني بأن شيئاً ما احترق هنا. آثار الحرب لا تُمحى، يبقى أثرها في أرواحنا، وذاكرتنا. تظل حية في ذاكرة من عاشها، من فقد أحبّته وعانى دمارها. لا يمكن أن تُنسى الحرب ولا مأساتنا، فقط لأن العالم أراد إسدال ستار عليها ليُخفي ضحاياها ويكافئ جلاديها. لذا، إن هذه الشهادات ــ الأصوات إصبع في عين القتلة وكلاب الصيد الذين يختبئون خلفهم، هي أيضاً ذاكرة ضد النسيان، ضد التجاهل، ضد اللامبالاة، عزاء وسلام لأرواح كل الذين قُتلوا وتركوا ورائهم أحبة يتذكرونهم.
* بشرى المقطري ناشطة كاتبة صحافية وروائية من اليمن
** هذا النص من مقدمة كتاب “ماذا تركت وراءك” لبشرى المقطري، الصادر حديثاً في بيروت (عن دار النشر “رياض نجيب الريس”)، ويروي مأساة اليمن الجارية.