القصة ليست تركيا فقط بل الشرق الإسلامي وما يمثله من تحديات حضارية وما يحمله من قيم إنسانية كبرى وفكر وأخلاقيات عميقة وخطاب التوحيد والحرية والكرامة.
بقلم: هشام الحمامي
يدرك كل المتابعين للشأن التركى ان عقدة العلاقة بين تركيا المسلمة والغرب المسيحى عقدة تاريخية ضخمه ومليئة بكل أسباب استمرارها وتزايدها فى التعقيد.. ويكفى ان نعلم ان الخريطة السياسية والجغرافية للمشرق ما هى إلا محصلة الصراع التاريخي الطويل بين تركيا وأوروبا وأمريكا بالطبع.
والتاريخ هو التاريخ والبشر هم البشر والحجر هو الحجر والشجر هو الشجر كما يقولون ..وأيا ما كانت الدوافع المعلنة والخفية فى حركة الأحداث فستظل مقولة الشاعر الانجليزي روديارد كپلنغ الشهيرة : «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا»!
ستظل هذه الجملة تحمل الكثير من معاني الحقيقة التى تعكس واقع العلاقات بين الشرق والغرب لا في التقاليد والموروث الروحي والثقافي فقط وإنما تعكس حالة السياسة والمصالح أيضا.
كان الشرق القديم مختلفا عن الغرب القديم ولا يزال الاختلاف ولن يزول في المستقبل لا من اختلاف التجارب التاريخية ولا من اختلاف التطلعات السياسية والاجتماعية والحضارية وإذا ما حدثت هدنة ما بين الشرق والغرب فإنها عادة ما تكون استثناء وتعود الأمور إلى ما كانت..
حدث ذلك في الماضي البعيد والقريب ويحدث الأن في الزمن الحاضر وكل الشواهد في كل الأحوال تؤكد حقيقة شاعر الإمبراطورية العتيد :الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا.
وما يحدث مع تركيا الأن يسير فى هذا الاتجاه ويمشى فى نفس المعنى وإن بإيقاعات مختلفة.. والقصة ليست تركيا فقط بل هو الشرق الإسلامي كله وما يمثله هذا الشرق من تحديات ثقافية وحضارية يحمل فى داخله مشروع إحياء ضخم للقيم الإنسانية الكبرى وعلى رأسها قيم العدل والرحمة والحق وعلى أسس فكرية وأخلاقية عميقة تستند إلى خطاب إيماني صادق يرتكز على التوحيد والعبادة للخالق الواحد والكرامة والحرية للمخلوق.
وهذا ما لايطيقه الغرب ولا يريده ولا يقبله ,, وموقف أوروبا من تركيا الكمالية المخاصمة للدين!! موقف عميق ومغروز فى قلب الوعى الغربى بفكرة (الآخر/المسلم). وهو ما قاله الرئيس الفرنسى الأسبق جيسكار ديستان(1974-1981)عن ان الاتحاد الأوروبي نادى مسيحي ولا يمكن دخول تركيا فيه ..تركيا ذات البرنيطة والحرف اللاتيني.
وأتصور ان الأزمة المالية المتصاعدة الان فى تركيا بعد سنوات من النمو الاقتصادى الناهض الذى شهدت به وكالات التصنيف العالمية (رفع صندوق النقد الدولي توقعاته لنمو الاقتصاد التركي إلى 4.3% خلال عامي 2018 و2019.
وجاء ذلك في تقرير نشره الصندوق 17/7 الماضى وقبل انعقاد اجتماع وزراء ورؤساء البنوك المركزية في دول مجموعة العشرين صاحبة أقوى اقتصاد فى العالم: الاتحاد الاوروبى و19 دولة منهم تركيا وهو الاجتماع الذى عقد بالعاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس.
صندوق النقد الدولي أيضا كان قد رفع في فبراير الماضي توقعاته لنمو الاقتصاد التركي خلال 2018 (من 3.5% إلى 4%) سيكون هاما ان نعلم أن نمو الاقتصاد التركي خلال عام 2017 تجاوز حاجز 11% في الربع الثالث من هذا العام على أساس سنوي.
وهو أسرع وتيرة نمو يحققها الاقتصاد التركي في 6 سنوات. أقول أن الأزمة المالية الحالية تعكس فى جزء منها الفكر القديم الذى لازال يسيطر على الغرب تجاه تركيا. ترامب وصف القس (أندرو برونسون المتهم أمام القضاء التركي) أنه مسيحي عظيم و شخص نبيل.
ترامب ونائبه يعتبران أن إطلاق سراح برانسون قضية مصيرية بالنسبة للكنيسة البروتستانتية والإنجيليين فى أمريكا الذين يشكلون القوة المركزية في قاعدة ترامب الشعبية في الداخل الأمريكي. ترامب وبنيس يصران على أن احتجازالقس كان بسبب عقيدته الدينية!
وإذا كان الأمر كذلك فلا يعرف أحد لماذا هو بالذات دونا عن أي مسيحي آخر؟. الرجل متواجد فى تركيا من 23 سنة ويرعى كنيسة بها 25 مسيحيا ولم يعترضه أحد. القصة هنا لا علاقة لها بعقيدته الدينية.
رغم أن القس قال عن نفسه أمام القضاء (لقد عانى تلامذة المسيح باسمه والآن جاء دوري وأنا رجل بريء من كل هذه التهم (التجسس) وأرفضها وأعرف لماذا أنا هنا. أنا هنا لأعاني باسم المسيح.
الاتهامات التى وجهت إلى الرجل من عام 2016 تتصل بأحداث المحاولة الانقلابية الأخيرة وعلاقاته بتنظيم السيد ﮔولن ويبدو ان لها ما يؤكدها. لكن توقيت التغريدة التي أعلن بها ترامب الحرب على تركيا هو ما يثير الأسئلة والحكايات.
كان الرئيس التركى قد قام خلال العامين الماضيين بسحب الاحتياط الذهبى من المصارف الأميركية للتخلص من ضغط سعر العملات واستخدام الذهب ضد الدولار تلى ذلك سحب تركيا سنداتها المالية من الخزينة الأميركية وصفرت حساباتها في أميركا.
القرار التركي لاستعادة الذهب كان خوفا من مصادرة السلطات الأميركية احتياطها من الذهب في حال فرضت عليها عقوبات (ويبدو أنها كانت تتوقعها). لكن من المهم هنا ان نعلم ان تركيا لم تكن الوحيدة التي سحبت أرصدتها من أمريكا. ألمانيا فعلتها واستعادت أصولها بين عامي 2013 و2017 نحو 300 طن ذهب من أميركا.
مواقف الكونغرس والإدارة الأميركية عموما تجاه تركيا تتسم بالتشدد إن لم تكن الكراهية، خاصة فى الفترة الأخيرة نتيجة الاعتقاد بأن تقارب أنقرة المؤقت مع روسيا وإيران يأتي على حساب التضحية بالعلاقات مع أمريكا.
تنامي معدلات التردي فى العلاقة بين أنقرة واشنطن كان يشير إلى تفاقم الخلافات بينهما وهو ما استغله ترامب و فعل فعلته الأخيرة. السلطان فى كلمة له خلال الاحتفال بمرور 17 عاما على تأسيس حزب العدالة والتنمية قال سنقلب الطاولة على الولايات المتحدة وسينقلب السحر على الساحر.
مؤكدا أن تطورات الليرة التركية لا علاقة لها بالمنطق الاقتصادي وأن ترامب يشن حربا تجارية على العالم بأسره وشمل بها بلادنا (مديرة صندوق النقد الدولي قالت في الاجتماع الأخير لدول العشرين إن الحرب التجارية العالمية التى تشنها أمريكا على العالم يمكن أن تؤدي إلى فقدان مئات مليارات الدولارات من إجمالي الناتج المحلي العالمي).
الباحثون يقولون إن ارتفاع معدل التضخم مقابل انخفاض قيمة الليرة التركية في يوم واحد حدث فى روسيا عام 2014 حيث اضطرمعه البنك المركزي الروسي إعلان تدابير عاجلة لدعم النظام المصرفي وهو ما بدأه بالفعل البنك المركزي التركي.
تقول الحكاية أيضا ان اردوغان الذي وثق علاقته بروسيا والصين وإيران بعد محاولة الانقلاب الفاشلة قبل عامين لم يفك أواصر ارتباطه بواشنطن وحلف الناتو إنما (يعتقد بتراكم المكتسبات من أميركا وخصومها على السواء على المدى بعيد).
لكن الدول الثلاث قد لا تتدخل فى الأزمة الأخيرة لصالح تركيا بل ربما يدفعها هذا الأمر إلى زيادة الخناق عليها أملا بسحبها من حلف الناتو تماما وانضمامها إلى منظمة شانغهاي للأمن والتعاون، وهو ما سيمثل كارثة استراتيجية لأمريكا وأوروبا.
العداء للرئيس أردوغان وسياسته الإقليمية خلال السنوات الأخيرة يزداد ومواقفه الواضحة إزاء العديد من القضايا المشرقية جعلت محاولة تقويض حكمه وزعزعة استقراره هدفا أساسيا للعديد من الجهات المتضررة من ذلك.
وسمعنا عن دولة خليجية كان لها دور كبير فى الانقلاب العسكرى الفاشل ويقولون أيضا ان ظل هذه الدولة موجود الآن فى الأزمة الحالية التى يبدو أنها كانت تحاك بليل طويل.
بعض كتاب ومحرري الصحافة عندنا اتسم موقفهم مما يحدث فى تركيا الأن بمزيج من الشماتة والجهل. وحده الأستاذ جميل مطر كان أمينا وموضوعيا وعلق على الأحداث الخميس الماضى 16/8 فى جريدة «الشروق» قائلا:
«إن العقبة الوحيدة التى يمكن ان تتحطم عليها كل أمال وتهدئة التوتر بين تركيا وأمريكا ستكون(الإسلام)عقيدة تركيا الدينية فترامب وبانون (المستشار السابق بالبيت الابيض)، كلاهما يكرهان هذا الدين ولن يتغيرا».
بحسب المؤرخ الكبير د. بشير نافع فإن الأزمة قد تستمر قليلا لكنها لن تنال من قوة ورسوخ الاقتصاد التركي، مؤكدا أن مقدرات الاقتصاد التركي لايمكن مقارنتها بحالات مثل اليونان أو البرتغال وإيرلندا. كما أن الدين الحكومي لم يزل مقارنة بالدخل القومي (28 بالمئة) أقل بكثير من مؤشرات ديون معظم الدول الأوروبية.
اختم بمقطع من قصيدة شاعرنا الصوفي البليغ عبد الفتاح مصطفى (أقول أمتي):
أقول أمتي.. يارب أمتي
جوهرة التوحيد و«حكمتي القديمة»
عالمي الجديد أنا بها و فيها..!
لكن الغرب يا شاعرنا العظيم لايريدك بها ولا فيها.
- د. هشام الحمامي طبيب وكاتب مصري مدير المركز الثقافي باتحاد الأطباء العرب.