حرب أوكرانيا امتداد للحرب السورية وقد تكلّف العالم أثماناً باهظة!
يطمح القادة العسكريون الروس لتحقيق النتائج نفسها في أوكرانيا باستنساخ تجربة سورية.
تقدر النخب العسكرية الروسية أن النجاح في سورية يؤهل روسيا للقيام بعمليات مشابهة.
تلقّت أوكرانيا دعماً تسليحياً هائلاً اشتمل على أنواع من الأسلحة ذات فعالية عالية في مواجهة الجيوش الغازية.
يعتقد الغرب أن انتصار روسيا في أوكرانيا سيغير المعادلات الجيوسياسية في العالم ما يؤدّي لتغيرات في بنية النظام الدولي وهيكلته.
تحوّل روسيا إلى لاعب مهم في الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط يدفعها إلى عدم التهاون مع محاولات تهميشها في أوروبا.
تبدو أوكرانيا خاصرة روسيا رخوة فهذه البلاد تغلب على تضاريسها السهول وشكلت في مراحل تاريخية، ممرّاً للقوات الغازية لروسيا.
استطاعت القوا ت الروسية تفكيك المخاطر وتحويل الأزمة السورية إلى فرصة بفضل التكتيكات العسكرية المستخدمة ونشاط الدبلوماسية الروسية.
* * *
بقلم: غازي دحمان
تشكّل أوكرانيا هاجساً جيوسياسياً خطيراً بالنسبة لصانع القرار في روسيا، نتيجة التداخل الجغرافي والديمغرافي والثقافي بين البلدين. ومن الناحية الدفاعية، تبدو أوكرانيا خاصرة رخوة لروسيا.
فهذه البلاد، التي تغلب على تضاريسها السهول، شكلت، في مراحل تاريخية، ممرّاً للقوات الغازية لروسيا. وبالتالي، لا بد أن تنطلق أي قراءة عقلانية للأحداث الحالية من هذه الحقائق الصلبة.
لكن رغم هذه الأهمية للمجال الأوكراني وحيويته لروسيا، لم تكن هذه الخطوة التي أقدم عليها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لتحدُث بهذه الجرأة، لولا التجربة العسكرية الروسية في سورية، والتي شكّلت دافعاً قويا لصانع القرار الروسي، بدعم من قادته العسكريين، إلى السعي إلى قضم أوكرانيا، لسببين مهمين:
الأول، تقدير النخب العسكرية الروسية أن النجاح في سورية يؤهل روسيا للقيام بعمليات مشابهة، ذلك أن العمل في سورية لم يكن سهلاً في بيئة محلية ودولية معادية، ووجود عشرات آلاف المقاتلين المنضوين في فصائل المعارضة والتنظيمات الإسلامية المتطرّفة (داعش وجبهة النصرة)، ووجود قوات أميركية وتركية، ودعم خليجي (كان موجوداً في عام 2015).
ورغم ذلك، استطاعت القوا ت الروسية تفكيك هذه المخاطر، وتحويل الأزمة السورية إلى فرصة، بفضل التكتيكات العسكرية المستخدمة، ونشاط الدبلوماسية الروسية.
الثاني، تحوّل روسيا إلى لاعب مهم في الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط يدفعها إلى عدم التهاون مع محاولات تهميشها في أوروبا. من شأن هذا الأمر إلغاء المكاسب الجيوسياسية المتحققّة في سورية التي ترغب روسيا البناء عليها وتحقيق مزيد من المكاسب.
وفي سورية، جرّبت روسيا أصنافا عديدة من الأسلحة، وأشركت العدد الأكبر من قواتها العاملة في الحرب، وفي مختلف التخصّصات، كما اختبرت تكتيكات عسكرية عديدة حقّقت نجاحاتٍ مهمة وبتكاليف منخفضة.
ويطمح القادة العسكريون الروس إلى تحقيق النتائج نفسها في أوكرانيا عبر استنساخ التجربة السورية، لكن الأمر لا يبدو ممكناً لأسباب عديدة:
العامل الجغرافي: تساوي مساحة أوكرانيا أكثر من ثلاث أضعاف مساحة سورية. وليس سرّاً أن أحد التكتيكات التي استخدمتها روسيا في سورية اعتمد على تقطيع المناطق، واختراع “خفض التصعيد” الذي ساعد روسيا في تفكيك قوّة المعارضة وقضم المناطق الواحدة تلو الأخرى، وقد استمرّت العملية الروسية من خريف 2015 حتى صيف 2018 “تسويات درعا”، أي بحدود ثلاث سنوات.
هذه المساحة الجغرافية الكبيرة لأوكرانيا ستُحدث مشكلات لوجستية قاتلة للجيش الروسي، حيث بإمكان المقاومة الأوكرانية قطع طرق الإمداد وإضعاف الحركة الروسية، سواء في مرحلة الهجوم الحالية، أو حتى في حال استطاعت روسيا استكمال عملية السيطرة، إذ من غير المرجّح استطاعة روسيا تحقيق احتلال مستقر.
ورغم وجود طرق برّية إلى أوكرانيا من روسيا وبيلاروسيا، إلا أن حمايتها على مسافات طويلة تحتاج أعدادا ضخمة من الجيش الروسي، يصعب توفيرها في ظل حرب عسكرية مشتعلة.
العامل الديموغرافي: يبلغ عدد سكان أوكرانيا ضعف عدد سكان سورية، وعندما دخلت روسيا إلى سورية، بعد أربع سنوات من الحرب، كان حوالي نصف سكانها قد نزحوا بسبب حرب الإبادة التي شنها نظام الأسد وأذرع إيران، في حين أن أكثر التقديرات تشاؤماً بالنسبة لأوكرانيا تتوقع نزوح ما بين ثلاثة إلى خمسة ملايين، وسيكون أغلبهم من النساء والأطفال وكبار السن، ويشكل هذا العدد خزاناً بشرياً للمقاومة الأوكرانية في ظل تنامي الشعور القومي في البلاد.
عامل الدعم التسليحي: تلقّت أوكرانيا، حتى اللحظة، دعماً تسليحياً هائلاً، اشتمل على أنواع من الأسلحة ذات فعالية عالية في مواجهة الجيوش الغازية، وتمثل في بعضها أحدث نتاجات صناعات السلاح الأوروبية والأميركية، وخاصة الصواريخ المضادّة للدروع والطائرات (الحوّامات) وأنواع من الطائرات المسيّرة، وهذا لم يدخل في خبرة التجربة الروسية في سورية.
فأغلب الدعم كان على شكل رواتب، وضاع قسم كبير من الأموال بين السماسرة والمستفيدين، كما منعت أميركا وصول أنواع من الأسلحة لفصائل المعارضة، وخصوصا مضادّات الطائرات، وحتى مضادّات الدروع كانت تصل إلى المعارضة بالتقسيط وبأعداد قليلة.
وثمّة فارق آخر يتمثل بانقسام فصائل المعارضة بين الأطراف الداعمة، تركيا وأميركا، وخضوعها للأهداف السياسية والاستراتيجية لهذه الأطراف، وهذا أمرٌ من غير المرجّح حصوله في أوكرانيا بسبب وجود قيادة موحدة وحلفاء موحدين.
العامل الجيوسياسي: في التجربة السورية، لم يمثل العامل الجيوسياسي أهمية كبيرة، بالنظر إلى موقع سورية في الإدراك الاستراتيجي الغربي. أما أوكرانيا فالوضع مختلف، إذ ثمّة اعتقاد أن نصر روسيا فيها سيغير المعادلات الجيوسياسية في العالم، ما سيؤدّي إلى تغيرات في بنية النظام الدولي وهيكلته. لذا، لن يسمح الغرب لروسيا بتحقيق نتائج مهمة، بل يجد نفسه أمام فرصةٍ لاستنزافها، والتخلص إلى الأبد من طموحات بوتين.
لن تستفيد روسيا في حربها الأوكرانية من التجربة السورية، بل ستكون لاحتمال اعتماد التكتيكات نفسها نتائج سلبية جداً، لكن المؤكد أن أوكرانيا، ومن خلفها أوروبا، تدفع ثمن انتهازية أميركا وسماحها لبوتين باستباحة سورية. وكما يقال، كانت الحرب العالمية الثانية امتدادا للحرب الأولى، فإن حرب أوكرانيا امتداد للحرب السورية، وقد تكلّف العالم أثماناً باهظة.
* غازي دحمان كاتب وباحث سياسي سوري
المصدر| العربي الجديد
موضوعات تهمك: