بقلم: عبد الواحد علواني
تكشف تصريحات المسؤولين الأميركيين وبعض القادة الأوروبيين ومسؤولي الأمم المتحدة عن لبس شديد متعمد في قراءة المشهد السوري، مع أن المشهد واضح وجلي ولا يحتاج إلى كثير من التقصي والجهد لقراءته قراءة دقيقة. ومن ناحية أخرى، يتم دفع الأحداث إلى التعقيد المستمر لتبدو المسألة معقدة جدا، وغير قابلة للحل في أمد قريب، وتركها رهن تحولات ميدانية قد تفجرها بما لا يمكن ضبطها بسهولة، هذا ما يجعل من البحث عن خلفيات هذه السياسة الغربية من الجانب الأبستمولوجي وجيها، ذلك أن سياسة المصالح الراهنة لا تقدم تفسيرا مقنعا وكافيا.
علاقة الغرب بالشرق الإسلامي علاقة مليئة بالجراح المتبادلة، والرؤية الغربية للعالم الإسلامي المبنية خاصة على الدراسات الاستشراقية تبقى أسيرة نظرة كلاسيكية مهما طورت من أساليب التعاطي، وإن كان السياسيون في الغرب اليوم قد لا يعتمدون بدرجة واضحة على المرجعيات الاستشراقية، إلا أن الرؤى الاستشراقية مضمنة في صلب الثقافة الغربية، والسياسي يتحرك ضمن فضاء معرفي مشبع بهذا الفهم الاستشراقي، وبالتالي يحضر هذه الفهم وإن بشكل غير مباشر في كل تصور سياسي.
الإسلام المتوثب في الذاكرة الاستشراقية الغربية يتمثل في الاختراقين الكبيرين لقلب أوروبا على يد عبد الرحمن الداخل «الأموي» في الجزيرة الآيبيرية، ومحمد الفاتح «العثماني» في القسطنطينية، وكلاهما تم في عهود إمبراطورية كان الجسم الأساسي «السني» قويا وطموحا.. ولذلك بات من بديهيات الرؤية الغربية الحذر الشديد من تكون ظروف تمهد لاختراق ثالث قد يكون قاصما وحاسما ولا يكتفي باختراق منتصف القارة العجوز فقط. يدرك الغرب أن الطموح الإسلامي في التوسع يتمثل في المكون السني للجسد الإسلامي لسببين أساسيين، وهما أن هذا المكون يشكل معظم هذا الجسد من جهة، ومن جهة ثانية، فإن مرجعياته متوثبة وطموحة، ولم تخرج بشكل حقيقي من تصوراتها الدعوية الجهادية التي امتدت قرونا وتجددت مرات ومرات. ويدرك الغربيون عامة أن الرؤى الإسلامية «السنية» الحديثة التي تتقبل الحداثة وتقر بوجوب التعامل بمنظور عصري مع شعوب العالم، وتتقبل التعايش والحوار، إنما تفعل ذلك بسبب الضعف الذي يهيمن على «المسلمين»، بمعنى أن هذه الحداثة «المفتعلة» هي مجرد تكتيك مرحلي ريثما تقوى شوكة المسلمين، لكي يلقوا بها خلف ظهورهم ويسعوا لبسط رقعة الإسلام حتى تشمل كل المعمورة، وهي رؤية لا تقف عند رغبة استعادة الهيبة فحسب، إنما تتجاوزها إلى استعادة كل ما يحف بهذا الامتداد من مكاسب وغنائم. ولا أظن أن هذه النظرة يمكنها أن تتغير ما لم يتحول النظام العالمي إلى عالم متعايش ومتعدد بشكل فعلي وعادل.
يرى الغرب في الأقليات صمام أمان يساهم في إضعاف المكون السني، واهتمام الغرب بالبعد الطائفي يعود إلى أهمية هذا العامل من أجل التحكم بالعالم الإسلامي، فالأقليات ذات الجذور الإسلامية التي تعيش في العالم الإسلامي، يكاد معظم صراعها يقتصر على الصراع مع السلطة التاريخية للسنة، مما أثر حتى على بنيتها العقدية، فدفع بالجانب الدعوي والجهادي إلى المراتب التالية، أمام الهدف الأول المتمثل في استهداف المكون السني وإضعافه والانتقام منه خاصة أن هذا المكون على الرغم من مشاركة جماهيره لجمهور بقية الطوائف مظالم السلطة، فإنه يتم تحميله وزرها، وذلك عبر أسطرة الحزن وملحمية الضغينة القائمة على تصعيد الخطاب الانتقامي للضحية المفترضة، والغرب يدرك أن هذه الأقليات لم توجه حرابها إلى العالم الغربي في أي يوم، إنما كانت حرابها دوما ملطخة بدم إسلامي سواء أكان ذلك من خلال صراعات بين الطوائف بحد ذاتها، أو نتيجة صراع بينها وبين السلطة التاريخية السنية. وهذا أمر طبيعي في السياق التاريخي لأن الأقليات دائما كانت مشكلتها مع السلطة القائمة وليس مع العدو الخارجي، بسبب السلطة نفسها وبسبب تداخلات قومية وسياسية. فهذه الأقليات لطالما وجهت إليها اتهامات الخيانة، لأنها افتقدت حماسة الدفاع عن سلطة تحط من شأنها وحقوقها.
عندما قرر الغرب الإجهاز على الدولة العثمانية، كانت «هذه الدولة» في حال من التفكك والضعف زاد منها تورطها في تحالفات خائبة، وتم التخطيط للأمر على أن تكون الدولة العثمانية آخر الإمبراطوريات الإسلامية، وآخر عهد المسلمين بالمشاركة القوية في صياغة العالم الجديد. لذلك كانت الجغرافيا المفخخة أهم وسائل هذا الغرب في تأمين حالة الضعف الإسلامي المطلوبة، إضافة إلى دعم بنية ديكتاتورية قوية لأنظمة الحكم على حساب قوة الدولة، بمعنى أن يكون النظام قويا والدولة ضعيفة، فتتحول السلطة إلى قوة ضارية وباطشة داخليا، ووادعة ومستكينة خارجيا.
في ظل هذه الرؤية، تمتعت إيران بدور مؤثر جدا، وهي ذات أثر كبير تاريخيا، لكنها اضطلعت بدور أكثر اتساعا وتأثيرا من خلال رغبة الغرب في تنمية دورها، ففي عهد الشاه كانت إيران شرطي المنطقة الوحيد، واستطاعت أن تفرض الكثير من الاتفاقيات والوقائع المجحفة والنابية عن الاتفاقيات والتفاهمات الدولية، وكان ولاء الشاه الواضح للغرب يلقي بتبعاته على الغرب، فجاء الانقلاب الثوري على الشاه ليخفف عن الغرب وزر ما يحدث جراء سياسات إيران الإقليمية. منذ حكاية اقتحام السفارة الأميركية قبل أكثر من ثلاثة عقود، بقيت إيران في واجهة الخبر السياسي بوصفها عدوا للغرب، وللولايات المتحدة (الشيطان الأكبر) بشكل رئيسي، ومع أن العلاقة في ظاهرها السياسي تجاوزت الكثير مما يدفع الغرب عادة إلى إعلان الحرب على الآخرين، إلا أن الجعجعة لمدة ثلاثين عاما وأكثر لم تثمر عن أي مواجهة حقيقية بين إيران والغرب؛ بل إن معظم صراعات وتحولات المنطقة كانت تشير إلى مقاسمة في الغنائم والمكاسب الناتجة عنها.
خلال ثلاثة عقود ونيف كانت سياسات الطبقة الحاكمة في إيران سببا في تعريض إيران لصراعات محلية وإقليمية، وكذلك بقي الإيرانيون رهن نظام داخلي قمعي وفاسد، يحرم الجزء الأكبر من التعبير، ويمنح البقية أحلاما وبطولات وهمية، ولكن لا يمكن تفسير الدور الإيراني بمعزل عن حضوره في أصقاع أخرى، وهو دور قد لا يندرج في إطار التبعية للغرب، ولكنه على الأقل في إطار السمسرة وصراع النفوذ، وليس أدل على ذلك من مساهمتها الارتكازية في المحور الذي يربط بين إيران وبيروت مروا ببغداد ودمشق، وكذلك الصراع السوداني الذي يدفع أهل السودان ثمنه في حرب بالوكالة عن إيران الداعمة لنظام البشير، وإسرائيل الداعمة لنظام سلفاكير.. سيناريوهات الحرب الأميركية في الشرق الأوسط كانت دوما تعطي إيران ما لا تستطيع أن تحققه منفردة، ولعل أبلغ مثال يتمثل في الحالة العراقية اليوم، وقبلها الحرب الأفغانية. أمام الوقائع والتحولات الحقيقية، تبدو كل التصريحات والتهديدات الغربية مجرد فقاعات للتعمية على تعاون استراتيجي وخطط شرق أوسطية، نقطة الارتكاز فيه هي إيران وبدرجة لا تقل عن إسرائيل.
الدور الإيراني لا يمكن فهمه بعيدا عن «الهلال الشيعي» الذي يفصل الجسد السني إلى قسمين رئيسيين؛ قسم شمالي شرقي تغلب عليه العاطفة والوجدانيات، وقسم جنوبي غربي، ينتج المعنى ويتحكم به، وفي حين أن تصعيد المشكلات القومية في الدول غير العربية يؤدي إلى مزيد من الابتعاد عن التبعية للمعنى، تشكل القومية في البلدان العربية وسيلة مؤثرة لإهمال العمق الإسلامي «السني» تحديدا.
لا شك أن الإسلاموفوبيا الغربية ترتكز على تجارب تاريخية، وتغذيها حركات الإسلام السياسي التي تتصاعد بالدرجة الأولى بسبب السياسات الغربية العدائية والداعمة للكيان الصهيوني وللأنظمة الاستبدادية في العالم العربي والإسلامي، هذه الإسلاموفوبيا التي كانت مثار جدل وتشكيك، تحولت مع أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2011 إلى يقين لا لبس فيه عند أي غربي، لكن يجب أن لا ننسى أن الغرب كان دوما بحاجة إلى عدو مؤثر يجعل المكونات الغربية تتجاوز تناقضاتها الداخلية وتتحد في وجه العالم، فالهوية الغربية استعلائية ولا تستند إلى الدور الحضاري والعلمي والفلسفي فحسب، إنما العامل الأهم فيها الذي يدفع نحو الصدارة دوما يتمثل في إيجاد العدو المشترك والمهدد، لإبقاء الغرب على سطح العالم، وإبقاء الآخرين في مرتبة أدنى مع مواجهة واستيعاب «الحسد والحقد» اللذين سيتصاعدان دون شك وفق التعبير الفج لبرنارد لويس، أو الحالة البدائية الهمجية للقوافل المتأخرة غير القادرة على اللحاق بالموكب الغربي الحضاري وفق تعبيرات فوكوياما. خلال نصف قرن، كان الاتحاد السوفياتي يتصدر الأخطار المحدقة بالغرب الرأسمالي.. في ظل الحرب الباردة، كان العالم الإسلامي برمته يرزح تحت حكومات مستبدة تأخذ شرعيتها وقوتها من الخارج. بعد سقوط الاتحاد السوفياتي كان لا بد من إيجاد عدو آخر لا يقل إقناعا للفرد الأوروبي والذهنية الأوروبية بخطورته وتوثبه. وقد سبق ذلك تمهيد فكري من خلال «أطاريح» هنتينغتون حول صدام الحضارات، التي وإن خفت وتيرة النقاش حولها، فإنها لا تزال تحكم السياسات الغربية، وهي تتعلق بالتعاون الخطر للكونفوشيوسية مع الإسلام، وبالتأكيد، فإن الإسلام المقصود هنا هو الكتلة العظمى السنية، وليس تعاون إيران والصين؛ إذ يتفهم الغرب البعد الساساني للثقافة السياسية الإيرانية، مما يجعل السلطة الإيرانية اليوم أقرب إلى الحالة الصفوية القائمة على عداء عقدي ممزوج باستعلاء قومي.
لو أن إيران كانت جادة في خدمة المشروع الإسلامي والوقوف أمام الهيمنة الغربية وقص الأيدي الغربية المتدخلة في مصائر شعوب المنطقة، لكان عليها على الأقل أن تقوم بتحييد بعدها الطائفي إزاء الثورات العربية؛ فهي إذ رحبت ببرود ببعضها، تحمست لأخرى، وناصبت أخرى العداء.. فهي إذ شمتت بأنظمة القذافي ومبارك وبن علي، أفسدت الثورة البحرينية بإعطائها طابعا طائفيا، ووضعت كل إمكاناتها في سبيل وأد انتفاضة الشعب السوري في وجه المستبدين والفاسدين.
كان أمام إيران فرصة حقيقية لو أنها كانت صادقة في نواياها الإسلامية لحل مشكلة تاريخية معقدة جدا؛ إذ إنها لو وقفت في صف الشعب السوري، لما تهددت مصالحها مستقبلا، ولمهدت لإمكانية صفاء النيات بين الطوائف على مستوى العالم الإسلامي بأكمله، وبشكل خاص في مسائل الخلاف السني – الشيعي الكؤود والعسيرة، لكنها لا ترغب في ذلك، ولم تكن صادقة منذ ثورتها التي تتوسط عقدها الرابع، وإن كانت لا تكف عن الادعاء.. ففيلق القدس لم يفعل أي شيء للقدس منذ أن أنشئ، إنما كان على الدوام له عمله داخل إيران في اضطهاد أي نزعة حقوقية للإيرانيين ولعرب الأحواز وكرد مهاباد والبلوشيين، أو داخل بلدان أخرى مثل العراق وسوريا.
الثابت الأكثر رسوخا في السياسات الغربية تجاه العالم الإسلامي، التي تقودها الولايات المتحدة اليوم، هو الثابت نفسه الذي ورثته من الغرب الذي كان قبل الحربين العالميتين والذي كان بإمرة إنجليزية فرنسية بشكل رئيسي، وهو دعم الأقليات بطريقة تجعلها في خدمة المشاريع الغربية، وليس المصالح الطائفية، والحالة السورية تمثل اليوم أكثر وجوه هذه السياسة تعبيرا عنها؛ إذ يساهم الغرب نفسه بتحويلها من حركة احتجاجية ضد الاستبداد والفساد، إلى حرب طائفية تتيح للغرب أن يتدخل في لحظة معينة ليرسم لسوريا والمنطقة مصائرها لعقود أخرى، من دون شك، لا يوجد دليل محدد للسلوكيات والمواقف والسياسات الغربية، لكن هناك أبعاد أبستمولوجية لا يمكن إنكارها تتمثل في الحذر الشديد من تكون ظروف ملائمة تنتج إمكانية اختراق إسلامي ثالث للقلب الغربي، وهذا البعد هو ما يزيل الالتباس حول ما يظن أنه سياسات متناقضة يبديها الغرب إزاء الأحداث المهمة والمؤثرة في العالم الإسلامي.