(الصورة: الفـسـاد – لوحة الفنان المصري هشام الزيني)
رغم فقدانها شرعية الإنجاز التنموى والحكم الرشيد وإغلاق المجال السياسى وتقييد حريات المواطنين في التعبير والتنظيم والمشاركة فى الشأن العام لا تواجه السلطوية الحاكمة تحديات حقيقية أو واسعة النطاق!
بقلم: عمرو حمزاوي
يكشف المشهد العربى الراهن عن مفارقة هامة تتمثل فى محدودية التحديات المجتمعية التى تواجهها السلطوية الحاكمة على الرغم من الضعف البين لأداء نخبها الاجتماعى والاقتصادى وتهافت سجل إنجازاتها التنموية.
فعلى سبيل المثال، وباستثناء منطقة الخليج، ما تزال معدلات الفقر والبطالة والأمية فى عموم العالم العربى مرتفعة للغاية بينما تتدنى إلى مهابط غير مسبوقة مستويات الخدمة العامة المقدمة فى قطاعات حيوية كالتعليم المدرسى والجامعى والصحة.
يستمر كذلك إخفاق السلطوية الحاكمة فى مكافحة ظواهر خطيرة مستشرية ومعطلة للتنمية الحقيقية كالفساد والمحسوبية واستغلال المنصب العام والغياب شبه الكامل للشفافية والمحاسبة كمبادئ يتعين أن تحكم عمل المؤسسات العامة والخاصة.
بعبارة أخرى، نحن هنا أمام سلطوية فاقدة لشرعية الإنجاز بمعناها التنموى ومضامينها المرتبطة بما اصطلح على تسميته الحكم الرشيد، سلطوية تهيمن نخبها بقبضة حديدية على الدولة والمجتمع والمواطنين فلا تسمح فى المجال السياسى بمنافسة فعلية وتقيد من حريات المواطنين فى التعبير عن الرأى والتنظيم والمشاركة فى الشأن العام.
رغم ذلك، لا تواجه السلطوية الحاكمة تحديات حقيقية أو واسعة النطاق من قبل مجتمعاتها بل ولا تحتاج فى الأغلب الأعم إلى توظيف العنف المفتوح أو القمع الواسع النطاق للسيطرة عليها.
اللافت إذا هو تواكب العجز الاجتماعى والاقتصادى لنخب الحكم العربية وفقدانها لشرعية الإنجاز مع استمرارية مريحة وغير مكلفة للسلطوية على نحو يناقض من جهة جل الخبرات العالمية المعاصرة لانهيار السلطوية عندما تتعثر مجتمعيا وينتفض المواطنون طلبا لحقوقهم وبحثا عن التغيير، ويحفز من جهة أخرى الباحث على التساؤل عن ماهية العوامل المسببة للاستثناء العربى فى هذا الصدد.
* * *
هناك، من جهة أولى، دور المؤسسات الأمنية التى تغولت بصورة واضحة خلال الأعوام الماضية وأضحت مخصصاتها المالية تستحوذ على نصيب يتزايد باطراد فى الموازنات العامة.
لم تعد أدوار الأمنيين قاصرة على تعقب ومراقبة قوى المعارضة والتوظيف الانتقائى للأدوات القمعية إزاء من تراهم نخب الحكم مصدرا لتهديدات آنية أو محتملة قد ترد على سيطرتها، بل تجاوزت ذلك باتجاه تغليب منطق الإدارة الأمنية المباشرة للعديد من الملفات المجتمعية والسياسية الحيوية..
بدءا من ملفات كتعيين حدود نشاط منظمات المجتمع المدنى والنقابات المهنية والخطوط الحمراء لممارسة الحريات الإعلامية مرورا بهوية وتفاصيل النظم الانتخابية المعمول بها على المستويين الوطني والمحلي وكيفية تقطيع الدوائر الانتخابية وانتهاء بتعديل القوانين المنظمة لمباشرة لحقوق السياسية والمدنية.
أصبحت المؤسسات الأمنية صاحبة الكلمة الفصل فى تحديد توجهات نخب الحكم ووضعها موضع التنفيذ متقدمة فى فاعليتها هنا على كل ما عداها من الجهات التنفيذية الأخرى، وزارات كانت أو هيئات متخصصة.
كما تضخم تمثيل الأمنيين فى بيروقراطية الدولة وأجهزتها خاصة تلك المضطلعة بتسيير شئون الجهات والمحليات بصورة بلورت شبكة شاملة ونافذة للإدارة الأمنية الشاملة للمجتمع يصعب معها على المواطنين التحرك المنظم لمجابهة السلطوية الجاثمة.
يتبع تحليل تغول المؤسسات الأمنية أمر آخر يتمثل فى نزوع نخب الحكم العربية نحو شخصنة وتركيز السلطة وأدوات ممارستها حول مجموعة صغيرة العدد ذات مصالح متجانسة وتربطها تحالفات عضوية تحد كثيرا من الإمكانية الفعلية لنشوب صراعات داخل النخب، وتلك الصراعات شكلت فى بعض الخبرات العالمية المعاصرة لانهيار أنماط الحكم السلطوى (فى أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية) إما قاطرة التغيير أو بداية تبلوره.
فوراء واجهة تبدو تعددية لبعض نخب الحكم العربية بمكوناتها الأمنية والمدنية وبالأجيال المختلفة الممثلة داخلها من كبار السن ومتوسطى العمر وبحساسيتها المتنامية لثنائية النوع التى صعدت فى إطارها بعض الوجوه النسائية إلى المستويات العليا للمسئولية التنفيذية، ثمة استمرارية لافتة لشخوص الممارسين الحقيقيين للسلطة وتدوير مستدام لهم فى جنبات الحياة السياسية وفقا لاستراتيجيات محكمة.
من جهة ثالثة، تتوفر نخب الحكم العربية فاقدة شرعية الإنجاز والعاجزة عن تقديم المنتظر منها مجتمعيا، تتوفر على خطابات رسمية لا تعدم القدرة الإقناعية تخيف بها أغلبية المواطنين من طلب التغيير رغم معاناتهم وقسوة ظروفهم المعيشية، وتباعد بينهم وبين الالتئام وراء قوى معارضة تسعى لإنهاء السلطوية.
توظف نخب الحكم المؤسسات الدينية والإعلامية، سواء المدارة حكوميا دون مواربة أو المسيطر عمليا على فعلها وممارساتها اليومية، لإقناع الناس بالمرادفة بين المطالبة بالتغيير وبين تهديد النظام العام وخطر دفع البلاد إلى حالة من الفوضى العارمة.
وهو ما يحول دون ترجمة طاقة الرفض لدى المواطنين الناتجة عن سخطهم الحقيقى على أداء النخب إلى عمل شعبى منظم يستعيد حيوية الانتفاضات الديمقراطية في 2011 ويتخطى حدود النشاط الاحتجاجى العفوى والجزئى الذى شهده العالم العربى طوال الأعوام الماضية.
ولا ريب فى أن القدرة الإقناعية لخطابات «التخويف من التغيير» الرسمية ليست بمنقطعة الصلة عن فشل العديد من قوى المعارضة التى ترفع شعارى الديمقراطية وحقوق الإنسان فى تمثل المضامين الفعلية للشعارين فى ممارساتها.
وعجزها عن صياغة تصور برنامجى للتغيير المرتجى واضح المعالم ومطمئن لمواطنين تفرض عليهم قسوة الظروف المعيشية الحذر المستمر وتعلمهم تجارب الماضى المريرة الخوف على القليل المتهافت الذى يتمتعون به اليوم من تغيير مستقبلى قد يأتى عليه.
من جهة رابعة، ترتبط استمرارية السلطوية فى بلاد العرب بالوضعية الهشة والهامشية لقوى وأحزاب المعارضة وعجزها عن الضغط بفاعلية على نخب الحكم بغية إنجاز التحول الديمقراطى. فمعظم القوى الليبرالية واليسارية تفتقد اليوم، وفى ظل الترتيبات السلطوية الضاغطة، القواعد الشعبية الحقيقية وتتكلس بالتالى نخبها وخطاباتها وبرامجها.
* * *
أخيرا، هناك رابطة سببية بين استمرارية السلطوية وتهافت فرص التحول الديمقراطى وبين هيمنة ثقافة العنف الإقصائية على المجتمعات العربية والغياب الكامل لقيمة الفرد ــ الإنسان ــ المواطن. فلا إدارة سلمية للاختلاف فى مجتمعاتنا، والديمقراطية هى فى الجوهر منهج وإجراءات الإدارة السلمية للاختلاف التى تسمح بتعددية الطروحات والفاعلين وبتداول السلطة بينهم فى إطار من حكم القانون والمشاركة الشعبية.
يرتبط تعدد مصادر القمع فى بلدان كسوريا وليبيا والعراق بالانهيار الكامل لقدرة الدولة على احتكار الاستخدام الشرعى للعنف، تنفرد السلطوية الحاكمة فى جل الحالات العربية الأخرى بأداء المهمة بكفاءة وتعقد وظيفي.
وتتنوع معهما مستويات القمع من قتل إلى سجن واعتقال وتعذيب مرورا بتعقب وتشريد ومنع وانتهاء بتهديد ووعيد، تماما كما تختلف الجهات المنفذة من أجهزة رسمية إلى شبكات غير رسمية.
الأصل أيضا فى عمليات التحول الديمقراطى هو تبلور قناعة استراتيجية (بمعنى الاستقرار النسبى على مدى فترة زمنية ليست بالقصيرة) لدى النخب الحاكمة والنخب البديلة وحركات المعارضة بإمكانية الصناعة السلمية للتوافق بينها بصورة تضمن مصالحها الحيوية.
وتصوغ من القواسم المشتركة ما يسمح بتفعيل مبدأ المسئولية ــ المحاسبة المزدوج من خلال نظام قضائى مستقل وبإشراك الأفراد بوصفهم مواطنين فى تحديد معنى الصالح العام من خلال آليات كانتخابات الهيئات التشريعية والرقابة الشعبية لمؤسسات المجتمع المدنى.
عربيا وبالمقابل، يدلل استشراء ثقافة العنف الإقصائية على مركزية قراءة الخطر والمعادلات الصفرية عندما تنظر النخب والقوى الحاكمة والبديلة إلى بعضها البعض. مثل هذه الرؤى والممارسات ليس لها سوى أن تقضى على الفكرة الديمقراطية وتزيد من تهافت الحديث عن حتمية التحول باتجاهها.
* د. عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد.
المصدر: الشروق المصرية