يوم 14 إبريل عام 2018، نفذت مقاتلات أمريكية وبريطانية وفرنسية ضربات ضد مواقع لنظام بشار الأسد في سوريا، قال المنفذون أنها استهدفت مراكز أبحاث علمية في مدينة دمشق اختبر فيها أسلحة كيميائية وبيولوجية، ومخزن سلاح كيميائي وبالتحديد غاز السارين غرب حمص، ومنشأة للأسلحة الكيميائية، وذلك بعد أسبوع واحد من هجوم كيميائي نظامي استهدف مدينة دوما، مخلفا عشرات الضحايا المدنيين، في وقت كانت تلك المدينة آخر معاقل المعارضة السورية في دمشق، قبل أن تعلن روسيا سيطرة النظام على المدينة وكامل غوطة دمشق الشرقية يوم 12 إبريل.
جاء ذلك بعد عامين مما اعتبره مسؤولون في إدارة الرئيس باراك أوباما وبالتحديد في 28 يونيو 2016، خطأ وزير الخارجية جون كيري في وصف مجموعة “جيش الإسلام” المدعومة سعوديا والتي كانت تسيطر على المنطقة، بإحدى المجموعات التابعة لتنظيم داعش الإرهابي، ومن وجهة نظرهم سيسهل الأمور على الروس والنظاميين القضاء عليهم باعتبارهم جماعات إرهابية مسموح مهاجمتها.
ضربة أمريكا للمواقع الكيماوية النظامية، بقيادة ترامب، قال عنها نشطاء سوريون أنها بداية جدية العداء الأمريكي ضد النظام الأسدي، وأن موقف الولايات المتحدة من النظام الأسدي الذي وصفوه بالمتخاذل سابقا، ما كان سوى ضعف من إدارة الرئيس الديمقراطي باراك أوباما، وأن تغيرا ملموسا يطرأ على السلوك العسكري الأمريكي في سوريا.
ليخرج في مؤتمر صحفي استعراضي لم يقل فيه شيئا مهما، ثم يؤكد مسؤولو البنتاجون أن الضربة لن يتبعها أي عمليات عسكرية أخرى.
سبقت تلك العملية المحدودة، استهداف لمطار التيفور النظامي، واتجهت الأنظار للبيت الأبيض، بعد توعد ترامبي لنظام الأسد بثمن باهظ على خلفية الحديث عن هجوم كيماوي مرتقب قرب العاصمة دمشق، موجها في تغريدة له اللوم للرئيس الروسي في خطوة نادرة، لكن البنتاجون نفى مسؤوليته عن الهجوم، ظن الجميع أن الضربة أمريكية نظرا لقوتها.
المحتويات
الضربة الأمريكية الأولى
قبل التدخل العسكري الروسي الفعلي في سوريا، كان باراك أوباما ووزيري خارجيته (كلينتون وكيري) على التوالي، على مدار 4 سنوات من بدء الحملة النظامية ضد الثوار، يكتفون بانتقادات لرأس السلطة بشار الأسد، تتمحور كلها حول “خسارة النظام شرعيته في نظر الشعب”، تصريحات كانت أقل في الحدة بكثير من تلك التي يرد به النظام وخارجيته عليها.
لكن المرة الأولى التي تضرب فيها أمريكا النظام الأسدي، عسكريا، كانت عندما استهدفت قاعدة عسكرية في 23 سبتمبر 2014، وهي الضربة الأولى التي سبقها العديد من التردد، فقد أوقف أوباما قرارا بضرب النظام قبلها بأكثر من عام، وبالتحديد صيف 2013، بعد هجوم كيميائي نظامي قرب العاصمة، قتل 1400 مدنيا، واكتفى حينها بإبرام اتفاق مع موسكو حول تفكيك ترسانة النظام الكيميائية، وهو ما لم يحدث ربما حتى الآن.
تزامن ذلك مع استمرار دنو المحافظات السورية واحدة تلو الأخرى للثوار حتى وصلوا للشمال السوري.
لاحقا سنرى الإرهابيون يفترشون الشمال السوري قادمين بدولتهم من العمق العراقي، مع تدفق الأسلحة النوعية والمتطورة والتقنيات الإعلامية الحديثة، جعلت للتنظيم الإرهابي خلال أشهر قليلة، قوة لامعة جذبت أنظار الآلاف من العناصر التي تدفقت إليه من كافة أنحاء العالم، ولم يعرف إلى الآن مصدرها، مع استيلائهم على منابع النفط السوري، مع استمرار خفض الدعم تدريجيا.
هنا كانت الصورة تتبلور من أجل تكوين مبرر للتورط عسكريا، حيث يبدأ الأمريكيون بإنزال الجنود بعد أن كانت تكتفي بالضربات المحدودة، لتبدأ العملية الأمريكية في تشكيل حلفائهم المحليين، وهي المليشيات المسماة بـ”قوات سوريا الديمقراطية”، والتي تكونت حينها من قوام قدره 30 ألف جندي غالبيتهم من الأكراد وتسيطر عليها “وحدات حماية الشعب”.
لم يحتج الرئيس الروسي في إعلانه غرس قدم روسية في سوريا، أكثر من تجنب أمريكي لتدخل صريح ضد نظام الأسد، لتبدأ في سبتمبر قواته في التدخل، بأسلحتها الجديدة وتبدأ حربا كان أبرز أهدافها تجريب مدى فعاليتها.
بوتين أرسل القوات العسكرية الروسية إلى سوريا مستهدفة الشريط الغربي، معتبرا أنه افتراش بدعوة من “الحكومة الشرعية” على حد وصف الروس لنظام الأسد، أي قبل تشكيل حلفاء أمريكا المحليين بشهر واحد.
اختارت واشنطن، صناعة مليشيا كردية، بعناية شديدة، فالمنطقة التي كانت تريد إدارة ذاتية تكتفي بالتبعية المركزية لدمشق إسما، ستكون مثالية لتواجد أمريكي طويل الأمد، كما أنها قد تكون بمثابة دعم لتواجدها في قاعدة إنجرليك في الأراضي التركية، وفي الوقت ذاته أداة ضغط على أنقرة.
الحرب على تنظيم داعش الإرهابي تبدأ في مختلف المناطق السورية، القوات الأمريكية وأمامهم قسد في الشمال يبدأون حملة عسكرية تستهدف المحافظات الثلاث الأغنى، في حين تضع واشنطن ظهرها للحرب الروسية على “الإرهابيين” في إشارة روسية لجميع من يحمل السلاح في المحافظات حتى تلك التي تسيطر عليها المعارضة المعتدلة كما تصنفهم واشنطن، وعلى الرغم من الجرائم التي ارتكبتها القوات النظامية بدعم روسي وإيراني، بحق المدنيين، إلا أن الالتفاتات الأمريكية النادرة لم تحدث إلا عند وقوع هجمات كيميائية.
يمكن التأكيد على أن أمريكا وتحالفها لم يسلكوا أي فعل يهدد الوجود الروسي، بل إن كل مسلك عسكري أو غيره تسلكه واشنطن في الشمال الشرقي السوري، أو هجمات ضد النظام -التي كانت بمثابة عمليات ذر الرماد-، تضع فيها كل الحسابات التي لن ينتج عنها تعرض للقوات الروسية.
في خطوة لن يستغربها أحد حينها، ستتنازل أمريكا عن تصدر الحرب على داعش مع التحالف الدولي العسكري، وستكتفي بالزعم بأن جنودها لا يزيدون عن ألفي عنصرا، يقفون في الخطوط الخلفية للقتال ويكتفون بعمليات التدريب وتقديم المشورة، واشنطن تحاول التأكيد على أنها جاءت إلى سوريا من أجل مهمة محددة ومحدودة هي الحرب على تنظيم داعش الإرهابي.
أميركا وتركيا
مع ضربة البداية ضد داعش التي حلت في قوتها محل فصائل المعارضة المسلحة، ستتواصل الانتصارات الكردية (الأمريكية) ضد التنظيم الإرهابي في الشمال، بينما ستواصل روسيا زحفها ضد المعارضة المسلحة وإبرام اتفاقات الانسحاب الواحدة تلو الأخرى، مع المسلحين الذين سيتجهون للشمال الغربي، مع عشرات الآلاف من المدنيين الفارين من سيطرة الروس ومن خلفهم النظام على مدنهم، فيما ستواصل إيران ومليشياتها الشيعية تموضعها العسكري ثم الديمغرافي لاحقا، في القلب من سوريا.
في 10 مايو 2013 يظهر مصطلح “المنطقة الآمنة” لأول مرة، على لسان رئيس الوزراء التركي آنذاك رجب طيب أردوغان، في حديث لتلفزيون أمريكي. هذا المقترح سيلقى عدم اكتراث أمريكي وغربي، لكن على ما يبدو فإن الروس سيقتنعون بإمكانية جمع التهديد المسلح للمعارضة في منطقة واحدة تحت مظلة تركية لاحقا.
وفي أغسطس 2016، ستطلق أنقرة أولى عملياتها العسكرية في الشمال السوري، درع الفرات، من بين 3 عمليات عسكرية إلى جانب غصن الزيتون ونبع السلام، تسيطر فيها على المنطقة الغربية من الشمال السوري، وتضع قدمين في المنطة الشرقية منه، العملية الأخيرة ستجد أمامها فيها مقاومة من المليشيا الكردية، لكنها تجد طريقها لتفاهمات مع واشنطن، بعد أن وصلت إلى حد تلويح أردوغان بإغلاق قاعدة إنجرليك في وجه القوات الأمريكية.
ستوافق واشنطن على تسليم منبج لأنقرة وسحب المقاتلين الأكراد، لكن ذلك سيكون على الورق فقط، لأنها ستوعز للمسلحين بتسليم المدينة إلى النظام الأسدي، وهو ما سيكون أخف ضررا عليها، كما أنها فرصتها لزيادة الضغط على الأتراك الذين يريدون جيبا حدوديا عميقا على طول خط الحدود مع سوريا.
سيطرة من حديد
في يوليو 2017، يتهم المتحدث باسم البنتاجون أدريان رانكين جالواي، تركيا حليفتهم في حلف شمال الأطلسي، بإفشاء أسرار عسكرية تعرض الجنود الأمريكيين للخطر، ويساعد تنظيم داعش الإرهابي في مهمته القتالية ضد القوات الأمريكية والمسلحين الأكراد، مؤكدا أنهم أبلغوا أنقرة قلقهم، كما رفض الإجابة على حقيقة صحة تلك المعلومات التي اتهم أنقرة بتسريبها.
المعلومات نشرتها وكالة الأناضول التركية الرسمية باللغة الإنجليزية والتركية، تفضح الاحتلال الأمريكي للشمال السوري، مؤكدة أن لواشطن ما بين قواعد ومواقع عسكرية ومراكز تدريب لمليشيا قسد، حيث قاعدتان كبيرتان في رميلان بها معدات عسكرية متطورة وبطاريات دفاعية ذات قدرة هائلة على المناورة، بالإضافة لكونها مهبطا لطائرات الشحن العسكري، بالإضافة إلى أربعة قواعد في محافظة الحسكة يتواجد فيهم 150 من القوات الأمريكية، مع موقعين عسكريين في المحافظة ذاتها تضم الأولى 150 جنديا، والأخرى عددا أكبرا لكنه غير معروف.
كما كشفت المعلومات التركية، عن مركزين لقيادة العمليات في مدينة منبج، وموقعين في محافظة الرقة أحدهما تحت سيطرة القوات الأمريكية والآخر تحت سيطرة المليشيا بدعم من الخبراء الامريكيين، بالإضافة إلى موقع عسكري في صرين، مؤكدة أن هذا الموقع يستخدم في استقبال طائرات الشحن الكبيرة التي يتم من خلالها تزويد المسلحين بالأسلحة.
باتت الأمور واضحة، أمريكا تمسك الشمال السوري بقبضة من حديد، هنا وهنا فقط تخسر أمريكا أغطيتها كلها، وتلعب على المكشوف.
بانتهاء الحرب على داعش، وهزيمة التنظيم الإرهابي عسكريا، ينتهى العمود الفقري للتواجد الأمريكي في سوريا، سيهتز هذا العمود الفقري بهزيمة الإرهابيين، لكنه سيظل متماسكا فالشمال السوري أصبح بقبضة أمريكية متينة.
فليبقى كلٌ في مكانه
لم يتوقف الدبلوماسيون الأمريكيون عن التصريح بأن الأسد سيبقى، ويجب التعايش مع تلك الفكرة، كان آخر تلك التصريحات، من جانب السفير الأميركي السابق في سوريا روبرت فورد لشبكة “رووداو” الكردية، أكد فيها أن واشنطن لن ترسل قواتها إلى دمشق لإسقاط الأسد كما فعلت بالعراق، وأن جهود الأمم المتحدة ستذهب أدراج الرياح ولن يقبل الأسد بأي حلول أو تعديلات تنتقص من سلطته.
واشنطن لا يناسبها أي حسم في سوريا، هذه الحالة فقط هي الأنسب والأكثر فائدة لها.
عندما بدأت تركيا هجومها على مناطق شمال شرقي سوريا، كانت أنقرة تظن أنه من الممكن أن تلفظ واشنطن حلفاءها من المليشيا الكردية التي تصنفها الأخيرة منظمة إرهابية تابعة لحزب العمال الكردستاني المعادية للدولة التركية، والمصنف من جانب الغرب كمنظمة إرهابية، وتضع يدها في يده كدولة حليفة، لكن واشنطن التي لا تريد شريكا في الشمال الغربي، أحبطت تلك الأفكار التركية، وبدأت في دفع الإدارة الذاتية التي صنعتها، خطوات ضئيلة إلى جانب النظام.
الخطوة التي اتخذتها قسد تجاه النظام، كانت عبارة عن محاولات تنسيق عسكري، واجتماعات لقيادات ميدانية في مناطق السيطرة النظامية والأمريكية، استهدفت تركيا بعضها بضربات من طائرات مسيرة هجومية، وذلك التنسيق الصوري وغير المكتمل، تزامن معه تلاعب مسؤولين أكراد بالنظام، من خلال تصريحات حول شروطهم لتسليم حقول النفط والغاز للنظام، كل تلك لم تكن تفضيلا للنظام على الأتراك، ولكنه تثبيتا للأمر الواقع، إدارة ذاتية تتبع حكومة مركزية صوريا، مع حديث دائم عن الانسحاب والابقاء على بضعة مئات من القوات للمشورة والتدريب.
في إبريل 2015، نشر العميل السابق لوكالة الاستخبارات الأمريكية دوجلاس لوكس، مذكراته تحدث فيها عن تكليفه وآخرين في لجنة بإعداد خطط الإطاحة برئيس النظام السوري بشار الأسد.
في المذكرات قال لوكس وفقا لصحيفة ديلي تلجراف، أن الخطط التي اعدها ووافق عليها مع وزيرة الخارجية وقتها هيلاري كلينتون ووزير الدفاع ليون بانيتا رفضت جميعها من جانب الرئيس باراك أوباما، مؤكدا أن الرئيس الأسبق للولايات المتحدة، رفض أكثر من 50 خطة للإطاحة ببشار الأسد من السلطة، فيما اعتبرت الصحيفة أن رواية لوكس هي الأكمل بهذا الشان تماشيا مع توجهات أوباما.
منتصف سبتمبر الماضي قال الرئيس السابق دونالد ترامب، أنه أراد اغتيال بشار الأسد، عام 2017، لكن وزير الدفاع عارض الفكرة، ومنعها من التحقق، مؤكدا أنه أعد للعملية بالفعل، في محاولة منه لإنهاء الحرب في سوريا ربما، لكن جيمس ماتيس حال دون العملية، إلا أنه على ما يبدو واضحا فإن واشنطن لم تمتلك إرادة حقيقية لاغتيال بشار الأسد الذي يعني اغتياله نهاية لكل شئ وربما تعقيد أكبر لموقفها.
ترامب لا يهتم بكل تلك التعقيدات، فبعد أن فكر في اغتيال الأسد لإنهاء ما يحدث في سوريا، سيبدأ صراعا مع جنرالاته في بدايات صيف 2019، حول الانسحاب من الحروب التي لا نهاية لها، بعد نهاية الحرب على داعش وعده الانتخابي عندما اتهم سابقه بصناعة التنظيم الإرهابي، سيكون وعده الانتخابي بخصوص سوريا والعراق قد نفذ، لكن سيتبقى لديه وعده حول الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط والحروب التي تكلف الأمريكيين مليارات الدولارات، سيمر الانسحاب من أفغانستان لكنه سيكلفه استقالة وزير دفاعه، لكن هجوما سيستهدف الجنود الأمريكيين في منبج سيعطل تلك العملية.
لا يعرف الرئيس الأمريكي السابق السياسة التقليدية، كما أنه يظن أن البقاء في السلطة يعني تنفيذ الوعود الانتخابية بشكل جذري، لكن فيما يخص الوضع السوري فإن الحلول الجذرية غير ممكنة بعد تأخر دام سنوات، خاصة وأن واشنطن لم يكن لها اهداف استراتيجية في سوريا، لكن من غير المعقول ان تترك شطر سوريا تقريبا، و90 و60 بالمائة من النفط والغاز السوريين على التوالي، وترحل.
موضوعات تهمك: