أصبحت فريضة الحج نقطة تماس سياسية حادة سرعان ما تشتعل مع اقتراب موسم الحج.
عراقيل وإجراءات تعسفية تفرضها السعودية على حجاج قطر دون غيرهم من مسلمي العالم.
غياب روح التسامح والتعاون والحب ليس رسالة الفريضة المقدسة بل نتيجة سياسات الحكام.
بقلم: سعيد الشهابي
الدين يجمع والسياسة تفرق، هذه حقيقة برغم اعتراضات الكثيرين عليها ممن ينظرون للخلافات السياسية التي تعصف بكثير من البلدان بانها بسبب الدين.
والحج من الفرائض الجامعة للمسلمين، فهم يهرعون لادائها استجابة لقول الله تعالى: «وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا، وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق، ليشهدوا منافع لهم».
اجتماع هذه الكتلة البشرية في «أيام معلومات» في بقعة واحدة وبشعار واحد، يجعل الحج أحد أكبر التجمعات البشرية. وخلال اداء هذه العبادة لا يختلف الحجاج في ما بينهم حول طرق اداء الشعائر، برغم الاختلافات الفقهية حول بعض تفصيلاتها.
إذن من أين يأتي الاختلاف الذي لا يخلو منه موسم حج؟
الامر المؤكد ان «تسييس» اجواء هذه العبادة من بين اهم اسباب ذلك الاختلاف. والتسييس هنا لا يرتبط ابدا بطرق ادائها او بممارسات المشاركين، او ما يطرحونه او يناقشونه، بل بالأجواء العامة التي تحكمها، خصوصا العلاقات بين دول المسلمين.
فاختلافات حكامها تنعكس عليها لأنها العبادة الوحيدة التي تتطلب انتقال كتل بشرية عبر حدود البلدان. وبدلا من ان يكون ذلك التواصل سببا للتقارب والتعارف فقد انعكست الخلافات السياسية على اجوائه.
ورغم أن العقود الاخيرة شهدت توترات خلال الموسم بين إيران والسعودية، إلا أن التأزم ليس محصورا بإيران. فقد كانت هناك ازمة كبيرة بشأن الحجاج العراقيين في ذروة التوتر الذي نجم عن الاجتياح العراقي للكويت في 1990، وانعكست أجواء الأزمة السورية على موسم الحج أيضا.
وكثيرا ما منع النشطاء السياسيون من دخول الاراضي السعودية لأداء فريضة الحج، ومنهم الشيخ راشد الغنوشي الذي لم يستطع أداء الفريضة إلا بعد الربيع العربي الذي ادى للتغير السياسي في بلده.
وما يزال الآلاف من النشطاء محرومين من اداء الفريضة بسبب انشطتهم المعارضة لحكومات بلدانهم ام مواقفهم الناقدة للسياسات السعودية.
الحوادث الاليمة التي تكرر حدوثها خلال اداء الشعائر، كالحرائق والتدافع والمواجهات مع الشرطة ادت لموت الآلاف من الحجاج خلال العقود الاربعة الاخيرة.
ففي 1987 تصدت اجهزة الامن السعودية لمظاهرة إيرانية تحت شعار «البراءة» من الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي، وقتلت اكثر من 400 من الحجاج جلهم من الإيرانيين. وفي 1990 وقعت حادثة نفق «المعيصم» التي فقد اكثر من 1400 من الحجاج فيها حياتهم.
وتكررت حوادث الحريق خصوصا في الخيام المنصوبة بمنطقة منى وادت لمقتل المئات. وكان التدافع بتلك المنطقة في 2015 آخر الحوادث الكبرى اذ ادت لمقتل اكثر من 2000 من الحجاج حسب إحصاء وكالة أسوشيتد برس، بينما قالت السلطات السعودية إن عدد القتلى كان اقل من 800 شخص.
وكثيرا ما وجهت انتقادات حادة لاساليب الادارة السعودية للحج، وطرحت اقتراحات متكررة بتدويل هذه الفريضة واخضاع ادارتها لهيئة دولية بمشاركة الدول الإسلامية. وتصاعدت تلك الدعوة في العقود الاخيرة بعد ان كررها الإيرانيون منذ مطلع الثمانينيات.
وأكد قائد الثورة الراحل الإمام الخميني أن الحج فريضة دينية سياسية، وألزم الحجاج الإيرانيين برفع وترديد شعارات سياسية مناهضة للولايات المتحدة الأمريكية والكيان الاسرائيلي، ومطالبة بوحدة المسلمين بوجه أعداء الأمة.
ويمكن القول ان تسييس الحج عمليا انما مورس من قبل الحكومة السعودية، فهي تستخدمه لدعوة الشخصيات السياسية والدينية لاستمالتهم لسياساتها، وتنظم المؤتمرات والندوات التي تهدف للتأثير على الحجاج حول الحج ومعانيه.
وترويج فهم واحد مؤسس على انحياز لمدرسة فكرية دون غيرها. يضاف إلى ذلك ممارسة السياسة الانتقائية في تطبيق احكام الشريعة المرتبطة بالحج.
اما مشكلة هذا العام فمرتبطة بالأزمة التي افتعتها السعودية مع قطر العام الماضي. تلك الازمة التي كادت تؤدي لعدوان على ذلك البلد الخليجي الصغير، لها وجوهها المتعددة التي تكشف عمقها. ولم تستطع السعودية ان تنأى بالحج عن هذه الأزمة.
فهناك قطيعة شبه كاملة مع قطر، ادت لمنع دخول القطريين الاراضي السعودية، وفرضت اجواء عداء غير مسبوقة كرستها قرارات الحصار الجوي والبري والبحري التي فرضها التحالف السعودي ـ الاماراتي على دولة عضو بمجلس التعاون الخليجي.
وتكشف الوثائق التي نشرت مؤخرا الإجراءات التي فرضتها الرياض على الحجاج القطريين، وفرض شروط تعجيزية لا تنسجم مع الفريضة المقدسة واخلاقها.
لذلك اصبح اداء الفريضة من قبل المواطنين القطريين شبه مستحيل لما ينطوي عليه من اهانات واجحاف وتعميق الشعور بالاستهداف الذي يشمل التنكيل والمضايقات.
ويفترض ان تعمق فريضة الحج مشاعر التوحيد والتحرر من الشياطين وتعميق الصلة بالله وحده، الأمر الذي يقتضي المفاصلة مع من وضعوا انفسهم بموازاة الخالق سبحانه وتعالى الذي هو الحاكم المطلق: «ألا له الخلق والامر».
وكانت قطر قد قامت بتسجيل اكثر من 20 الفا من حجاجها، ولكن السلطات السعودية، عبر وزارة الحج والاوقاف لم تتجاوب مع طلبات من وزارة الحج والاوقاف القطرية للتنسيق من أجل تسهيل عملية الانتقال إلى السعودية.
ففي 6 حزيران/يونيو الماضي قالت الوزارة إنها لا تمنع القطريين من أداء مناسك الحج والعمرة، لكنها تحدثت عن «العراقيل والإجراءات التعسفية التي تفرضها السعودية على القطريين دون غيرهم من مسلمي العالم»، منها عدم السماح بعبور الحجاج الحدود البرية إلى داخل المملكة، وهذا ما يزيد المشقة عليهم.
وكانت السعودية والامارات قد قررتا بناء فاصل مائي على هيئة قناة تحول قطر إلى جزيرة معزولة عن الجزيرة العربية، وستستخدم المنطقة ما بين القناة والاراضي القطرية منطقة لدفن النفايات النووية من السعودية والامارات.
وقد تعرضت تلك الخطة لانتقادات واسعة لأنها تغيير حقيقي يستغل واقعا شاذا لفرض واقع جديد مؤسس على هوى المسؤولين في الرياض.
الحج هذا العام سيكون أحد المواسم المشوبة بالتوتر والسخط في اجواء حجاج بيت الله الحرام. ومن المؤكد ان ذلك انعكاس للوضع العام الذي تعيشه الجزيرة العربية مع استمرار اعتقال الناشطين الحقوقيين وتصاعد الاعتداءات على اليمنيين.
واستمرار الازمات السياسية داخل المملكة نفسها ولدى حليفاتها مثل مصر والبحرين اللتين تعانيان من توترات امنية منذ اندلاع ثورتي مواطنيهما في العام 2011. هكذا أصبحت فريضة الحج تمثل نقطة تماس سياسية حادة سرعان ما تشتعل مع اقتراب موسم الحج.
ومن المؤكد ان هذه الازمات المتلاحقة ستوسع دائرة المشككين في مدى قدرة الحكومة السعودية على استعادة دور الريادة في مجال تقديم الخدمات لحجاج بيت الله الحرام، والترفع على الاعتبارات السياسية التي يضعها زعماء الجزيرة العربية امام اعينهم خصوصا مع اقتراب موسم الحج.
إن غياب روح التسامح والتعاون والحب من صدور المسؤولين عن الحج والعمرة في الجزيرة العربية سيقلص تدريجيا حماس المسلمين لشد الرحال إلى البيت الحرام بهدف العبادة والانشداد للتاريخ الإسلامي الناصع خصوصا في عهد رسول الله عليه افضل الصلاة والسلام.
هذه ليست رسالة الفريضة المقدسة بل نتيجة سياسات حكام الجزيرة.
نبارك للمسلمين حلول عيد الاضحى المبارك، وكل عام وانتم بخير.
٭ د. سعيد الشهابي كاتب بحريني
المصدر: القدس العربي