المحتويات
كيف أريد لقضية عثمان كافالا أن تتحول إلى أزمة عالمية؟
يتذكر العالم كله قصة الثورات البرتقالية، التي بدأت بالثورة الليبرالية في أوكرانيا ثم تكررت في العديد من البلدان الواحدة تلو الأخرى، فعندما اندلعت ثورة مماثلة في شوارع لبنان، كان الجميع يحمل في يديه ورق شجر الأرز الذي يمثل رمز لبنان.
و خلال الثورات البرتقالية، اسم ما بدأ يظهر في وسائل الإعلام العالمية، إنه جورج سوروس، الملقب بساحر المال، كان سوروس مليارديرًا يدعم الديمقراطية والحريات ضد الحكومة المعادية للديمقراطية من وجهة نظر غربية، أما أعماله في تركيا فقد تم تنفيذها عبر “مؤسسة المجتمع المفتوح”.
هناك نهج مشبوه في كل خطوة يخطوها الغرب في الدول التي احتلها طوال قرنين من الزمان، والتي قاتلت شعوبها من أجل الاستقلال، وفقدت مئات الآلاف من أبنائها في حروب الاستقلال هذه؛ إذ تم نشر العشرات من المذكرات حول كيفية قيام أولئك الذين يتجولون حول العالم بوصفهم “متطوعي سلام” منذ 100 عام بأنشطة تجسس في البلدان التي ذهبوا إليها.
إذا تعمقنا قليلا في جذور قضية اليوم، فإننا نرجع إلى وصول حكومة حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002، حينها كان رجب طيب أردوغان يعامل بوصفه زعيما، وكانت تركيا -الدولة- يُرفع لها القبعة احتراما، محليًا وأجنبيًا، بسبب موقف الحكومة المؤيد للديمقراطية، ومبادرتها في طلب عضوية الاتحاد الأوروبي، والمساحة الواسعة التي فتحتها لحرية الدين والضمير، ولأنها تضم مفكرين اشتراكيين وليبراليين في الحكومة.
على مدى هذه السنوات، بدأت مصالح تركيا تتعارض مع مصالح الولايات المتحدة من حين لآخر، وفي أحيان أخرى مع مصالح دول الاتحاد الأوروبي، والسبب الرئيسي للصراع هو أن موقف تركيا، التي خطت خطوة في طريقها نحو المصالح الإقليمية والاستقلال الكامل، لم يكن موضع ترحيب في العواصم الغربية بسبب عادات قديمة تريد بقاء أنقرة تابعة، في حين أن الاقتصاد التركي كان ينمو يومًا بعد يوم، وتتوطد العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية، خاصة مع دول الجوار، وفي هذه السنوات كانت تركيا تتحرك خطوة بخطوة نحو الحصول على لقب نجم العالم الساطع في الاقتصاد.
كانت الخبرة التي اكتسبتها تركيا في مجال الديمقراطية وحرية الدين والضمير منطلقا أيضًا للربيع العربي، وتجربة الرئيس رجب طيب أردوغان في الممارسة الديمقراطية ألهمت الشباب الذين ملأوا ميدان التحرير في مصر، وفي وقت لاحق، استُقبل رجب طيب أردوغان بحماس كأنه رئيس منتخب حديثًا خلال زياراته إلى تونس وليبيا ومصر.
تركيا 2011
لنتذكر تركيا عام 2011، حين كانت تعقد اجتماعات وزارية مشتركة مع العديد من الدول، واقتصادها ينمو بنحو 10% كل عام مثل معدل الصين، وبدأت المبادرات الإستراتيجية مثل السوق المشتركة لتركيا وسوريا والأردن ولبنان.
مع نمو تركيا اقتصاديًا واكتساب القوة، كان من الطبيعي أن تصطدم مع إيران وإسرائيل، اللتين تدعيان أنهما قوى إقليمية، ومن ثم بدأت المواجهة التركية مع الولايات المتحدة الأميركية، بسبب الحرب الأهلية السورية.
وقعت إدارتا أوباما وأردوغان في خلاف عميق حول مصير النظام السوري. وفي خلفية هذا الصراع، تساهلت أميركا مع إيران -ضمن جهود إدارة أوباما لدمج إيران في النظام العالمي- لكن الأخيرة أهدرت هذا التسامح باستعماله في اتجاه حلم “إقامة إمبراطورية” عبر تدخلات عسكرية في دول عديدة بالمنطقة.
أحداث “غيزي بارك”
في السنوات التي كانت فيها تركيا في مرحلة كسر الجسور مع الولايات المتحدة، برز دور منظمة فتح الله غولن، التي دعمت حكومة حزب العدالة والتنمية القوية، وتُعرف الآن باسم “منظمة غولن الإرهابية” (FETO).
لقد اخترق هذا التنظيم كل شعيرات الدولة من الإعلام إلى طبقة الموظفين في البيروقراطية الحكومية، ومع تدهور علاقات الحكومة مع إسرائيل والولايات المتحدة، انفصلت منظمة غولن نفسيا عن الحكومة، وبحسب ادعاء هذه المنظمة الإرهابية فإن تركيا تنتمي إليهم، وتحولت المظاهرات الاحتجاجية -التي بدأت بذريعة قطع 7 أشجار في أثناء تخطيط البلدية لمنتزه “غيزي” في ميدان تقسيم- إلى أزمة دولة في البلاد.
وقد خططت لذلك منظمة غولن، التي تسيطر على النظام الأمني والاستخباراتي والإداري للدولة، والتي أصبحت قوتها الإعلامية غير محدودة، وأدارت هذه العملية من البداية إلى النهاية، وحاولت المجموعات اليسارية الهامشية وحزب الشعب الجمهوري في تركيا جعل احتجاجات حديقة “غيزي” ملكًا لها، كما هو الحال في الثورات البرتقالية، تم تنظيم الاحتجاجات هذه -من الرأس إلى أخمص القدمين- من جانب أعضاء منظمة غولن وأشخاص مثل عثمان كافالا، الذين لديهم علاقات عميقة مع سوروس.
أعباء تنظيم غولن
عام 2013 واجهت تركيا صورة حزينة، فالنظام القضائي كان بالكامل في أيدي منظمة غولن، وتسببت المنظمة -التي نفذت في السابق عمليات قضائية كبيرة لإفساح المجال لجنودها بالتجسس في الجيش التركي- في أكبر فضائح قضائية في التاريخ بسجن آلاف الجنود بقضايا ملفقة مثل قضايا “أرجينيكون” و”المطرقة”. واليوم، أُودع هذا القاضي وجميع المدعين العامين في السجن، وأطلق سراح الجنود الذين كانوا يحاكَمون.
بالإضافة إلى ذلك، فإن نظام الهيمنة الغربية لم يترك الشخص الذي يخدمهم ليلقى مصيره بسهولة، فهناك المئات من الشخصيات السياسية الفلسطينية يرقدون في السجون الإسرائيلية بغير حق، لكن المنظومة الغربية لم تبدِ أبدًا أدنى قدر من الاهتمام الذي أبدوه لقضية عثمان كافالا.
تصعيد للأزمة ورد مباغت
وقت كتابة هذا المقال، دعا سفراء 10 دول غربية -ولا سيما الولايات المتحدة الأميركية- إلى إطلاق سراح كافالا، عارض رجب طيب أردوغان ذلك بتحدٍ شديد اللهجة، متخذًا موقفًا مفاده أن “تركيا دولة مستقلة وهذه المبادرة انتهاك لحقنا السيادي في استقلال قضائنا” وأمر وزارة الخارجية بإعلان السفراء “أشخاصا غير مرغوب فيهم”، تسبب رد الفعل المباغت من الرئيس أردوغان الذي مضى إلى آخر خطوة في سياسة المشي على حافة الهاوية في خوض مباحثات دبلوماسية مكثفة أفضت إلى إفساح طريق للدول العشر للنزول من على الشجرة، مما ساعد الولايات المتحدة الأميركية ودولا أخرى في تجاوز التوتر، وسرعان ما كتبت سفارات الدول -على حساباتها في مواقع التواصل الاجتماعي- ما يفيد بأنها تحترم حقوق تركيا السيادية والمادة 41 من اتفاقية فيينا المعنية بعدم تدخل السفراء في الشؤون الداخلية للدول، لقد تم تخطي ذروة الأزمة عن طريق تليين المواقف، لكن الدول الغربية ستستمر في مناقشة قضية كافالا، حتى بعد تجاوز أزمة السفراء.
لقد أريد لقضية كافالا أن تصبح “غيزي بارك2″، كان يراد أن تتم مناقشة هذا الموضوع كثيرا، ونتذكر جيدا أنه في حين كان هناك آلاف الأخبار التي يمكن أن يتم بثها عن أي مكان آخر في العالم على شبكة “سي إن إن” (CNN) أو “فوكس تي في” (Fox TV)، إلا أن قناة “سي إن إن إنترناشونال” (CNN International) ظلت تبث على الهواء مباشرة لمدة 6 ساعات متواصلة احتجاجات غيزي، وعلمنا بعد ذلك أن بعض هيئات البث الأخرى كانت تستعد لاحتجاجات حديقة غيزي قبل شهرين من حدوثها، وامتدت عملية “إعاقة تركيا” التي بدأت مع احتجاجات حديقة غيزي إلى محاولة الانقلاب يوم 15 يوليو/تموز 2016.
ما لا يريد الغرب معرفته هو أننا إذا رسمنا إطارًا لموازين القوى في السياسة الخارجية، فإن الدول المؤسسة للنظام العالمي لم تعد قوية كما كانت من قبل، والدول التي تتعامل معها بتوجس -مثل تركيا- لم تعد ضعيفة كما كانت في السابق، وآن للنظام العالمي أن يحقق عدالة أكبر، وعلى أميركا أن تتقبل حقيقة لا مفر منها؛ وهي أنه على الرغم من كل المشاكل التي واجهتها، فإن تركيا ستواصل الحفاظ على انطلاقتها بوصفها قوة إقليمية رائدة، وسيكون من الأفضل للجميع التعاون معها بعد أن فشلت محاولات الإعاقة من غيزي بارك حتى قضية كافالا.
بقلم: إحسان أكتاش ( كاتب تركي ).
المصدر: الجزيرة نت.
موضوعات قد تهمك: