لا شك بأن شركة “بيت دانس” الصينية التي أطلقت التطبيق، امتهنت لعبة الإمتاع والإيقاع السريع. فالوقت يمر سريعاً عند الانغماس في فعل ممتع، تماماً كإيقاع عقرب الثواني، بينما يتوانى عندما نشعر بالملل.
هذه العفوية المطلقة، أسهمت بلا شك في رواج التطبيق، وفي زيادة مخاطره على المجتمع في آن. فليس كل ناشر محتوى مسؤولاً.
إضافة إلى الفيديوهات الراقصة، والتحديات، والمحتوى اللامحدود، يطرح التطبيق نفسه بقوة سوقاً لجني الدولار الإعلاني، الأمر الذي يرفع شعبيته بقوة في ظل ارتفاع معدلات البطالة عالمياً بعد جائحة كورونا.
إن المراهقين اليوم لا يفضلون التقاط الصحيفة أو مشاهدة الأخبار على التلفزيون لمتابعة آخر المستجدات، بل يؤثرون متابعة الأخبار من خلال حساباتهم على منصات التواصل الاجتماعي، وإن كانوا مدركين أنها أقل موثوقية.
كانت صحيفة “الواشنطن بوست” السبّاقة في دخول عالم “التيك توك”، عبر فيديوهات طريفة من خلف الكواليس لصحافييها، ومحتوى إخباري متجدد وسريع قادر على جذب انتباه جمهور “التيك توك” من دون أن يشعره بالملل.
* * * *
“تيك توك”، للإسم وقع تكّات الساعة. إنذار بحيانِ موعد افتراضي، قد يكون مع فيديو راقص حقق ملايين المشاهدات بلا سبب، أو “ترند” جديداً تفشّى سريعاً، أو تحدياً خطيراً ستتعالى الأصوات قريباً لإيقافه.
مؤسس التطبيق الصّيني اختار تسميته، على ما قال، للدلالة ببساطة إلى سرعة التنقل بين الفيديوهات القصيرة التي كانت لا تتعدى بدايةً الـ15 ثانية. ميزة جعلته يكتسح منصات اجتماعية عملاقة، مثل “فايسبوك” و”إنستغرام” و”تويتر”، كانت سبقته بأشواط وتحاول اليوم منافسته بلا طائل.
يعد الـ”تيك توك” التطبيق الأكثر شهرة وتحميلاً منذ ولادته قبيل ستة أعوام. نافذةٌ رقميةٌ، بمقاس بضعة سنتيمترات وعشر دقائق بالأكثر للفيديو الواحد، تتسع وتتمدد وتستطيل حتى تستوعب مليار مستخدم من حول العالم شهرياً. معظمهم تراوح أعماره بين 18 و25 عاماً، أو ما يُعرف بالجيل “زي”، جيل ما بعد الألفية. فكيف استطاع التطبيق جذب هذه الأعداد الهائلة من المستخدمين في وقت قصير، وتغيير ملامح ثقافتنا ومجتمعنا الافتراضي إلى حد كبير؟
لا شك بأن شركة “بيت دانس” الصينية التي أطلقت التطبيق، امتهنت لعبة الإمتاع والإيقاع السريع. فالوقت يمر سريعاً عند الانغماس في فعل ممتع، تماماً كإيقاع عقرب الثواني، بينما يتوانى عندما نشعر بالملل.
من هنا، تركز خوارزمية “التيك توك” على اهتمامات المستخدم نفسه مهما تشعبّت، وليس على ما ينشره الأصدقاء والصفحات (كما كانت حال “الفايسبوك” قبل تعديله)، فتحشد له الفيديو تلو الآخر من مجالات متفرقة، ليبقى ملتقطاً شاشته الصغيرة لساعات.
ومع توفير الفلاتر ومقاطع الموسيقى وكل ما يحتاجه من أدوات، يبدأ المستخدم بمشاركة ونشر فيديوهات خاصة به ليست بالضرورة مثالية أو مصقولة بعناية، كما هي حال صنّاع المحتوى على “إنستغرام” مثلاً.
هنا يمكن مشاركة أي فيديو، مهما بلغت عفويته أو حتى سخافته، كتقليد رقصة جديدة، أو تحريك الشفاه مع موسيقى أغنية شهيرة، أو تسجيل لقطة كوميدية ساخرة، أو أي فيديو آخر بلا فائدة تُذكر قد يحقق الشهرة المرجوّة لصاحبه.
هذه العفوية المطلقة، أسهمت بلا شك في رواج التطبيق، وفي زيادة مخاطره على المجتمع في آن. فليس كل ناشر محتوى مسؤولاً.
تحدّيات خطيرة
لذلك، لا يكاد يمرّ يوم من دون أن يحتلّ “التيك توك” حيّزاً من الأخبار، وغالباً ما تكون للتحديات الكارثية النصيب الأوفر منها. أحدثها كان تحدي شريحة “التشيبس” الواحدة من شركة “باكي” لرقاقات التورتيلا.
وفي هذا التحدي يتناول المتحدّي رقاقة من الفلفل اللاذع تحول لسانه إلى اللون الأزرق، ثم ينتظر لأطول فترة ممكنة قبل تناول أي شيء، بينما كاميرته تسجّل طبعاً كل ما يحدث له. كثيرون أصيبوا بآلام حادة في المعدة استوجبت نقلهم إلى المستشفى. لتخرج بعدها التحذيرات من هيئات حكومية وتعليمية بضرورة منع التحدي، لا سيما في المدارس.
سبق ذلك بقليل، تحدي طهو الدجاج بدواء “نيكويل” للأنلفونزا. ما استدعى تدخلاً من إدارة الغذاء والدواء الأميركية التي أصدرت تحذيراً من أن مجرد استنشاق أبخرة الدواء خلال عملية الطهو يؤذي الرئتين، ناهيك عن مضاعفات تناوله.
وكانت الإدارة قد أصدرت تحذيراً سابقاً ضد تحدي “الإغماء”، القائم على كتم النفس تماماً حتى فقدان الوعي، ما يؤدي إلى انخفاض مستوى الأوكسجين في الدماغ وحدوث نوبات ووفيات، بينها وفاة طفل اسكتلندي في الرابعة عشرة من عمره، جراء ذلك.
ورغم الانتقادات، تستمر قائمة التحديات الخطيرة على “تيك توك”، منها ما انتشر لمجموعة متخصصة بسرقة سيارات كيا أو هيونداي، بحيث يصور المتحدي نفسه وهو يقتحم السيارة ويبدأ تشغيل المحرك باستخدام ناقل بيانات “يو اس بي”، مع شرح كاف ومفصل لكل عملية السطو بهدف المفاخرة. ومنها ما يبلغ حد إيذاء النفس كالرقص أمام القطارات والسيارات، أو تعذيب النفس. كل ذلك لزيادة عدد المتابعين وتحقيق المزيد من الأرباح المادية.
لا أحد يعلم المصدر الأساسي لهذه التحديات التي تنتشر بسرعة لا يمكن السيطرة عليها. لكن الانفلات من الرقابة، يزيد من عدد مستخدمي “التيك توك”، حيث لا وجود لسياسات رقابية صارمة مثل الـ”فايسبوك” و”إنستغرام” و”تويتر”.
الدّولار الإعلاني
إضافة إلى الفيديوهات الراقصة، والتحديات، والمحتوى اللامحدود، يطرح التطبيق نفسه بقوة سوقاً لجني الدولار الإعلاني، الأمر الذي يرفع شعبيته بقوة في ظل ارتفاع معدلات البطالة عالمياً بعد جائحة كورونا.
وبينما تتنافس شركات عالمية للترويج لعلاماتها في هذا البازار الإلكتروني المفتوح، وتتعامل مع “مؤثرين” يمتلكون قاعدة متابعين ضخمة، يشكل التطبيق فرصة لزيادة دخل المستخدمين أنفسهم. ومنهم من اتخذ من التطبيق عملاً بدوام كلي.
بعيداً من الإعلانات، تكفي جولة سريعة على غرف البث المباشر، لمشاهدة حفلات جنون. شبان وشابات يتنافسون على “التكبيس”، إلقاء واستجداء “الهدايا” والعملات الافتراضية، من دون التواني عن تنفيذ أحكام مذلة أحياناً عند الخسارة بهدف إرضاء المتابعين والانتفاع المادي.
ذلك كله طبعاً لا ينفي وجود مستخدمين يحاولون تقديم محتوى جيد وسط هذه الفوضى. قد تجد مثلاً من ينشر فيديوهات لتدريس العلوم والحساب بطرق مبتكرة وسهلة، أو حسابات متخصصة بالفن والرسم والسينما والموسيقى، أو لتقديم نصائح صحيّة مثلاً.
تجارب صحافيّة
في هذا السياق، سجلت بعض المبادرات من صحف عالمية لاستمالة المستخدمين الصغار السن نحو محتوى إخباري يُقدّم بصورة مختلفة.
إذ كانت هيئة الاتصالات البريطانية “أوفكوم” في تقرير أخير نشرته، قد خلصت إلى أن الشبان اليافعين يتجهون اتجاهاً متزايداً إلى شبكات التواصل الاجتماعي، وأبرزها “التيك توك”، كمصدر أساسي للأخبار.
ويقول التقرير إن المراهقين اليوم لا يفضلون التقاط الصحيفة أو مشاهدة الأخبار على التلفزيون لمتابعة آخر المستجدات، بل يؤثرون متابعة الأخبار من خلال حساباتهم على منصات التواصل الاجتماعي، وإن كانوا مدركين أنها أقل موثوقية.
من هذا المنطلق، كانت صحيفة “الواشنطن بوست” السبّاقة في دخول عالم “التيك توك”، عبر فيديوهات طريفة من خلف الكواليس لصحافييها، ومحتوى إخباري متجدد وسريع قادر على جذب انتباه جمهور “التيك توك” من دون أن يشعره بالملل.
سرعان ما انضمت إليها بعض المؤسسات الإخبارية الأخرى، مثل “البي. بي. سي” و”التلغراف”، التي تقدم فيديوهات إخبارية لمواضيع جديّة كالحرب الأوكرانية وارتفاع فاتورة الطاقة في بريطانيا، بأسلوب مبسط وسريع. واللافت كانت تجربة صحيفة “الدايلي ميل”، التي تجاوز عدد متابعيها على “التيك توك” الأربعة ملايين، كونها عمدت منذ البداية إلى نشر فيديوهات صوّرها قرّاء الصحيفة أنفسهم، ما جعلها أكثر قرباً من المتابعين.
المصدر: النهار
موضوعات تهمك: