كيسنجر والنظام العالمي .. وصراع القوى العظمى حول الفعل الخارجي
في سنوات الحرب الباردة، كانت هناك قواعد ملزمة تحكم صراع القوتين الأعظم – الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي – تلزم بأخلاقيات التعامل، حتى ولو وصل الصراع إلى قرب حالة الصدام عند حافة الهاوية. وعندئذ يتزحزح كلاهما بعيداً عن الحافة، ثم يبدأ الحوار.
لكن يبدو أن ذلك لم يعد يحكم مواقف هذه القوى في أيامنا الراهنة. حتى أن هنري كيسنجر يصف الحالة الراهنة بقوله – إن الذين كانوا حراساً تقليديين للنظام العالمي، يبدو أنهم صاروا محجمين عن الدفاع عن هذا النظام.
كيسنجر يطرح هذا التشخيص في كتابه بعنوان النظام العالمي World Order، ومن المعروف أن كيسنجر لا يزال يلعب دوراً في المجال الأعم للسياسة الخارجية الأمريكية، حتى أن رؤساء أمريكا يلتقون به ويستمعون إليه، وآخرهم دونالد ترامب.
والبعض من خبراء السياسة الخارجية الأمريكية، يرون أن الرجل يعد أحد أبرز حكماء السياسة الخارجية، بينما يرى آخرون من المعارضين له، أنه رجل ينتمي إلى الماضي، وإلى عصر يختلف عما يعيشه العالم اليوم.
اقرأ/ي أيضا: الداخل الأميركي في خطاب ترامب وبعده!
وبصرف النظر عن الرأيين، فإن كيسنجر صاحب خبرة طويلة في السياسة الخارجية والعلاقات الدولية، والصراع العالمي، ليس فقط من الناحية النظرية، ولكن من خلال ما استخلصه من تجارب أدواره في الكثير من عمليات فك الخيوط المعقدة لأزمات عديدة، منها علاقة أمريكا بالصين في أول السبعينات، وإنهاء حرب فيتنام في السبعينات، ومرحلة الوفاق مع الاتحاد السوفييتي عام 1972، ومفاوضات فك الاشتباك بين مصر و«إسرائيل» بعد حرب 73.
وفيما يتعلّق بالأوضاع الراهنة في الشرق الأوسط، فإنه يرى أن القتال متعدد الأطراف في سوريا، والذي راح ضحيته آلاف القتلى، وفتح الحدود لتتدفق منها جماعات تنتمي لمنظمات متطرفة، قد أوجد تهديداً للمنطقة كلها وليس لسوريا وحدها.
وإذا كان «النظام العالمي» هو عنوان كتابه، الذي يرى كثير من المحللين أنه نظام يترنح الآن، فإنه يقدّم تعريفاً لكلمة النظام العالمي، بأنه مفهوم تأخذ به بعض الدول لينطبق حول طبيعة توزيع للقوى، بناء على اعتقاد بأن هذا المفهوم ينطبق على العالم بأكمله. بينما يرى كيسنجر أن النظام العالمي يقوم على ركنين أساسيين: أولهما مجموعة من القواعد المقبولة بشكل عام، وواسع النطاق، تضع حدوداً لأي إجراء غير مسموح به، وثانيهما توازن للقوى يعزز من ضبط النفس حين يحدث انتهاك لهذه القواعد، ويمنع أي قوة سياسية منفردة من اللجوء إلى تصرفات تتجاوز بها حقوق الآخرين. وبالتالي فإن ما يحفظ للنظام العالمي وجوده وفاعليته هو الشرعية القانونية، وميزان القوى.
اقرأ/ي أيضا: «تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي»
وبصرف النظر عن الآراء والمفاهيم السياسية لكيسنجر كرجل سياسة، ارتبط بسياسات واستراتيجيات الدولة الأمريكية، بما يتفق مع أهدافها ومصالحها عالمياً، إلا أنه باعتباره أكاديمياً، حيث بدأ حياته العملية مدرساً ثم أستاذاً للعلوم السياسة بجامعة هارفارد، فإنه يميل أحياناً إلى الالتزام بالتعريف العلمي للنظام العالمي، وما حدث له من تجاوز في السنوات الأخيرة، وفي ممارسات قوى كبرى، وبالتالي فهو يضع خطوطاً تحت معنى بالغ الأهمية، وهو أن القوى الكبرى لم تعد هي الأمينة على النظام العالمي، الذي يوفر الحماية والأمن والتقدم لكل الشعوب، وأن ذلك حتى وإن لم يصرح به – إنما يفرض على الدول الصغيرة أن تضع لنفسها رؤية ومبادرات، تمكّنها من الإمساك بزمام أمورها في يدها وأن تبحث عن حماية ذاتية لأمنها ومصالحها.