شاع المبدأ المكيافيلي «الغاية تبرر الوسيلة» بين الدول في سياساتها الخارجية، فلا تجد مكانًا لمنظومة القيم والأخلاقيات في تلك السياسات.
العلاقات والمواقف بين قطر وتركيا نموذج لإمكانية المزج بين المصالح السياسية ورعاية المبادئ والقيم والأخلاق معًا.
المواقف الأخلاقية المتبادلة بين الدولتين ليست بعيدة عن حسابات السياسة والمصالح لكن اللافت هو تحقيق المنفعة في إطار مراعاة المبادئ.
بقلم: إحسان الفقيه
يقولون إن هتلر كان ينام وتحت وسادته كتاب «الأمير» لمكيافيلي، وشاركه في الفعل كذلك موسوليني وغيره، وكأنهم ينشدون نومًا هانئًا عندما يتذكرون وصايا ذلك الفيلسوف والسياسي الإيطالي في كتابه، الذي يتنكر للقيم والفضائل.
ويرى وجوب فصل الأخلاق عن السياسة، ليصبح الطريق مفتوحًا أمام الحكام لاستباحة كل شيء من أجل المصلحة السياسية، ولو دُهست الفضائل والقيم والمبادئ بالنعال.
لقد كان للنظرية المكيافيلية أثرها القوي في توجُّهات الأنظمة الحاكمة، تعمّقت أكثر بشكل أقوى في عالمنا العربي، رغم وجود نظريات فلسفية أخرى تحضّ على رعاية الأخلاق في ممارسة السياسة، ومنها ما قاله إيمانويل كانط:
«لا يمكن للسياسة الحقيقية أن تتقدم من دون أن تُكرم الأخلاق، إذ على السياسة أن تنحني أمام الحق».
ونظرًا لسيطرة نظرية ميكافيلي في الفصل بين السياسة والأخلاق، رأينا بعضهم يتهكمون على مصطلح أكاديمي ناشئ وهو «الأخلاق السياسية» زعمًا منهم أنه لا مكان للأخلاق في عالم السياسة.
ولو أنصفوا لقالوا إن السياسة في الأصل قيادة المجموع أو الجماعة إلى ما فيه نفعهم ومصالحهم، والأخلاق كذلك تقود الناس إلى ما فيه نفعهم ومصالحهم، لكن الناس آثروا الفصل بين السياسة والأخلاق.
ورغم أن المبدأ المكيافيلي «الغاية تبرر الوسيلة» كان يركز على السياسة الداخلية، بمعنى أدوات الحاكم في الإبقاء على عرشه بأي وسيلة، إلا أن هذا المبدأ شاع بين الدول في سياساتها الخارجية، فلا تجد مكانًا لمنظومة القيم والأخلاقيات في تلك السياسات.
مواقف الأخلاق السياسية المتبادلة بين قطر وتركيا تعد نموذجًا حيًا لإمكانية تطبيق المزج بين تحقيق المصالح السياسية ورعاية المبادئ والقيم والأخلاق في آن.
أبرز المحطات التي شهدت مواقف أخلاقية راقية بين الدولتين، كانت ليلة الانقلاب الفاشل الذي كاد يعصف بتركيا قبل عامين، فمنذ الساعات الأولى، وفي الوقت الذي كان الجميع يتحدثون عن نهاية أردوغان وفريقه، أعلنت قطر دعمها للشرعية، ولم تنتظر كغيرها أن تترجّح إحدى الكفتين.
في حال التغليب البحت للمصالح السياسية، ربما كان على قطر التريث حتى تتضح الرؤية، ذلك لأن نجاح الانقلاب كان سيضع قطر موضوع الخصومة مع النظام الجديد لتركيا، إلا أن القيادة القطرية اختارت منذ اللحظة الأولى موقفًا عادلًا، ربما كان فيه شيء من المجازفة السياسية.
ثم كانت محطة الأزمة الخليجية التي فرضت خلالها السعودية والإمارات والبحرين حصارها على قطر للضغط عليها، ودفعها إلى الرضوخ للشروط المجحفة، التي تنال من السيادة القطرية.
وقد وصَفَها جيمس دورسي الباحث في السياسات الدولية في جامعة راجاراتنام، بأنها مصممة بشكل واضح ليس للتوصل إلى حل سلمي، بل لإلحاق عقاب وأضرار لا حدود لها بدولة قطر.
وقتها تحركت تركيا في عدة اتجاهات، فمن ناحية بذلت جهودًا دبلوماسية لاحتواء البيت الخليجي للأزمة، وهو ما ظهر أن الطريق إليه مسدود، ومن ناحية أخرى صرح أردوغان بدعمه قطر في محنتها مُذكرًا بموقفها النبيل من الانقلاب التركي.
ومن ثَمّ تمّ فتح خطوط نقل جوي لتوفير البدائل الغذائية والمواد الأولية، لكسر الاعتماد على دول الحصار، فأفادت تركيا واستفادت من إغراق الأسواق القطرية بمنتجاتها القطرية.
ومن ناحية أخرى وهي الأهم، صادق البرلمان التركي على إرسال قوات عسكرية إلى قطر، فتم إحباط التدخل العسكري الذي كان مخططا له، وهو ما أظهره تصريح أمير الكويت عندما قال، «نجحنا في تجنب التصعيد العسكري».
مرة أخرى ظهرت مراعاة القيم والمبادئ، هذه المرة لدى تركيا التي تحرص قيادتها على صبغة أخلاقية ثابتة في التعاملات الدولية، ويؤخذ بالاعتبار أن الأتراك كانوا يعلمون قطعا، أن الانحياز لقطر سيعكر صفو العلاقات مع السعودية، التي سعت تركيا للتقارب معها بتحالف استراتيجي، تحرص عليه ربما أكثر من حرصها على التحالف مع قطر، نظرًا لمكانة السعودية في العالم الإسلامي والعربي.
ومع أزمة الليرة التركية التي كانت صنيعة أميركية تورطت فيها جهات عربية لكسر الإرادة التركية، توجّه أمير قطر إلى أنقرة مُعلنًا عن استثمارات قيمتها 15 مليار دولار لدعم الاقتصاد التركي في المحنة، وهو ما لم تفعله دولة عربية، ولم يكن هذا الدعم القطري قاصرًا على الموقف الحكومي.
بل امتد ليشمل حراكًا شعبيا قويا داخل قطر لدعم الليرة التركية، مع التذكير بأن موقف القطريين هذا يأتي في ظل الحصار الاقتصادي، ومع التذكير كذلك بأن هذا الموقف لا يصب في صالح العلاقات التي توصف بالقوية بين قطر والولايات المتحدة.
قطعًا أنا لا أزعم أن المواقف الأخلاقية المتبادلة بين الدولتين، بعيدة عن الحسابات السياسية وتحقيق المصلحة، فهذا من السخف بمكان، لكن اللافت للنظر في تلك المواقف هو تحقيق المنفعة في إطار مراعاة المبادئ. وهو أمر له نظائر كثيرة في التاريخ بمختلف حقبه، وليس فلسفة سياسية جديدة.
قيم الوفاء ورد الجميل ونصرة المظلوم، وغيرها من مفردات المنظومة الأخلاقية والقيمية، من الممكن دمجها مع السياسة في إطار تفاعلي، وداخل علاقة صحية ونظام مشترك، بعيدًا عن طغيان المكيافيلية والنظر إلى المصلحة السياسية، على أنه لا مكان فيها للقيم والمبادئ!
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
- إحسان الفقيه كاتبة أردنية
المصدر: القدس العربي