أثبتت نتائج المعركة صحة موقف «الجهاد الإسلامي» في الرد، وفي تفهم موقف «حماس» من حيث حمايته للقطاع والمقاومة، وفي عدم الرد الفوري.
أهداف العدوان تراوحت من اعتباره رداً على حرب «سيف القدس» ونتائجها أو ضرباً لاستراتيجية «وحدة الساحات»، أو لشرخ العلاقة بين حماس والجهاد الإسلامي.
عندما تمّ الإعلان عن وقف إطلاق النار، كانت النتيجة بمثابة الفشل الكبير للعدوان؛ فالمفاوض الصهيوني لم يجرؤ على أن يشترط شرطاً واحداً مقابل وقف إطلاق النار.
نتائج العدوان هزيمة للكيان الصهيوني، حيث كشفت ضعفه وهزال قراراته وانحطاط أهداف قادته (كسب انتخابي، ولو على حساب هزيمة سياسية عسكرية).
التقدير الصحيح لموازين القوى لا يستند لسلاح وقوات كل طرف على أهمّيته، بل يقرأ موازين القوى على ضوء معادلات عالمية وإقليمية ونقاط ضعف العدو المستجدة.
ينبغي وضع هدف منع اقتحامات الأقصى عنواناً لـ”وحدة الساحات”، لإمكان نجاحه وتأمين أوسع التفاف شعبي ورسمي حوله فالموضوع قويٌ سياسياً لانتزاع نصرٍ فيه.
* * *
بقلم منير شفيق
لقد آن الأوان، بعد مضيّ عدّة أيام على وقف إطلاق النار في المعركة-الحرب التي دارت في قطاع غزة، وقد دامت حوالى ثلاثة أيام، وتعدّدت المواقف إزاءها، وفي قراءة نتائجها. ولتكن البداية بسردية للوقائع: بدأت المواجهة بالاعتداء الصهيوني على الشيخ بسام السعدي، القائد في حركة «الجهاد الإسلامي» في جنين.
وكان منظر الاعتقال، الذي نقلته شاشات الإعلام، وحشياً. وسرت إشاعات بأن حياته أصبحت في خطر. هنا أعلنت «الجهاد» الاستنفار العام. ولكن تحركت الوساطة المصرية فوراً لتهدئة الموضوع. وتم الاطمئنان على حياة بسام السعدي، تمهيداً لإنهاء التوتر.
ولكن، بينما المفاوضات المصرية دائرة، وزادت احتمالات الوصول إلى تهدئة مع «الجهاد»، إذا بالعدو يشنّ عدواناً عسكرياً على قطاع غزة. وقد استهله باغتيال القائد العسكري الميداني تيسير الجعبري، من قادة «سرايا القدس». ممّا أوجب أن يردّ على هذا الاغتيال (العدوان) بالصواريخ.
فالقراءة الأولى لهذه الحرب يجب أن تعتبرها عدواناً عسكرياً على قطاع غزة، وإن اختصّت به «الجهاد الإسلامي». ارتأت «حماس» ألاّ تشارك مباشرة بالرد على هذا العدوان بالصواريخ، مع ترك أمر الرد لـ«الجهاد الإسلامي» التي أصرت عليه.
وكان هذا الاتفاق الأساسي، موضوعياً، بين الطرفين؛ «الجهاد الإسلامي» يردّ بالقوّة التي يراها مناسبة، فيما تبقى «حماس»، عملياً، على أهبة الاستعداد، وأصابعها على الزناد، للتدخل في أية لحظة يصبح التدخل فيها ضرورياً.
أثبتت التجربة الواقعية، طوال يومين ونصف من الاشتباك بالصواريخ بين «سرايا القدس» والعدو، بأن المعادلة التي قامت بين «حماس» و«الجهاد الإسلامي» تكفي لمواجهة هذا العدوان الذي استقبل منذ اليوم الأوّل، من «الجهاد الإسلامي»، بمئة صاروخ، لكن مع فتح باب التفاوض مع الوسيط المصري لوقف إطلاق النار.
استطاع العدو أن يغتال قائدا عسكريا ثانيا من «سرايا القدس»، هو الشهيد خالد منصور. وأعلن بعد يومين ونصف وقف إطلاق النار. وكانت محصلة ما أُطلِق من صواريخ على تل أبيب ومحيطها، كما مواقع أخرى، أكثر من تسعمئة صاروخ وقذيفة. فكان ذلك بمستوى الرد على الصاع بصاعين.
وعندما تمّ الإعلان عن وقف إطلاق النار، كانت النتيجة بمثابة الفشل الكبير للعدوان؛ فالمفاوض الصهيوني لم يجرؤ على أن يشترط شرطاً واحداً مقابل وقف إطلاق النار. بل قبِل أن يقوم الوسيط المصري بتقديم وعود لـ«الجهاد الإسلامي» بالسعي لإطلاق بسام السعدي وخليل عواودة المضرب عن الطعام منذ أكثر من 160 يوماً، ولكن بلا تعهد ملزم منه.
وبهذا يكون العدوان الصهيوني لم يحقق غير اغتيال القائدين تيسير الجعبري وخالد منصور، ليستخدم ذلك للحصول على حفنة من الأصوات في انتخابات الكنيست المقبلة.
لكن هذا الهدف لا علاقة له بالتأثير في موازين القوى، أو في تقويم صحيح لنتائج الحرب الأخيرة: حرب «وحدة الساحات». صحيح أن استشهاد القائدين يمثّل خسارة فادحة، ولكنها عوّضت فوراً، وبقي تأثير استشهادهما، كما هي الحال، في كل حالات استشهاد قيادات مقاومة، مزيداً من القوّة المعنوية والتعبوية للمقاومة، وليس إضعافاً لها.
لا يستطيع أحد أن يجادل في نتائج هذا العدوان باعتبارها هزيمة للكيان الصهيوني، حيث كشفت عن ضعفه وهزال قراراته، وانحطاط أهداف قادته (بدليل البحث عن كسب انتخابي، ولو على حساب هزيمة سياسية عسكرية).
هنالك عدد من الكتاب والمحللين الذين تناولوا الأهداف التي وراء العدوان، تراوحت من اعتباره رداً على حرب «سيف القدس» ونتائجها، أو اعتباره ضرباً لاستراتيجية «وحدة الساحات»، أو لشرخ العلاقة بين «حماس» و«الجهاد الإسلامي».
هنا يمكن أن نلاحظ أن ثمّة ميلاً لدى البعض في تهويل ما يقدم عليه العدو، وفي التبرّع بوضع خطة استراتيجية يستهدفها. ولكن لو عادوا إلى ما كتبوه وقالوه، ووضعوه أمام سيرة العدوان ونتائجه، لوجدوا أن تقديراتهم كانت في وادٍ، وما حصل واقعياً في وادٍ آخر. وإن الأمر كذلك مع عدد من المواقف التي راحت تخطّئ كل من «الجهاد الإسلامي» و«حماس» في إدارتهما للصراع، أو قل في مواقفهما ممّا حدث.
فهنالك من وجدوا الفرصة للهجوم على «حماس»، واعتبار عدم تدخلها في الحرب «تخاذلاً»، مع سلسلة من التحليلات والتشكيك. وانبرى، في المقابل، من راح يهاجم حركة «الجهاد الإسلامي»، واتهامها بزج قطاع غزة في حرب من دون حساب لموازين القوى، وللوضع في القطاع، وأشياء أخرى كثيرة، صدرت عن بعض هؤلاء، وبعض هؤلاء.
المهم، لم يُلحظ أن ما جرى تم بتفاهم بين الطرفين، ليس على طريقة تقاسم الأدوار، وإنما على أساس أن يأخذ كل موقفه؛ «الجهاد الإسلامي» ترد بالصواريخ، و«حماس لا ترد»، ولكنها، بوصفها العمود الفقري للمقاومة وقائدتها، تحافظ على معادلة في المواجهة تنتهي بهزيمة العدو (مع التدخل إذا لزم الأمر).
لا حاجة لمناقشة الحيثيات التي كانت وراء كل موقف من جانب «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، ولم تكن ثمّة حاجة إلى التفاهم لأن يكون مباشرة وعياناً، أو يحدث كما حصل موضوعياً وعملياً. والمهم أن الاتهام لـ«حماس» بالتخاذل عيب، وهي التي خاضت كل الحروب، وكانت في مقدمة ما وصلته المقاومة من قوة ومنعة.
ثم أثبتت المعركة نفسها صحة موقفها في تركها «الجهاد الإسلامي» يضرب بقوّة، وفي الوقت نفسه، في عدم ردّها مباشرة، إلى أن تقرّر التدخّل إذا اقتضت الحاجة.
وكذلك، فإن اتهام «الجهاد الإسلامي» بعدم التقدير الصحيح للموقف، بما في ذلك ما قامت به من رد، هو عيب أيضاً، إذ أثبتت نتائج المعركة صحة موقف «الجهاد الإسلامي» في الرد، وفي تفهم موقف «حماس» من حيث حمايته للقطاع والمقاومة، وفي عدم الرد الفوري.
هذا ما حصل عملياً، وتلكم كانت النتائج: هزيمة للعدو، وذلك بغض النظر عن تفاصيل ما قام بينهما من تفاهم مباشر، أو غير مباشر. المنهج هنا في التقويم. اعتمد أوّلاً على النتائج المترتبة، والتي يمكن أن تترتب المرحلة المقبلة على ضوئها.
أمّا ثانياً، فخطأ الذين ذهبوا إلى تجريح كل من «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، وذلك مهما أقسم كل طرف بأنه مع وحدتهما، وأنه حريص على المقاومة، ولكن موضوعياً ذهب إلى وضع الحب في طاحونة الخلاف، لكن مع الفشل، إذ العلاقة بينهما أقوى من أن تحطم بسبب اجتهاد يحمل الوجهين، من جانب اجتهاد كل منهما.
وكان من حسن التقدير والموقف الصحيح من جانب قيادة كل من «حماس» و«الجهاد الإسلامي» خصوصاً في قطاع غزة (وفي الخارج طبعاً)، أنهما منذ البداية تفهما موقف كل منهما، كما على الجمع الموضوعي بينهما عملياً، ومن دون لعبة «تقسيم الأدوار».
طبعاً أخطأ هنا الذين أشاروا إلى ذكاء العدو حين ذهب للتركيز على «الجهاد الإسلامي» وتحييد «حماس»، بأنه أراد أن يوقع بينهما، في حين أن ما فعله على أرض الواقع كان للفوز باغتيال الشهيد تيسير الجعبري، وتجنّب خوض حرب كبيرة. فلو كان لديه مشروع لحرب كبيرة لبدأ بـ«حماس» و«الجهاد الإسلامي» في آن، ولم يسع لسياسة فاشلة للإيقاع بينهما.
إن الهدف من هذه المقالة هو الوصول لتقدير موقف صحيح من موازين القوى القائمة بين العدو وبين المقاومة في قطاع غزة، أوّلاً، وعلى مستوى القدس والضفة الغربية، ثانياً، وعلى مستوى فلسطيني وعربي وإسلامي عام، ثالثاً. وذلك لتذهب قيادة المقاومة لمعالجة تحديات المرحلة المقبلة استراتيجياً وتكتيكياً.
فالتقدير الصحيح لموازين القوى هو الذي لا يستند إلى كم يمتلك كل طرف من سلاح وقوات، على أهمّيته، وإنما الاستناد إلى قراءة موازين القوى على ضوء المعادلات العالمية والإقليمية، من جهة، كما على وضع الكيان الصهيوني من حيث نقاط ضعفه المستجدة.
وما يتسّم به في هذه المرحلة من معوقات لم يعد يستطيع معها خوض حروب التوسع بانتصارات عسكرية، كما كانت حاله في الماضي من 1948 إلى نهاية القرن العشرين. لقد فقد القدرة على التقدير الصحيح للموقف، وراح يرتبك ويتخبط، ويطرح شعارات ويتراجع في المواجهات.
إن الفهم الدقيق لموازين القوى كما تجلّت في حرب «سيف القدس»، وما صحبها وتلاها من مقاومات وانتفاضات، وصولاً إلى مواجهة العدوان الأخير، وقراءة نتائجه وما تبعه من عمليات مقاومة، وتحركات جماهيرية، ورأي عام شعبي فلسطيني، كما عبّر عن نفسه وراء جثامين الشهداء، وبعد العدوان وراء إبراهيم النابلسي وكل شهيد.
الاقتراح الأوّلي السريع أن يوضع هدف منع اقتحامات الأقصى عنواناً لـ«وحدة الساحات»، ولنجاحٍ ممكن تحقيقه، وتأمين أوسع التفاف شعبي ورسمي حوله، فلسطينياً وعربياً وإسلامياً وعالمياً. فموضوع منع اقتحامات الأقصى قويٌ سياسياً لانتزاع نصرٍ فيه.
* منير شفيق كاتب وسياسي فلسطيني
المصدر: الأخبار – بيروت
موضوعات تهمك: