.تشهد فنزويلا حاليا أزمة ليست عادية، بل هي الأخطر منذ وفاة الرئيس السابق، هوغو تشافيز علم 2013.
الأزمة كانت في البداية ذات بعد إقليمي فقط، لكنها حاليًا بدأت رويدًا رويدًا تأخذ منحى دوليًا. والسؤال الذي يجب أن نطرحه في هذا السياق
هو كيف ينبغي لنا فهم مغزى تلك المعضلة التي يشاهدها العالم أجمع حاليًا ؟
لا شك أن إجابة هذا السؤال تحتم علينا تقديم لمحة عامة عن فنزويلا، حتى يتسنى لنها فهم الأزمة بكافة مشاكلها وعواملها ومآزقها.
تشهد البلاد احتجاجات متواصلة منذ أبريل/ نيسان الماضي. وتتهم المعارضة الرئيس اليساري نيكولاس مادورو بالسعي للتشبث بالسلطة.
– الأسباب الرئيسية للأزمة
في البدية لا بد من التأكيد على أن جذور الأزمة في فنزويلا تعود إلى تلك الخلافات التي دبت داخل الحزب اليساري (الحزب الاشتراكي الموحد) الحاكم في البلاد، بمجرد موت هوغو تشافيز.
فبعض الأسماء القوية داخل الحزب، كانت ترى في مادورو، خليفة قويا لتشافيز. فمادورو الذي يعرف على سبيل التحقير باسم “سائق الحافلات”، كان مقربًا للغاية من الرئيس الراحل، لكنه لم يستطع يوما أن يكون مثله على الإطلاق لا من الناحية الثقافية ولا من حيث الاحترام والكرامة.
وحينما جاء إلى سدة الحكم لأول مرة، بدأ الناس ينظرون إليه باستخفاف متسائلين”هل هذا يمكنه أن ينجح ؟!”؛ لكن عزاؤهم الوحيد هو أن الحزب الذي يقف خلفه ويدعمه، كان سيستمر في تحسين أوضاع البلاد.
ولا جرم أن مادورو لم يستطع بأي حالٍ من الأحوال تحقيق السيطرة والاحترام الكاملين في الحزب، حتى وإن كانت شوكته قد أخذت تقوى بمرور الوقت.
باتت الصراعات على الساحة الداخلية، سببًا رئيسًا من أسباب سوء إدارة البلاد، كما أنها ذهبت بفنزويلا إلى سلسلة من الأزمات الداخلية. ناهيكم عن الانخفاض السريع في أسعار النفط، وما صاحب ذلك من أزمة اقتصادية، وكلها أمور كان لها تبعات على كافة الأصعدة.
وبدأ الفساد يبرز في مقدمة الأحداث المتسارعة.
لا غرو أن الأزمة التي طرأت على السياسة الداخلية في فنزويلا، بدأت مع الوقت تتحول إلى مشكلة في الإدارة؛ كما أن الشعب بدأ رويدًا رويدًا يشعر بها على المستويين الاقتصادي والاجتماعي.
– تقلص الدعم الإيراني والروسي والصيني
العديد من الجهات الخارجية التي قدمت دعمًا لفنزويلا، مثل إيران وروسيا والصين، لم تكن علاقاتها مع مادورو كما كانت مع الرئيس الراحل تشافيز. وهذا يعني أن الدعم الخارجي لفنزويلا بدأ يتقلص مع مرور الوقت.
عادت إيران للتعامل طبيعيا مع كاراكاس بعد التقارب التدريجي بينها وبين الغرب. كما أن روسيا بدأت العودة إلى نطاقها الجغرافي القريب لها، بسبب ما تشهده منطقتها من أحداث متلاحقة، إلى جانب القضايا والمشاكل الرئيسية التي أثرت على علاقاتها بالغرب.
أما الصين فيممت وجهها بشكل أكبر صوب الإكوادور، وبدأت من خلال عاصمتها كيتو التي اعتبرتها قاعدة مركزية لها، تتابع وتراقب أمريكا اللاتينية.
كل هذه التطورات الداخلية والخارجية، أثرت بشكل مباشر على سياسة فنزويلا وصورتها ومدى حضورها في المنطقة.
وفي 2015 عندما بدأت تسوء الأمور بشكل كبير في الداخل، سيطرت المعارضة على الأغلبية داخل البرلمان.
وبعد خسارة هذه الانتخابات التي تعني نهاية مرحلة حرجة في تاريخ البلاد حتى ولو بشكل رمزي، بدأت فنزويلا تتبع سياسة دفاعية بهدف العرقلة لا لإعادة ترتيب أوضاعها الداخلية.
وطالب البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، بحقه في الإدارة العليا؛ لكن كل الصلاحيات مجتمعة في يد الرئيس.
ورغم أن المعارضة جمعت التوقيعات اللازمة لإجراء انتخابات مبكرة، لجأ مادورو إلى عرقلة إجرائها.
ولما بات الشعب يجد صعوبة في تأمين احتياجاته الرئيسية بما في ذلك المواد الغذائية وحتى مستلزمات التنظيف، بدأ يتجه للهجرة؛ لتعيش أمريكا اللاتينية أزمة خطيرة على وقع هجرتهم.
وبحسب أرقام رسمية، حتى وإن لم تكن مكتملة، فإن حوالي 800 ألف فنزويلي، هاجروا لكولومبيا، وأعداد كبيرة اتجهت للأرجنتين، والأكوادور، فضلا عن دول أخرى.
ولعل موجة الهجرة هذه أضفت على الأزمة الفنزويلية بعدًا إقليميا، إذ بدأت دول أمريكا اللاتينية تهتم بالأزمة، وتقدم المقترحات لحلها، لكن فنزويلا كانت دائما ترفض الاعتراف بوجود مشكلة عندها، وغضت الطرف عن موجة الهجرة، كما أن قيمة عملتها المحلية “بوليفار”، وصلت لأدنى مستوياتها بسبب التضخم، وانخفضت نسبة الشراء لدى المواطنين، بسبب عدم زيادة المرتبات.
خلاصة القول: الأوضاع الاقتصادية في البلاد تدهورت بشكل كبير.
– مشكلة المعارضة
حينما جاء هوغو تشافيز لسدة الحكم في فنزويلا، كان أهم ما يميز المعارضة أنها كانت صفا واحدًا.
وفي 2008 تجمعت أحزاب المعارضة، تحت كيان يسمى “طاولة الاتحاد الديمقراطي” المعارض، الذي عرف اختصارا باسم (MUD). وإن كانت هذه الأحزاب في البداية قد عجزت عن تحقيق نجاح كبير أمام الكاريزما التي كانت يتمتع بها تشافيز، إلا أنها تمكنت في الانتخابات البرلمانية عام 2015، من تحقيق انتصار كامل بحصولها على ثلاثة أرباع المجلس.
هذا الكيان المعارض، تشرذم فيما بعد على خلفية ما اتبعه من سياسات، كما أنه بات ساحة لنشوب حروب “الأنا” التي خاضها قادة معارضين كانوا قد كشفو اعن أنفسهم في الفترة التي ساد فيها شعور بأن مادورو سيذهب عن سدة الحكم ويرحل.
جدير بالذكر أن عدم فقد مادورو شيئا من قوته رغم الخسارة الكبيرة التي مني بها في انتخابات 2016، قد دفع المعارضة إلى اتباع سياسة جديدة من أجل الحصول على نتائج ايجابية في المواجهة مع الحزب الحاكم، لذلك لجأت إلى حشد الناس وتشجيعهم على النزول للشوارع.
لكن المظاهرات التي اندلعت، وقتل فيها العشرات، على عكس المتوقع، لم تقرب الشعب الفنزويلي من المعارضة. بل جعلت هناك رأي سائد بحقها، مفاده أنها تميل للعنف، وليست الحل المرتجى في البلاد، وأنها لا تفكر سوى في مصالحها الشخصية.
وفي تلك الأجواء اتجهت البلاد لانتخابات الجمعية التأسيسية، وتمكن الحزب الحاكم من تحقيق الفوز بدون مشاكل وبالشكل الذي أراده مادورو الذي أعلن نهاية يوليو/تموز الماضي، فوز معسكره في انتخابات الجمعية الجديدة التي ستعمل على إعادة صياغة الدستور وسط انتقادات دولية، وفي وقت تعهدت المعارضة بمواصلة الاحتجاجات رغم وقوع اشتباكات دامية.
المعارضة المكونة من نحو 20 حزبًا في فنزويلا، تتوزع على قاعدة عريضة بدءًا من الديمقراطيين الاشتراكيين، وحتى الليبراليين الجدد، والأصوليين المناهضين لتشافيز.
– موقف الجهات الفاعلة دوليًا
مادورو الذي ظل في موقع المدافع طيلة السنوات الأخيرة، يعرف جيدًا أنه كان سيخسر سلطته في الانتخابات المزمع إجراؤها في أكتوبر/تشرين أول 2018 ، إذا تمت في ظل ظروف طبيعية.
وبناء عليه، خرج من طور الدفاع، وذهب بالبلاد إلى إجراء انتخابات الهدف من ورائها تشكيل الجمعية التأسيسية، وإعداد دستور جديد. ولعل القاصي والداني يعرف أن هذه الانتخابات التي شهدت نسبة إقبال ضعيفة، لا تحمل أي هدف سوى إطالة عمر مادورو في السلطة.
لذلك لم تعترف بعض الدول بنتائجها، كما أن دولًا بالمنطقة استدعت سفرائها، كما وجهت عدد من الدول انتقادات لفنزويلا وحكومتها.
ولا تزال الجهة التي ستؤول إليها البلاد بعد الانتخابات المذكورة، مثار جدل كبير.
ويتعين مع هذه المرحلة أن تتحرك القوى الإقليمية والدولية التي تسعى لحل أزمة فنزويلا في صمت بسبب عملية السلام في كولومبيا، وإلا فإن البلاد ستشهد مرحلة يكثر فيها الكلام بدون وجود تحرك فعلي للحل، كما هو الحال في سوريا، أو سنشهد أمام أعيننا انهيار دولة بحجم فنزويلا، وبذلك نرى تجربة عراقية جديدة ليس لها أي حل.
– احتمال وقوع انقلاب عسكري
واضح للعيان أن الرئيس الحالي كسب كافة المعارك التي خاضها حتى الآن. لكن نظرة الناس له، تزداد سوءًا، كما أن المعارضة، لا زالت تعطي انطباعا للمواطنين بأنها “غير مسؤولة”. ولعل طلبها الدعم من الخارج أو حتى سعيها للمطالبة بعمل انقلاب عسكري، يبعدها كثيرا عن الشعب، وعن الواقعية.
خلاصة القول، هناك أزمة حقيقة في الحكم والإدارة تشهدها فنزويلا، الوقت وحده هو الكفيل بتوضيح ما ستؤول إليه تلك الأزمة وكيف ستنتهي.
لكن رغم كل هذه التطورات يجب ألا ننسى أن الجيش لا زال قويًا، وأن احتمال تدخله بات وشيكًا، لا سيما إذا خرجت الأمور عن نطاق السيطرة، ولم يحسم أي طرف من الأطراف الموجودة على الساحة اللعبة لصالحه.
هذا الاحتمال بات قويًا بعد أن تم الإعلان عن إلقاء القبض على عدد من الجنود في 6 أغسطس الجاري، حاولوا القيام بانتفاضة ضد الرئيس مادورو.
وكالات