الجغرافيا الملعونة جعلت نتنياهو يصفح عن الأسد، ويغضّ النظر عن استمراره «رئيساً» ثناءً لما قدمه من خدمات جليلة لحماية أمن إسرائيل في الجولان.
بقلم: موسى برهومة
الجغرافيا تكون إما نعمة أو لعنة، لكنها بالنسبة إلى بشار الأسد كانت نعمة ما بعدها نعمة، فبفضلها تمكّن من استعادة لقب الرئيس ولو شكلياً، وبفضل تلك الجغرافيا اللعينة، أمكنه أن يكون قاسماً مشتركاً بين سائر الفرقاء، على اختلاف حساباتهم، باعتباره «رئيس الأمر الواقع».
الدول والأطراف التي استثمرت في الدم السوري كانت تحركها الجغرافيا، بدءاً من إيران، وحزب الله، وإسرائيل، والولايات المتحدة، وروسيا، وسواها من بلدان، وجهات وتنظيمات عملت بالوكالة من أجل اقتطاع الجسد السوري، وتمزيق الأرض السورية، وإنتاج محرقة قبل أن تكون في أبدان السوريين، كانت في ثوب الأخلاق، والالتزامات الإنسانية من قبل ما يسمى مجازاً «المجتمع الدولي».
ولا يستحق «نظام بشار الأسد»، ومن قبله «نظام حافظ الأسد» أن يوصف بالذكاء ولا بالدهاء بسبب علاقته بإسرائيل، فهناك أوصاف أقلّ مرتبة لأداء النظام في نسختيه المتشابهتين حد التماهي.
وهو الكذب الذي يتحول إلى إنكار يصدقه أنصار «المقاومة والممانعة»، وقطعان اليسار الأممي، بأنّ دمشق هي «الخصم التاريخي» لتل أبيب، وأنّ لحظة المواجهة مقبلة، وأنّ سورية الأسديْن تحتفظ بحق الردّ، وهو حق يراد به باطل، وستنتظره أجيال وأجيال، حتى يتحقق، ولن يتحقق!
الجغرافيا الملعونة هي التي جعلت رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو يصفح عن الأسد، ويغضّ النظر عن استمراره «رئيساً» ثناءً لما قدمه من خدمات جليلة لحماية أمن إسرائيل في الجولان، كما أبلغ نتانياهو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في لقائهما الأخير.
إذ كان لسان حال نتانياهو يقول، سنمنحه الرئاسة بسبب «صدق» تعهداته، بالحفاظ على جبهة الجولان آمنة، وعدم إطلاقه أية رصاصة تهدد أمن إسرائيل. إنها لعنة الجغرافيا وبهجتها في آن.
وبمقياس مشابه، تصرفت طهران المولعة بتصدير الثورة الإسلامية، وتكثير العواصم التي تهتف بلسان الولي الفقيه، من أجل رسم خريطة «الهلال الشيعي» وإسناد «حزب الله» في لبنان..
وإجهاض مشروع السنّة التي زعمت إيران، بسوء ظن، أنّ الجماعات الإرهابية المقاتلة في سورية تمثله، أو تحاول إسباغ الشرعية على وجودها، باعتبارها صاحبة مشروع رفع «المظلومية السنية» في المنطقة.
وأما ما كان يعني تركيا في الثورة السورية، فهو تدمير قوة الأكراد، والحيلولة دون تشكل كيان مستقل لهم، وتوّجت هذا الأمر عبر عملية «غصن الزيتون» في مدينة عفرين، بتواطؤ مع بشار الأسد، الذي كان يدعو الرئيس التركي أردوغان إلى إطاحته باعتباره مجرماً وإرهابياً عليه الرحيل، مع أنّ الوقائع تثبت أنّ سورية لم تشهد مواجهات مباشرة مع أنقرة منذ أسقطت الدفاعات الجوية السورية طائرة تركية، ما أسفر عن مقتل طاقمها المكون من إثنين، عام 2012.
وبين مطامع واشنطن أوباما، ومن بعدها واشنطن ترامب، في مواجهة بوتين موسكو، أضحت الأرض السورية نهباً للمطامع والتسويات، لكنها في النزْع الأخير اهتدت إلى الجغرافيا وإكراهاتها، فكانت إسرائيل هي «جوهرة التاج» في المآل النهائي.
وتوافق الخصمان الأميركي والروسي على تعهدهما التاريخي بالحفاظ على أمن إسرائيل، فكانت النتيجة انقلاباً، ولو شكلياً، في الخطاب الأميركي، ومن بعده الخطاب الأوروبي، باتجاه الرضى بالأسد، باعتباره خير الشرور، ثم تطور الأمر إلى نزع اقتران «الشرور» بالخير، فحدث، ما هو أكثر شراً في التاريخ: مكافأة القاتل، وتتويجه «رئيساً» لبلد من الدماء والجثث المتفحّمة.
سيكون من العبث مقاربة هذه الجرائم السياسية بمعايير أخلاقية، أو التذكير بمنظومة حقوق الإنسان، أو رجّ أكذوبة «المجتمع الدولي» وسؤالها عن الضحايا الذين هلكوا، وما زال غيرهم ينتظر، من أجل أن يواصل «الرئيس» دراما التوحش، باعتبارها «دراكولا» العصور كلها، وحاصد أرواح البشر أمام مرأى الناس أجمعين، ولكن من دون أن ترفّ عين، وهي ترى سمْل العيون على امتداد جغرافيا المحرقة السورية، فكرمى لعين إسرائيل، تكرم مرج عيون!
- د. موسى برهومة كاتب وأكاديمي أردني
المصدر: الحياة
مفاتيح: الجغرافيا، سورية، نظام بشار الأسد، إيران، حزب الله، إسرائيل، الولايات المتحدة، روسيا، أنصار “المقاومة والممانعة”، المجتمع الدولي، الولي الفقيه، «الهلال الشيعي»،