يمثل تصاعد النزعة الفردية بمجتمعات الشمال دافعا لبحث مفكري الجنوب عن نماذج غير غربية للتقدم والتنمية.
ظهرت تغيرات رئيسية وظواهر جديدة لم تتمكن نظريات اليسار واليمين التقليدية من تقديم تفسيرات مقنعة لها.
ارتبطت أنماط جديدة بظهور منظومات قيمية بالغة الفردية فيما يتعلق بالحلول المقترحة لأزمات الفقر والعنف وغياب الاستقرار.
عادل حسين من أوائل من بحثوا في التراث عن رؤى وخبرات تغني المدرسة الاشتراكية التي آمن بمبادئ العدالة والمساواة والتضامن الواقعة فيها.
شهد أواخر القرن العشرين تراجعاً عالمياً لدور الدولة القومية على أرضية صراعات عرقية ومذهبية وفشل عمليات التحديث الدولتية ببلدان غير غربية.
عمل سمير أمين على تطوير نظرية يسارية تأخذ بالاعتبار تفاوت مقومات العلم وتراكم الثروة وفرص التقدم بين المركز (الشمال الغني) والأطراف (الجنوب الفقير).
ظهرت أنماط غير مسبوقة ارتبطت بتراجع وظيفية الهويات الجمعية (عمال وأصحاب عمل، فئات مهنية، طبقات) مكنت الشمال من صناعة التقدم وغابت عن بلدان الجنوب.
وصل نمط التقدم الغربي حدوده القصوى وكوارث تكنولوجية وأزمات اقتصادية واجتماعية حادة لدولة الرفاه بالغرب وتراجع النمو وتفاقم البطالة وتصاعد تيارات العنف.
* * *
بقلم: د. عمرو حمزاوي
منذ سبعينيات القرن العشرين والحالة الثقافية المصرية تشهد على تحول مفكرين وكتاب من الإيمان بالنماذج الغربية في الإدارة الاقتصادية والاجتماعية وفي السياسة إلى التشكيك فيها والبحث عن بدائل لها.
لم يترك مفكرون كالراحل سمير أمين (1931-2018) والراحل عادل حسين (1932-2001) وآخرون مبادئ العدالة والحرية وحقوق الإنسان والتنمية المتوازنة التي اقتنعوا بها وبحثوا عنها في نظريات اليسار واليمين الواردة من الغرب جانبا، بل سعوا إلى تطوير رؤى بديلة للتطبيق الناجح لتلك المبادئ وفقا لحقائق وأحوال مجتمعنا.
وبينما عمل سمير أمين على تطوير نظرية يسارية تأخذ في الاعتبار تفاوت مقومات العلم وتراكم الثروة وفرص التقدم بين الشمال الغني (المركز) والجنوب الفقير (الأطراف) وصاغ مع آخرين (كأندريه جندر فرانك وريكاردو كاردوسو وايمانويل والرستاين) أفكار مدرسة التبعية التي بحثت في سبل وقف استغلال الشمال للجنوب وإخراج بلدان أمريكا اللاتينية وافريقيا وآسيا من شراك النهب الأوروبي والأمريكي الشمالي، كان عادل حسين من أوائل من بحثوا في التراث العربي والإسلامي عن رؤى وخبرات لها أن تغني المدرسة الاشتراكية التي آمن بمبادئ العدالة والمساواة والتضامن الواقعة في قلبها ولها أيضا أن تربط بين تطبيقات الاشتراكية والعمق الحضاري لمجتمعاتنا ومن ثم ترفع من نسب نجاحها المحتملة.
غير أن تمرد بعض المفكرين والكتاب المصريين على النماذج الغربية، وعلى وجه الخصوص تمرد بعض ممثلي اليسار، نتج عن طيف آخر من الأسباب وثيقة الصلة بتحولات الغرب الأمريكي والأوروبي بين ستينيات القرن العشرين وبدايات الألفية الثالثة.
فمن جهة أولى، بدأت أركان الصورة البراقة للشمال، صورة التقدم المستمر، في الاهتزاز بشدة مع بدايات الثلث الأخير من القرن العشرين وجاء ذلك على وقع عدد من التغيرات الرئيسية والظواهر الجديدة التي لم تتمكن النظريات التقليدية بشقيها اليساري واليميني من تقديم تفسيرات مقنعة لها.
فقد مثلت حقيقة وصول نمط التقدم الغربي (الرأسمالي والاشتراكي) إلى حدود بدت قصوى، وتبدت جلية في كوارث تكنولوجية من شاكلة انفجار مفاعلات نووية في السابق وفي اليابان وأيضا في أزمات اقتصادية واجتماعية حادة لدولة الرفاهة في الشمال المتقدم كان أهمها تراجع معدلات النمو وتزايد نسبة البطالة وتصاعد تيارات العنف السياسي والعنصري فضلا عن مشكلة التهديدات البيئية للوجود الإنساني إشارات تحذير واضحة بدأت معها النخب الفكرية والثقافية في الشمال الغني وفي الجنوب الفقير، ولو على نحو جزئي، في التفكير في استراتيجيات جديدة لإدارة مجتمعات الشمال ومراجعة تطبيقات نماذج الشمال في بلدان الجنوب ركزت بالأساس على فرص التنمية المستدامة والمتوازنة وعلى فرص الاستقرار المجتمعي في ظروف الفقر والتبعية التي تشهدها بلدان أمريكا اللاتينية وافريقيا وآسيا.
من جهة ثانية، شهدت ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين تراجعاً عالمياً لدور الدولة القومية سواء على أرضية صراعات عرقية ومذهبية أو في سياق فشل عمليات التحديث الدولانية في العديد من البلدان غير الغربية وهو الأمر الذي رتب بروز قوى سياسية ودينية معارضة مارست عنفاً وشكلت تهديداً مباشراً لموقع الدولة القومية وهويتها وأنتجت عملية إحياء شاملة لرؤى رجعية حول المجتمع والسياسة رفضت الحداثة العلمانية الواردة من الشمال بشقيه الرأسمالي والاشتراكي وحاولت فك الارتباط العضوي بين العلمانية ومنظومات الأفكار والقيم اليسارية واليمينية.
ثم شكل السقوط المدوي للاتحاد السوفياتي السابق ودول المعسكر الاشتراكي جزئياً في إطار حركات احتجاج شعبية عنيفة عاملاً إضافيا في بلورة حالة عالمية من البحث عن نماذج بديلة في الشمال وحالة عالمية من القلق والبحث عن نماذج غير غربية للتقدم والتنمية المستدامة والمتوازنة في الجنوب.
كذلك يمثل تصاعد النزعة الفردية في مجتمعات الشمال المعاصرة دافعا لبحث مفكري الجنوب عن نماذج غير غربية للتقدم والتنمية. وقد اكتسب هذا الأمر تدريجيا أنماطا غير مسبوقة ارتبطت بتراجع وظيفية الهويات الجمعية (العمال وأصحاب العمل، الفئات المهنية الأخرى، الطبقات) والتي مكنت بلدان الشمال من صناعة التقدم وغابت عن بلدان الجنوب، وارتبطت أيضا بظهور منظومات قيمية بالغة الفردية فيما يتعلق بالحلول المقترحة لأزمات الفقر والعنف وغياب الاستقرار.
*د. عمرو حمزاوي باحث بجامعة ستانفورد الأمريكية، أستاذ العلوم السياسية المساعد سابقا.
المصدر: القدس العربي
موضوعات تهمك: