في رثاء جمال ومديح الضمير الجمعي
- قضية جمال هي الحرية وهي العدالة، والموقف من قضايا الأمة وإدارة شؤونها بحكمة وعقلانية.
- سلام عليك يوم ولدت، ويوم قُتلت، ويوم تقف رافعاً رأسك، بينما القتلة الحقيقيون وأبواقهم «مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ».
بقلم: ياسر الزعاترة
منذ اليوم الثاني لإعلان اختفائه، كتبت ما يشبه الرثاء للصديق جمال خاشقجي، رحمه الله، وإن أبقيت ليومين مكاناً لاحتمال أن يكون «مختطفاً». حدث ذلك لأن الأمر لم يكن يحتاج إلى عبقرية في التحليل، كي يدرك المرء حقيقة ما جرى للرجل.
حين نرثي الشهداء، فإنما نرثي أنفسنا وحالنا، فهم «أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»، وهم فرحون «بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ».
نرثي هذا الواقع العربي المرير بكل ما فيه من بؤس؛ ليس على صعيد مطاردة الأحرار فحسب، بل أيضاً على صعيد خلل الأولويات الذي يؤدي إلى فشل ذريع في إدارة الشأن السياسي برمته في مواجهة الأخطار التي تهدد الأمة.
وفي مقدمتها المشروع الصهيوني الأميركي لتصفية القضية الفلسطينية، ويليه مشروع التمدد الإيراني الذي أشعل حريقاً هائلاً في المنطقة صبّ في صالح المشروع الأول، واستنزف شعوب المنطقة.
بعد 17 يوماً من اختفاء جمال؛ تم اختراع تلك الرواية البائسة حول قتله رحمه الله، وتلتها رواية أخرى لا تقل بؤساً، فيما تتبقى الفصول الأخرى من القصة الحزينة، تلك التي ستكشفها جثته، والتي قيل إنها أعطيت لـ «متعاون محلي»!!
والحال أن تهافت الروايتين ليس هامشياً في السياق، حتى لو أفضى إلى لملمة ذيول الجريمة من حيث تداعياتها على من أمروا بها، ذلك أن جريمة كهذه أثارت الرأي العام العالمي لن تغيب سريعاً، حتى لو دعم ترمب لملمتها، فهناك قضايا في المحاكم ستُرفع، وهناك صورة تشكلت، لن يكون بالإمكان تغييرها بسهولة.
والمثير أن من صنعوا تلك الرواية تماماً كمن دافعوا عنها، لم يستعيدوا أبداً ما قالوه وكتبوه من كلام وتعليقات حول القصة، وما أطلقوه من اتهامات بحق خطيبة جمال، وبحق دول أخرى، بل تجاهلوا ذلك كله كأنه لم يكن، ومعهم بقية الأبواق، ما يعكس عطباً مريعاً في الضمير.
الأسوأ من هؤلاء بالطبع هم أولئك الذين أغدقوا المديح لجمال، لكنهم لم يتوقفوا عن التغزل بقاتليه، والأسوأ من الجميع، هم أولئك الذين يلبسون عباءة العلم والدين، ولم يتورعوا عن تبرير الجريمة قبل الكشف عن تفاصيلها، وبعد ذلك.
يحيلنا هذا إلى صورة ظاهرية غالباً ما تتشكل لدى كثيرين في قضايا من هذا النوع، تبعاً لارتفاع أصوات الباطل والمدافعين عنه، بخاصة في مواقع التواصل.
وفي حين كان حجم التفاعل العالمي مع قضية الشهيد جمال مثيراً، وبالطبع لكونه صحافياً، وفي زمن انفلات الوضع الدولي وسيولته، وانفلات الفضاء الإعلامي ومواقع التواصل وسطوتها، وبسبب بشاعة الجريمة وحماقتها، كما أشرنا في مقالنا السابق هنا، فإن أصوات الأبواق كانت كثيرة في مواقع التواصل، الأمر الذي يدفع البعض إلى اليأس من الرأي العام الشعبي، بخاصة في الدول التي تندلع فيها أزمات من هذا النوع.
والحال أن الغالبية الساحقة من الأمة لم تكن بعيدة عن ذلك التفاعل مع قضية الشهيد جمال، ومواقع التواصل أيضاً هي ما عكست ذلك، لكن أجواء الخوف في بعض البلاد هي التي تدفع البعض إلى الصمت، فيما يعلم الجميع أن صوت الحق هو الأقرب إلى ضمائر جماهير، لديها مخزون وعي مدجج بالرموز الحية، وبالطبع إذا استثنينا تلك الفئة التي باعت ضمائرها.
قضية جمال هي قضية الحرية وهي قضية العدالة، وهي قضية الموقف من قضايا الأمة وإدارة شؤونها بحكمة وعقلانية، فقد كان رحمه الله عنواناً لكل ذلك، وقد دفع روحه ثمناً لذلك، وغيابه سيمنح تلك القيم التي آمن بها ودافع عنها مزيداً من التوهج.
سلام عليك يا صديقي يوم ولدت، ويوم قُتلت، ويوم تقف رافعاً رأسك، بينما القتلة الحقيقيون وأبواقهم «مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ». سلام سلام.
* ياسر الزعاترة كاتب صحفي أردني/ فلسطيني
المصدر: «العرب» القطرية