يثور السؤال: هل بالإمكان حصول اقتتال على سورية بين الغرب وروسيا؟
ولكن الأمر الأهم في المدى القصير أن الدول العربية سوف تستفيد من ارتفاع أسعار النفط الخام والغاز الطبيعي.
إلى أي درجة يمكن أن تتفاعل المقاطعة والحصار الاقتصادي ضد روسيا بحيث تجبر بوتين على أن يعيد النظر في حركته الاستراتيجية؟
سيدخل العالم نفقا اقتصاديا مظلما يبدأ بارتفاع الأسعار واحتمال انهيار نظام النقد العالمي وحصول فوضى عارمة بأسواق النقد والمال والسلع الأساسية.
لن تقف المشكلة عند كساد تضخمي بل سيحصل انهيار اقتصادي نرى فيه طوابير الجياع والعاطلين والمجرمين يجوبون الشوارع مما قد ينتهي بحربٍ نوويةٍ مدمّرة.
هل غابت الأمور الاقتصادية عن ذهن المخطط الاستراتيجي الروسي عندما استفزّ إلى حدّ إرسال قوات لاحتلال أوكرانيا والعمل على تغيير القيادة الحاكمة فيها؟!
ماذا سيفعل الغرب لو مضت روسيا في إبقاء وجودها العسكري بأوكرانيا، وأصرّت على استقلالية المنطقتين الانفصاليتين في شرق أوكرانيا، ماذا سيفعل الغرب؟
أوقع الغزو الطرفين، الروسي والغربي، بين فكّي الكماشة، فليست روسيا ناجية من العواقب إذا تنازلت ولن تحقق انتصارا إذا أصر الطرفان على موقفهما لأنه سينتج ديناميات جديدة صعبة ومعقدة.
* * *
بقلم: جواد العناني
في الحرب الاقتصادية التي دارت رحاها بين الصين والدول الغربية، وبخاصة الولايات المتحدة، تبينت لنا مجموعة من الحقائق الأساسية، فالتجارة والاستثمارات مع الصين كبيرة، وتسير باتجاهين، معظمها لصالح الميزان الصيني، وأنّ أيّ قيودٍ تُفرض على شكل عقوباتٍ على الصين ستنطوي على كلف أكبر على الاقتصادات الغربية.
والأمر الثاني أنّ في الصين استثمارات أميركية وأوروبية ويابانية كبيرة جداً، وأنّ لديها منصّات إلكترونية (هواوي) كافية لتسيير معاملاتها النقدية الدولية. وإذا حرمت من خدمات نظام “سويفت” الدولي للتحويلات المالية، فإنّها قادرةٌ على تعويض ذلك.
ولذلك أدّت الحرب الاقتصادية مع الصين إلى هبوط القدرة على إنتاج الرقائق الإلكترونية “المايكروشيبس” ما أخّر صناعاتٍ كثيرة، خصوصا السيارات والهواتف والكمبيوترات الشخصية، وغيرها من الوسائل الذكية. وكذلك ارتفعت كلف الشحن العالمية، وغيرها من الأمور.
لذلك استطاعت الصين أن تحدّ من حجم الأذى الذي سيلحق بها من تلك الحرب. وتدلّ المؤشّرات الاقتصادية على أن الصين قد استفادت في ميزانها التجاري، وفي إنتاجها، وحتى معدلات نموها، رغم القيود المشدّدة التي فرضت على حركة الشعب الصيني في المدن الكبيرة، خصوصا بسبب كورونا.
لكن روسيا، بالمقارنة، لا تستطيع عمل ذلك، فهي تعتمد كثيراً في اقتصادها ودخلها الحكومي على علاقاتها مع الغرب، وأوروبا بشكل خاص، فالنفط والغاز يصدّران إلى أوروبا. وإذا ما وجدت هذه الدول وسائل لتقليل استيرادها، فذلك سيكون له عواقب واضحة على دخل روسيا من صادراتها الأحفورية، وعلى موازنة الحكومة التي تعتمد في 40% إلى 50% من دخلها على الإيرادات المتأتية من النفط الخام والغاز الطبيعي.
وكذلك، فإنّ مقاطعة التعامل مع البنوك الروسية، وتجميد أموال البنك المركزي الروسي في البنوك الغربية، ومنع روسيا من الاستفادة من نظام “سويفت”، وحرمان طيرانها من استخدام الأجواء المحيطة بها سينطوي أيضاً على آثار سلبية تتجلّى فوراً بانعكاسات سلبية على سعر الروبل الروسي (انخفض بسرعة بنسبة وصلت إلى 70% حيال الدولار الذي صار يساوي 100 روبل)، وفي تراجع أسواق البورصة التي عطلت السلطات الروسية نشاطها.
ويبقى السؤال: هل غابت هذه الأمور كلها عن ذهن المخطط الاستراتيجي الروسي عندما استفزّ إلى حدّ إرسال قوات لاحتلال أوكرانيا، والعمل على تغيير القيادة الحاكمة فيها. وقد فاجأ قرار الغزو الروسي الصين، التي أخذت موقفاً شبه محايد، تجلى في امتناعها عن التصويت في مجلس الأمن، وعن إصدار بيانات تدعم الموقف الروسي حيال قرارات المقاطعة الاقتصادية، ولكنها تدعو، في الوقت نفسه، إلى انهاء الأزمة في أوكرانيا بالطرق السلمية.
والسؤال: ماذا لو استمرّت روسيا في عنادها، ومضت في إبقاء وجودها العسكري في أوكرانيا، وأصرّت على استقلالية المنطقتين الانفصاليتين في شرق أوكرانيا، ماذا سيفعل الغرب؟
إلى أي درجة يمكن أن تتفاعل المقاطعة والحصار الاقتصادي ضد روسيا، بحيث تجبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أن يعيد النظر في حركته الاستراتيجية؟
أوقع الغزو الطرفين، الروسي والغربي، بين فكّي الكماشة، فليست روسيا ناجية من العواقب إذا تنازلت للطرف الآخر، ولا هي محققة انتصارا إذا استمر كل من الطرفين في الإصرار على موقفه، لأن هذا سينتج ديناميكيات جديدة صعبة ومعقدة.
أولها أن هدف الدول الغربية الرامي إلى ضم روسيا لتكون جزءاً من التحالف الغربي ضد الصين ربما يفشل، وتقوم روسيا والصين بالتعاضد معاً، وهو أمر له كلفة على الجميع، بدءاً من روسيا والصين والولايات المتحدة وحلفائها.
وثانياً أنّ هذه الحالة سوف تدخل العالم في نفق اقتصادي مظلم سيبدأ بارتفاع الأسعار، واحتمالية انهيار نظام النقد العالمي، وحصول فوضى عارمة في أسواق النقد والمال والسلع الأساسية.
ولن تقف المشكلة عند الكساد التضخمي (stagflation)، بل سيحصل انهيار اقتصادي (depression)، نرى فيه طوابير الجياع والعاطلين من العمل والمجرمين يجوبون الشوارع. وهذا سينتهي بحربٍ نوويةٍ مدمّرة لمعظم العالم.
هذا السيناريو الرهيب يمكن أن يحصل، ولكن ربما يكتفي المتخاصمون بحروبٍ ومناكفاتٍ محلية في أماكن مختلفة. وقد يكون بعضها مفيداً، وبعضها الآخر ذا ضرر كبير.
فقد تدفع الحرب الأوكرانية الغرب إلى الوصول إلى اتفاق نووي في فيينا مع إيران، ويسعون من خلاله إلى فكفكة احتمال تضافر باكستان مع ايران مع أفغانستان، ما كان سيشكّل تهديداً للمصالح الغربية في وسط آسيا، وفي دول بدأت تشهد قلاقل كالتي حصلت في كزخستان وأوزبكستان وقرغيزستان؟
هنالك أيضاً احتمالية الضغط على تركيا لاغلاق ولو فترة مؤقته، مضيقي الدردنيل والبوسفور، في وجه الملاحة الدولية، ما سيجعل من الصعوبة على السفن الحربية والتجارية الروسية العبور من البحر الأسود إلى المياه الدافئة في البحر المتوسط. وعندها يثور السؤال: هل بالإمكان حصول اقتتال على سورية بين الغرب وروسيا؟
ولكن الأمر الأهم في المدى القصير أن الدول العربية سوف تستفيد من ارتفاع أسعار النفط الخام والغاز الطبيعي.
في المقابل، ستجد الدول العربية أن ميزانها التجاري والخدمي (الميزان الأساسي) سوف يعاني من ارتفاع كلف المواد الغذائية (القمح، الأرز، السكر، الذرة، الصويا، الأعلاف وغيرها)، ومن ارتفاع أسعار المواد الخام، خصوصا المطلوبة للإنشاءات، مثل الحديد، والألمنيوم، والخشب، والفضة، والزنك. وكذلك ربما تتراجع العوائد السياحية، وكذلك كلف النقل والشحن والتأمين التي يتوقع ارتفاع مخاطرها وأكلافها.
والأردن هي الدولة العربية المصدرة للبوتاس قد تتعرّض ثانية لإغراق الأسواق بهذه المادة من بيلاروسيا التي تتمتع بوافر كبير منها على شكل مناجم أو محاجر. وقد حصل هذا سابقاً في السنوات 2012-2015، وتسبّب للأردن بخسائر واضحة في هذه المادة التصديرية الهامة.
إذا طالت أزمة أوكرانيا، فالباب مفتوح على سيناريوهات كثيرة، قد تتفاوت في حجم تأثيرها السلبي على الاقتصاد العالمي ككل، والاقتصادات الوطنية فرادى. ولكن من الصعب التنبؤ بما يجري، لأن اللاعبين الأساسيين لا يدرون ماذا ستكون ردود فعلهم وأفعالهم على المديين، المتوسط والطويل، في خضم هذه الحرب المعقدة.
* د. جواد العناني سياسي وخبير اقتصادي، نائب رئيس الوزراء رئيس الديوان الملكي الأردني الأسبق,
المصدر| العربي الجديد
موضوعات تهمك: