(المقال الثاني من سلسلة مقالات وعددها 4، للمفكر في الشؤون اليهودية والصهيونية، أحمد عزت سليم، في نقده لقانون “القومية اليهودي”)، لقراءة المقال الأول من هنا.
على الحقيقة الجارية الآن، ومن خلال كل ذلك ينعم الكيان العنصرى “الإسرائيلى” بالشرعية والحماية والرعاية والدعم والمساندة الفورية والاستراتيجية، وينعم بتدفق المساعدات والتعويضات المالية الضخمة كما ينعم بالتعويض البشرى عن أية خسائر تلحق به ، فينتعش بالتهجير والإحلال ويحيا بالهجرة إليه ويتجدد ثم هو ينعم بتنظيم يهودى عالمى يتكفل ليس فقط بتحقيق أهدافه وإنما بتسييدها فى ظل نظام عالمى استعمارى جديد يضع اليهود مهما يرتكبون من مجازر وجرائم دموية فوق البشر أجمعين ويتعرض كل من يتناول المسألة اليهودية .. إلى افتراس وتمزيق كلاب الحراسة اليهودية ، فاليهود معصومون من النقد. هذا هو قانون اليهود فليس من الجائز توجيه النقد إلى اليهود .. إن هذا محظور كما يرى ليونيل كرانا ولكن على حد تعبير موشيه سيملانسكى: ” إن الصهيونية تعتبر العمل الواحد حقاً وصواباً إذا قامت هى به ، وخطأ غير مشروع إذا قام به غيرها ” وهو القائل إن القومية اليهودية فى فلسطين مبنية على أنانية عسكرية من العنف، وبعيدة كل البعد عن الإنسانية، هذا هو المقصود بالصواب الصهيونى.
وينبغى أن نؤكد على أن الصراع العربى- الصهيونى هو صراع يتعارض فيه الوجود العربى بالوجود الصهيونى بعيداً عن الحلول التلفيقية التى تؤجل حسم الصراع والتى تأتى نتيجة اختلال ميزان القوى لصالح العدو الصهيونى والذى يعرف جيداً بأن ما بين النهر والبحر لا يمكن أن تسود إلا سيادة يهودية أوعربية ويتغلب فيها من يتحلى بالإرادة الأكثرعزماً والرؤية السياسية الأكثر وضوحا، كما عبر عن ذلك الصهيونى مارتين شارون ، وكما أن كل الحلول والتسويات التى تم غرسها فى المنطقة لم تأت بالسلام، وإنما أطلقت يد “إسرائيل” فى التسوية والغزو والعدوان ، ورداً على سؤال حول البيئة الاستراتيجية التى تقوم عليها “إسرائيل” فى ظل اتفاقيات السلام ، أجاب إيهود باراك: “إسرائيل” القوية .. القوية جداً ، لأعوام طويلة مقبلة حتى بعد أن نتوصل لاتفاقيات السلام .. أقوياء فى جميع النواحى .. وهذه القوة ستكون الضمان لاستمرارنا ” لقد وصلت القوة ” الإسرائيلية” هذه فى ظل الأنظمة السياسية العربية المتعامية عن مصالح شعوبها والجاهلة بحقيقة الصراع إلى كل بيت من خلال الشراكة الاقتصادية وتسليم مشروعاتها إلى المستثمرين اليهود فى إطار التعاون الرأسمالى العالمى والذى سلمت به هذه الأنظمة قبل حل المشكلة وقبل السلام الدائم الذى ما فتأت تعلن سعيها إليه ، وقبلت لعب دور الوسيط والوكيل الدائم للسيطرة الاحتكارية العالمية على مقدرات شعوبها فقبلت تسليم أراضيها لإقامة القواعد العسكرية وقبلت تعديل مناهجها التعليمية وحذف بعض آيات القرآن الكريم من مناهجها التعليمية وكل ما يتعلق بـ”إسرائيل” العدو منها، وكما قال نيتانياهو: إن مصير العرب واليهود سيتحدد فى المدارس والجامعات وقاعات تحرير الصحف ، والمساجد ، وقال ساسون : لا بد من تلقين الجماهير فى مصر من خلال حملة تثقيفية مدروسة ومحسوبة.
هكذا كان الهدف من السلام هو الاستسلام الكامل ومحو ذاكرة شعوب الأمة العربية وتاريخها.
وينبغى أن نؤكد أن العدو الصهيونى “الإسرائيلى” لا يمكن مواجهته إلا فى إطار الروح النقدية الموضوعية والعقلانية التى تمكننا من مجابهته حضارياً فى إطارعلاقته بالغرب الأمريكى الاستعمارى ، وبالديمقراطية التى تجعل الشعوب أداة للتغيير وأداة للمقاومة ، وذلك فى إطار التراث العربى الإسلامى العظيم الذى يمجد العلم ويؤمن بتعدد الشرائع والمناهج ويمجد العقلانية ويمجد المقاومة ، وهذه العوامل ذاتها هى التى يجرى تغييبها عن الواقع العربى من الأنظمة الحاكمة بأساليبها السلطوية القهرية ، وبمساندة من قوى الغرب الاستعمارى ، ودعمه لها حتى تبقى فى مواقع السلطة ، وبالتالى بقاء حالة التغييب ، تلك الأنظمة التى حولت الصراع بعد اتفاقيات كامب ديفيد وطورته بتخاذلها من مجرد صراع مع ” دولة “مجاورة معتدية إلى مجرد صراع – يبدو دائماً وليس مؤقتا – على بنود اتفاقيات سلام مزمع توقيعها بين ” دولة ” ودول أخرى مجاورة لها وكل منهما يتهدد الآخر !! كما تتوهم هذه الأنظمة – فتبدو هذه الـ” دولة “- “إسرائيل”- فى بحر العداء الذى يحيط بها من كل جانب وقد أضحت الضحية التى يجب أن يدافع عنها الجميع.
هكذا صار الحال بعد هذه الاتفاقيات وبعد اتفاقية أسلو ووثائق كوبنهاجن وجنيف وخريطة الطريق ، ثم أن كلا الطرفين يسعيان سعيهما الحثيث من أجل توقيع اتفاقيات مرحلية أو دائمة لإقامة السلام والتعاون المسمى بالمثمر والبناء بين الجميع ويقع العرب والأنظمة العربية تحت وطأة “الجميع” الذى يدافع عن الـ ” دولة ” الضحية وبرعاية راعية السلام قائدة الحركة الاستعمارية الجديدة وهى الولايات المتحدة الأمريكية ، ثم تحول ذلك الصراع تحت وطأة كل هذا على نحو ما نراه الآن إلى صراع بين ضحية تدافع عن نفسها وقلة إرهابية منبوذة ــ متناحرة فيما بينها ــ من هذا ” الجميع ” ومعه إجماع الدول العربية ــ وبين الـ” دولة ” الضحية رمزالحضارة الغربية الأمريكية ، النى تحارب الإرهاب الفلسطينى ضمن معركة الغرب العالمية ضد الإرهاب.
هكذا آل الحال بالقضية الفلسطينية برمتها نحو المحو والاقتلاع من الذاكرة العربية والدولية، تحت عملية غسيل مخ كامل لا يستثنى فيها طفل فى مدرسة أو واعظ فى مسجد أو مثقف أو صحفى كما قال أمريكى صهيونى، بل وأحياناً كثيرة ما تهم هذه الأنظمة لدفع العدو الإسرائيلى بالفتك بهذه القلة الإرهابية علها تريح رؤوسها المتعبة . ووصل الأمر إلى أن أصبح من المبادىء التى تحكم الاستراتيجية الإسرائيلية والتى لم تتغير أبدا مهمتها ، على حد تعبير شلومو غازيت المدير السابق للاستخبارات العسكرية ، هى أن قدر “إسرائيل” أن تكون حارسا مخلصا للاستقرار فى جميع البلاد المحيطة بها وأن دورها هو حماية الأنظمة القائمة!!
ونؤكد أيضا أن تحويل الصراع إلى صراع دينى يشكل من الخطورة الكبرى النى تهدد كيان المجتمع العربى وتفضى إلى تغييب حقيقة الكيان الصهيونى “الإسرائيلى” العنصرى ككيان استيطانى إحلالى ذو وظيفة قتالية ، وكقاعدة استعمارية استراتيجية للغرب، تستهدف اقتلاعنا واجتثاثنا من جذورنا الممتدة فى أوطاننا بعمق التاريخ ذاته ، وتحويلنا إلى مادة استعمالية تستهلك ذاتها وتنتهى من التاريخ وتضيع بانتهاء الغرض منها وبانتفاء وجودها بالهزيمة والاستسلام، أو كشعوب متخوفة تستهلك ما يلقى إليها من فضلات العالم الغربى، وفى ظل أنظمة ترفع رايات القداسة فى الوقت الذى يطأ فيه الصهاينة عروشها وهى تضع تحت أقدامها مصالح شعوبها مستغلة هذه الرايات فى وضع غمامة كثيفة على العقل والروح والنقد والعلم.
لقد فتحت المقاومة اللبنانية وانتصارها أكثر من مرة على العدو الصهيونى على الرغم مما استخدمته الآلة الصهيونية العسكرية من أسلحة وعتاد وأجهزة معلومات لم يعرف التاريخ لها مثل، وبمعاونة الغرب الاستعمارى الأمريكى كله ، أبواباً للمقاومة والثقة فى الانتصار، وأكثر من ذلك أبرز انتصار المقاومة مرة أخرى ـ وثبات المقاومة الفلسطينية فى الأراضى المحتلة ـ ” الفشل الحقيقى الذى يسيطر على الفكر الأمريكى- والصهيونى– لقد جمع معلومات ورصد أحداثاً وملأ خزائنه بما يسميه الأبحاث التجريبية ولكنه لم يستطع لا أن ينظر ولا أن يفسر، ولم يخرج عن كونه بوب معطيات ترتبط بمجتمعات معينة لها تاريخها وأوضاعها ولا تتعدى ذلك القدر من أنها نموذج للسلوك وللتعامل بين نماذج أخرى عديدة لا حصر لها ومن ثم فإن دلالتها تتقيد بذلك الإطار” ( حامد ربيع ، الثقافة العربية بين الغزو الثقافى وإرادة التكامل القومى ).
وليس أدل على هذه الحقيقة من موقف أسلحة المعلومات هذه مما حدث فى إيران ، جميع المعلومات التى جمعت وبإتقان – لم يعرف له التاريخ مثيلاً – لم يسمح للإدارة الأمريكية أن تعرف حقيقة وجوهر النفسية الإيرانية ، كما بين ووضح لنا العلامة الراحل الدكتور حامد ربيع وبالمثل لم تعرف الآلة الصهيونية “إسرائيل” ومن خلفها الغرب كله جوهر المقاومة اللبنانية الحربية لحزب الله . لقد أعاد هذا الانتصار مرة أخرى وثبات المقاومة الفلسطينية البطولى فى الأراضى المحتلة إمكانية المقاومة ضد العنصرية الصهيونية بمستوياتها المتعددة مما جعل الكثير من الصهاينة وأنصارهم يعتقدون أن مستقبل الـ “دولة ” الصهيونية ومكانها القائم فى قلب الشرق الأوسط محك التهديد والتساؤلات حول إمكانية الاستمرار فى البقاء ونيل الاستقرار الدائم وكما لم يكن من قبل ومن هنا إزداد التركيز الإسرائيلي الصهيوني المتزايد على فكرة “يهودية الدولة” ، وعلى فكرة “التراث اليهودي” وإعادته بالتهويد سعيا نحو إعادة مزاعم “مملكة داود وسليمان”وإعادة إنتاجها مرة أخرى.
وفى الوقت نفسه وبالرجوع إلى التصرفات الإجرامية العنصرية والمجازر الدموية الوحشية الصهيونية والتى تمارسها ” إسرائيل ” بشكل يومى ومعتاد كصورة شرعية وكما انتهى الباحث الأمريكي بار يليخمان فى دراساته حول الانتقامات الإسرائيلية، ” بأن الانتقام الإسرائيلى هو سلوك قومى إسرائيلى .. وأن “إسرائيل” تعتبر الانتقام صورة شرعية من صور السلوك القومى ” ، والذى تمارسه الجماعات الصهيونية فى فلسطين المحتلة ضد الشعب الفلسطينى وضد ما تطوله الآله الصهيونية الوظيفية “دولة إسرائيل” وحيث تتعاظم هذه الشرعية الدموية مع تخاذل الأنظمة العربية ، فإننا نجد أن العناصر الدينية اللاهوتية التى تجعل من اليهود البشر الوحيدين مركزاً للقداسة وتجعلهم الشعب البشرى الوحيد الأسمى والمختار وتجعل “الدولة” “دولة” أنبياء ومملكة كهنوت بالإضافة إلى كونها ذات طبيعة إحلالية مادية تعاقدية ونفعية ، فإن هذه العناصر تمثل الغطاء وفى نفس الوقت الدوافع وراء هذه التصرفات الإجرامية اليومية ، الفردية والجماعية والتى تصدر عن هذه الجماعات الصهيونية وتقف وراء تفسير سلوكياته البشعة ويراها الغرب غير ذلك منذ دعوات بابوات روما فى القرن الحادى عشر إلى إعادة أرض ” إسرائيل ” ووضع حداً لكل التعاليم المحمدية.
وبناء على خلفية توحد الديانتين اليهودية والغربية الأمريكية فى كتاب واحد مقدس واعتبار أن الديانة الثانية منبنية على الديانة الأولي لأولئك المقدسين ، وإعطاء أرض الرب – المزعومة– من النيل إلى الفرات لأبناء الرب كفكرة مركزية صهيونية يسعى إليها الصهيونى اليهودى أياً كانت الطائفة التى ينتمى إليها وهو ذاته سعى الأصوليين الغربيين الصهاينة ، وكما قال مناحم بيجن للسادات فى الكنيست : لا يا سيدى لم نأخذ أرضا عربية ، بل عدنا إلى بلادنا والصلة بين شعبنا وهذه الأرض أبدية ، ومن قبله قال بن حوريون عقب إعلانه الجرب على مصر عام 1956 : أن السبب الحقيقى للحرب هو إعادة مملكة سليمان إلى حدودها التوراتية ، وفى عام 1993 دعا آرييل شارون بقوة قى مؤتمر الليكود أن تتبنى “إسرائيل” الحدود التوراتية كسياسة رسمية ، كما يجرى تداول الخرائط اليهودية لهذه الحدود التى تصل فى بعضها إلى ضواحى القاهرة ، ثم عودة التعبيرات الصليبية والمسيانية فى الخطاب الغربى الأمريكي وعلى لسان قادة النظام العالمى الجديد وهذا ما قاله جورج دابليو بوش عن أنه يشن حرباً باسم السماء وأن الرب قد اختار الشعب الأمريكي لأداء هذه الرسالة وما تقوله عصابته عن القرآن الكريم بأنه كتاب يدعو إلى الإرهاب وأن محتوياته هى السبب المباشر فى الإرهاب وأنه يحض على العنف وأن إله المسلمين وثن وعندما نحاربهم فنحن نحارب الشيطان ، كما أكد الرئيس الأميركي باراك أوباما فى الأول من مارس 2012 إن أحد أهداف الولايات المتحدة على المدى الطويل هو تجاوز دعم القدرات العسكرية التي تحتاجها إسرائيل إلى تأمين التفوق العسكري الضروري لها في “منطقة خطرة جدا” ، معتبرا ذلك الدعم ” التزاما مقدسا “.
ثم تصير – وبناء عليه – التصرفات الإجرامية الوحشية الصهيونية من أجل سعادة الإنسانية والتخلص من الشرانية وقوى الشر والنفايات البشرية، ثم هى شكل من أشكال الدفاع المقدس عن الوجود اليهودى فى الأرض المقدسة، وصادرة عن ذات مقدسة حل فيها الإله وطبقاً للمخطط التوراتى بأكل ثروات الأمم التى تطأها بطون أقدامهم المقدسة، وتسييد العالم حتى تصير صهيون ملكاً لصهيون التى سيرون فيها الرب وينزل الماسيح اليهودى المخلص فيحكم البشر اليهود ويقهر الأغيار الحيوانات، هكذا انخلق الارتباط والتوحد بالماضى التاريخى وباللاهوتى مع التحالف الاستعمارى الغربى الذى يسعى لإحكام سيطرته على العالم، وجعل هذا الارتباط والتوحد مبرراً للحتمية الدموية التى تتفق والأهداف العنصرية الصهيونية العالمية والغربية ، وحيث يؤمن كل القادة فى “إسرائيل” ومعهم جميع الطوائف والألون “الإسرائيلية ” بالأيديولوجية اليهودية التى تقضى بأن لايعترف مطلقا وأبدا بأى جزء من أرض ” إسرائيل ” يعود لغير اليهود ، وأن كل الأرض ستسرد فى الوقت المناسب ، أى ستصبح ملكية يهودية، وأنه من الواجب علينا أن نعرف هذه العقيدة الاستراتجية الصهيونية ” الإسرائيلية ” وأن نعيها تماما وألا ننخدع بغيرها مما يجرى تسويقه فى العالم العربى.