يعد المجتمع الفنلندي مجتمعًا مُجيشًا يتلقى أفراده التدريب منذ الطفولة.
رغم أن فنلندا تُعرف بدولة الرفاهية والرعاية والتعليم الناجح، وتحتل مراتب متقدمة في الحريات، واصلت حكوماتها تخصيص موارد كثيرة للدفاع والتسليح.
تستند ثقافة “سيسو” Sisu (القوة والشجاعة الداخلية الفطرية) لما يحتاجه الإنسان للبقاء في مناخ قاس: القوة الخام، وقوة الإرادة والقدرة على التحمل والتفكير بوضوح بالمواقف الضاغطة.
تحولت أشهر “حرب الشتاء”، التي شارك فيها متطوعون من دول إسكندنافيا لحرب عصابات دامية للجيش الأحمر، وتكرّر فشل الغزو السوفياتي بين 1941 و1944، ومهدت التجربة لتشكل دولة الشعب المسلح.
* * *
تزايد في الآونة الأخيرة التوتر بين فنلندا وروسيا، على خلفية حسم هلسنكي موقفها لعضوية حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وغير بعيد عن عاصمتهم، يتابع الفنلنديون انزعاج روسيا وتحذيراتها لبلدهم، إلا أنهم رغم ذلك يبدون منضبطين في ردود أفعالهم، وحازمين في الوقت ذاته في دعم قرار التخلي عن الحيادية.
ففي مقابل التحركات الروسية الاستعراضية العسكرية على الحدود وفي منطقة بحر البلطيق، بدا ساسة هلسنكي واثقين من أن جارهم القوي عسكريا يعرف بلدهم الذي خاض معه حربا ضروسا في غاباته وعلى مساحاته الثلجية في نهاية 1939.
بالطبع ليس بلا مبالاة تصرفت رئيسة حكومة فنلندا الشابة سانا مارين (36 عامًا) إزاء الغضب الروسي، إذ استطاعت مع رئيس البلاد المخضرم سالي نينستو الذي لم يقطع “شعرة معاوية” مع موسكو، جعل تداعيات عضوية حلف الناتو تمر داخليًا أسهل بكثير مما كان قبيل غزو روسيا لأوكرانيا.
دخل المجتمع الفنلندي في نقاشات عميقة حول ما إذا كان خيار الانضمام إلى الأطلسي هو القرار الصائب، وفي خلفية النقاشات علاقة تاريخية متقلبة بين هذا البلد وروسيا.
على مدار أكثر من 100 عام من تأسيس دولة فنلندا الحديثة أصبح لشعبها ثقافة وطنية تقوم على رفض “عودة هيمنة الدول الأجنبية عليها”. ففي الفترة الممتدة بين 1809 وحتى الثورة البلشفية في روسيا عام 1917 عاشت فنلندا كدولة بحكم ذاتي في روسيا القيصرية.
ورغم ذلك فشل الروس دائما في إخضاع فلاحيها الذين يمثلون الأغلبية. وحافظ الشعب على ثقافته الخاصة التي عاشت فترة ازدهار كبير بين 1870 و1910. ولم يمض سوى عقدين على الاستقلال (عن السوفيات) في عام 1917 حتى غزتها موسكو في نهايات 1939، حيث عرف حينها هذا الغزو بـ”حرب الشتاء”.
تحولت أشهر “حرب الشتاء”، التي شارك متطوعون من بقية دول إسكندنافيا فيها، إلى حرب عصابات دامية للجيش الأحمر، وقد تكرّر فشل محاولات الغزو من الشرق بين 1941 و1944، وكانت هذه التجربة قد عبّدت الطريق أمام تشكل دولة الشعب المسلح.
تبلغ مساحة البلد نحو 338 ألف كيلومتر، وشعبها قليل العدد، حيث وصل في آخر إحصاء عام 2020 إلى 5.5 ملايين نسمة. وبعد انضمام فنلندا إلى الاتحاد الأوروبي في 1992 كان جيرانها في إسكندنافيا (الذين تخلوا عن التجنيد الإجباري) يستغربون إصرار الحكومات الفنلندية المتعاقبة على انتهاج ذات سياسات الدفاع والتسليح السابقة.
“سيسو”.. استراتيجية الشعب المسلح
وأعادت الأحداث الأخيرة إلى الواجهة ما يطلق عليه محليا ثقافة “سيسو”، التي تتفرد بها فنلندا عن جيرانها، في مقاومة أي غزو خارجي.
تستند ثقافة “سيسو” (بالفنلندية Sisu وتعني القوة والشجاعة الداخلية التي بمتناول الجميع) على ما يحتاجه الإنسان للبقاء في مناخ قاس: القوة الخام، وقوة الإرادة والقدرة على التحمل، والقدرة على التفكير بوضوح في المواقف الضاغطة.
طبيعة البلد الثلجية القاسية وكثافة غاباتها أسستا لثقافة اعتياد وتدريب الناس منذ الطفولة على قوة التحمل والمقاومة، مستندين على ثقافة أن الإنسان شجاع بما لديه من قوة داخلية (سيسو) وبأعصاب باردة.
على تلك الخلفية الثقافية فإنه لا تذمر في مجتمع مُجيّش تلقّى معظم أفراده فترة تدريب عسكري. وتركز التدريبات العسكرية على مفهوم “سيسو”، وتحويل حروب المدن إلى جزء من تدريبات الجيش الذي يمزج بين الاحترافية وحرب العصابات.
تعداد الجيش الفنلندي النشط رسميا ليس سوى 25 ألف جندي، لكن باحتساب المرتبطين بالجيش من خلال الخدمة التناوبية يمكن أن يصل العدد إلى 280 ألفا، وهؤلاء ليسوا جنودا “خاملين”، بل هم على أهبة الاستعداد للمهمات العسكرية فقد خضعوا للتجنيد الإجباري في شبابهم، وينشطون في تدريبات مُجدوَلة بشكل متواصل، بحيث يمكن خلال ساعات تعبئة وتوزيع هؤلاء في مختلف القطاعات.
وإذا أعلنت قيادة الدفاع في فنلندا أن البلد يتعرّض لهجوم عسكري فسيتم حشد نحو 600 ألف مسلح أيضاً من المدنيين الذين خدموا في الجيش أو تدربوا على حمل السلاح، ما يجعل أي عدو عمليا أمام شعب مسلح. وذلك يوضح أيضا القيمة التي تضيفها عضوية فنلندا لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وخصوصا أن جيشها مسلح بذات أسلحة الحلف.
ورغم أن فنلندا تُعرف بدولة الرفاهية والرعاية والتعليم الناجح، وتحتل مراتب متقدمة في الحريات، إلا أن الحكومات المتعاقبة (يمين أو يسار وسط) واصلت لعقود تخصيص الكثير من الموارد للدفاع والتسليح.
في كل الأحوال، يبدو مجتمع فنلندا ملتزماً بالهدف الرئيس لقادة وعسكريي بلدهم “الدفاع التام عن كل الأرض الفنلندية”، كما يتكرر في البيانات السياسية والدفاعية.
ولعل التوترات الأخيرة بين روسيا ومناطق إسكندنافيا توضّح الآن لما اختار الفنلنديون الحفاظ على ثقافة “سيسو”، وعلى التحول إلى شعب مسلح يتدرب على الحروب الهجينة والعصابات أيضا، آخذين بالاعتبار أن 70 في المائة من الذكور مدربون على السلاح.
المصدر: العربي الجديد
موضوعات تهمك: