من يشاهد فيلم فرحة سيفهم أنّ حكايته تهدم، بسلاسة وبساطة آسرة، رواية الاحتلال التي اجتهد في تمريرها للعالم عقوداً طويلة.
هنا الرواية الفلسطينية للاحتلال ترويها شاهدة حيّة من خلال حكايتها الشخصية بكلّ ما فيها من ذكرياتٍ موغلةٍ في الوجع والدم والدموع.
حكاية فتاة فلسطينية في الرابعة عشرة من عمرها، عاشت الفصل الأول من فصول نكبة 1948 عبر شقّ بجدار يفصلها عن العالم بمنزل أسرتها المهجور.
حين قتلت الفرقة الصهيونية كلّ أفراد الأسرة، باستثناء الجنين الذي تركته يواجه مصيرَه المحتوم أمام عيني “فرحة” كانت المأساة قد تحقّقت بشكلها المثالي.
فيلم “فرحة” ليس فيلما سينمائيا وحسب، بل يُقرأ كوثيقة سينمائية وتاريخية على حكاية طُمست طويلاً ومن يدري؟ ربما يكون سقوط الباب برصاصات “فرحة” قبيل النهاية بداية لسقوط الرواية المضادّة السائدة بأكملها.
* * *
بقلم: سعدية مفرح
قد لا يفهم الذين لا يعرفون خبايا الاحتلال الصهيوني لفلسطين سبباً لحملة الكراهية والشيطنة التي يتعرّض لها الفيلم الفلسطيني الأردني، المعروض حالياً على منصّة نتفليكس.
لكن، من يشاهد الفيلم سيفهم أنّ حكايته تهدم، بسلاسة وبساطة آسرة، رواية الاحتلال التي اجتهد في تمريرها للعالم عقوداً طويلة، فهنا الرواية الفلسطينية للاحتلال ترويها شاهدة حيّة من خلال حكايتها الشخصية بكلّ ما فيها من ذكرياتٍ موغلةٍ في الوجع والدم والدموع.
وهنا فيلم سينمائي مصنوعٌ بعناية، ووفقاً للشروط الفنية بمستواها العالي، ليحقّق الفكرة من دون التوسّل بنبل الحكاية وجدانياً، كما يحدث غالباً في معظم الأفلام السينمائية التي تتخذ من قضية فلسطين مادّة لها.
يحكي الفيلم حكاية فتاة فلسطينية في الرابعة عشرة من عمرها، قدّر لها أن تعيش الفصل الأول من فصول نكبة 1948 في فلسطين، من خلال شقّ رفيع بجدار يفصلها عن العالم في منزل أسرتها المهجور.
كان حلم “فرحة” وهذا هو اسمها الذي اتكأ على ذلك المعنى، في دلالةٍ تحمل مفارقةً عكسية مع ما عاشته من واقع، هو إكمال دراستها في المدينة، ولم يقتنع والدُها بفكرة ابنته إلا قبل يوم من اقتحام القوات الصهيونية القرية، بغرض التطهير العرقي وإخلاء البيوت من سكانها الأصليين.
عندما غادرت ووالدها بيتهما على عجلٍ تحت دوي الرصاص، كانت ورقة تسجيلها في مدرسة المدينة أهم ما حملته في حقيبتها الصغيرة سلاحاً بوجه المجهول.
حاول والدها أن يساعدها على النجاة بإرسالها مع أسرة صديقتها في سيارتها، قبل أن يتفرّغ للنضال، لكنها تملصت من تلك المحاولة، لتعود إليه في إصرار على البقاء بجانبه.
كانت حريتها الفردية هذه المرّة ثمناً لحرية قرارها، إذ سجنها والدها في غرفة المؤونة في منزل الأسرة، وأغلق عليها باباً، ثم موهه بالطين، تاركاً لها فجوة صغيرة للضوء والحياة في جدار سميك.
حكاية “فرحة” هي حكاية فلسطين كلها، ولأنّها مستمدّة من تاريخ حقيقي لفتاة تدعى راضية، كما أشارت إلى ذلك صانعة الفيلم دارين سلام، التي اعتمدت في كتابتها القصة والسيناريو على ذاكرة جدّتها التي احتفظت طويلاً بتفاصيل تلك القصة، لأنها النموذج الأمثل لكل القصص الفلسطينية الفردية والعائلية وقت النكبة.
استسلمت “فرحة” لقدرها، بعد أن فشلت في فتح الباب للخروج من سجنها الحرّ، لكنّ لجوء أسرة فلسطينية مكونة من زوج وزوجة حامل على وشك الولادة وابنتين إلى المنزل الفارغ، بعد أن داهم الطلق الزوجة، أعطاها أملاً في النجاة.
راقبَت “فرحة” من كوّتها الصغيرة مشهد الحياة، وهو يتخلق مرّة جديدة من خلال توليد الزوج زوجته وخروج الطفل الصغير من رحم والدته. وعندما أسدل الستار بانتصارٍ آنيٍّ صغير، آن الأوان لمشهد انتصار آخر بدأه الرجل الذي انتهى للتو من إخراج طفله “محمد” إلى الحياة، فبادر إلى محاولة إخراج “فرحة” من رحم غرفة المؤونة الموصدة، لولا أن داهمته فرقة صهيونية بصحبة مترجم خائن، كان من الموجع لـ”فرحة” لاحقاً أن تكتشف أنّه عمّها!
اكتملت عناصر القوى التي احتلت لاحقاً وطناً كاملاً أمام عينيّ “فرحة” من خلال الشقّ الذي أحدثه “أبو محمد” في الباب في أثناء أولى محاولاته لكسره.
وحين قتلت الفرقة الصهيونية كلّ أفراد الأسرة، باستثناء الجنين الذي تركته يواجه مصيرَه المحتوم أمام عيني “فرحة” كانت المأساة قد تحقّقت بشكلها المثالي.
أما باب النجاة الفردي الذي انفتح أخيراً لتخرج منه بطلة الحكاية إلى واقعها الجديد، فلم يكن لينغلق بعد ذلك أبداً قبل أن يعرف العالم كله تفاصيل ذلك الواقع كما حدث… وعلى ألسنة الشهود أمواتاً وأحياء.
لا يستحقّ فيلم “فرحة” أن يُرى فيلماً سينمائياً وحسب، بل ينبغي أن يُقرأ وثيقة سينمائية وتاريخية على الحكاية التي طُمست على هذا الصعيد طويلاً… ومن يدري؟ ربما يكون سقوط الباب برصاصات “فرحة” قبيل النهاية بداية لسقوط الرواية المضادّة والسائدة بأكملها.
*سعدية مفرح كاتبة وصحفية وشاعرة كويتية
المصدر: العربي الجديد
موضوعات تهمك: