نكتة روسية، بليغة ومعبّرة، تقول: «كلّ ما قاله الشيوعيون عن الشيوعية كان كاذباً، ولكن كلّ ما قالوه عن الرأسمالية اتضح أنه الحقيقة»!
يقترن رحيل غورباتشيف بمآلات مختلطة متعارضة لتراثه جيوسياسيا واقتصاديا وعقائديا تخصّ الاتحاد السوفياتي وروسيا لاحقاً، كما تخصّ العالم باتساعه.
الوجدان الشعبي في روسيا ابتدع هذه المعادلة بعد أن ذاق ويلات اقتصاد السوق فأجرى مقارنات لا تتوخى الحنين لأشباح الماضي بقدر ما تخشى كوابيس المستقبل.
الصعوبة الأهمّ إقامة توازن (اتضح أنه مستحيل عمليا) بين جمهوريات تتيح لها «غلاسنوست» استرجاع نوستالجيات قومية وانشقاقية وانفصالية، وبين جمهوريات تتمسك بالصيغة الاتحادية ونوستالجيات روسيا الإمبراطورية.
* * *
بقلم: صبحي حديدي
إذا لم يكن التاريخ قد عزله خلال العقدين الأخيرين، لأسباب شتى متقاطعة ومتشابكة، فإنّ ميخائيل غورباتشيف (1931 ـ 2022) جنح إلى ما يشبه عزلة اختيارية، ولكن إجبارية في كثير من عناصرها ومسبباتها.
الأمر الذي يجعل استذكاره اليوم، في مناسبة رحيله، بمثابة تقليب وإعادة تقليب لصفحات مضت وانقضت، وثمة في عواقبها السلبية وآثارها الإيجابية ما يفتقد إلى مقدار غير قليل من التوازن الذي يبيح جرّها إلى سياقات الراهن.
في عبارة أخرى أكثر انتباهاً إلى حاضر روسيا فلاديمير بوتين، ليست مآلات تراث غورباتشيف، في نهجَيْ البيريسترويكا (إعادة الهيكلة) وغلاسنوست (الشفافية) على نحو خاص، محطات ناجحة مثمرة، مضيئة ومنسجمة مع المطامح التي سعى إليها الرجل أو تخيّل أنها ضمانات مستقبل أفضل للاتحاد السوفييتي؛ وبالتالي لا يلوح أنها تُستعاد اليوم بمعزل عن معادلات استيلاد روسيا الحالية، البوتينية بكلّ ما تعنيه هذه النسبة من استبداد وفساد ومافيا وليبرالية شائهة.
وبمعزل عن مواقف نقد خجولة، لا تتجاوز الحدود الدنيا من ملامة بوتين لأنه يواصل الحكم بطرق مختلفة منذ العام 2000؛ ومواقف تأييد حماسية، لا تخفى فيها النبرة القوموية، لخيارات الكرملين في القرم وجورجيا وأوكرانيا؛ لم يعد غورباتشيف قادراً على إعادة التذكير باسمه، وبأفعاله ومقامه في التاريخ، إلا عبر إعلان تجاري عن البيتزا، يناقش فيه الروس (الشباب) محاسن أمين عام للحزب الشيوعي السوفياتي عكف على الإصلاح وأتاح الشفافية؛ ومساوئه (لدى الكهول والشيوخ) لأنه تكفل بتقويض الاتحاد السوفياتي وتفكيك الإمبراطورية الروسية.
وتلك حال ليست مختلفة تماماً في الغرب عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً، ليس لأنّ النسيان شمل تدريجياً تلك الحقبة من مزاعم طيّ الحرب الباردة ومصالحات الثلاثي رونالد ريغان/ مارغريت ثاتشر/ غورباتشيف، فحسب؛ بل جوهرياً لأنّ التاريخ استدار إلى ملفات مثل روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي، وحرب الخليج الأولى، وهزّة 9\11، وحرب الخليج الثانية، وما بينهما أساطير مثل «نهاية التاريخ» وخرافات على قياس « صدام الحضارات».
ثمة الكثير الذي يتوجب تبيانه على سبيل إنصاف الرجل، مثالبه وعثراته مثل فضائله ونجاحاته، ولعلّ أوّل ذلك الكثير هو التذكير بأنه لم يكن يسيراً، في سنة 1985، أن يصل عضو في المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفييتي إصلاحيّ المزاج والإرادة والعزم إلى الأمانة العامة، من جهة أولى؛ وأن يخلف، من جهة ثانية، ديناصورات متفاوتة التشدد والتكلّس والهيمنة، أمثال ليونيد بريجنيف ويوري أندروبوف وكونستنتين شيرننكو.
أشدّ صعوبة، بما لا يُقاس ربما، أن تعتمد سياسات إصلاحية بنيوية، اقتصادية وسياسية وتنظيمية، من دون أن تتسبب في تفكيك الاتحاد السوفييتي على أصعدة شتى؛ لعلّ مبتدأها الأهمّ كان إقامة توازن (اتضح أنه مستحيل عملياً) بين جمهوريات يتيح لها «الغلاسنوست» أن تسترجع نوستالجيات قوموية وانشقاقية وانفصالية، وبين جمهوريات تتمسك بالصيغة الاتحادية لأنها امتداد لأحلام القياصرة ونوستالجيات الإمبراطورية الروسية.
مشكلات الاقتصاد، التي واجهها غورباتشيف وتوهّم إمكانية معالجتها وإصلاحها بقصد تطويرها بنيوياً، كانت عويصة بالطبع في الجانب السوفييتي المحلي؛ وأكثر صعوبة وتعقيداً واستعصاء لأنها ظلت مرتبطة بجوانبها الخارجية العالمية، أزمنة الحرب الباردة وتضييق الخناق على الاقتصاد السوفييتي.
وكما يساجل، بحقّ، الأمريكي جيفري سومرز أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة وسكنسن، كانت مراسيم غورباتشيف حول شركات الدولة في سنة 1987 وحول التعاونيات في سنة 1988 بمثابة تمهيد لولادة نقائضها الغريبة عن «الاشتراكية السوفييتية» يومذاك: بدل تشجيع اقتصاد القطاع العام ومنحه استقلالية ذاتية أوسع، أتاحت المراسيم إحكام قبضة الدولة على الموارد وإفساح المجال أمام مؤسسات الـ«أوفشور» والمصارف الخاصة وتبعيتها الخارجية وظهور الوسطاء وانخراط الجهاز البيروقراطي في الفساد.
ولم يكن غريباً، استطراداً، أنّ الأشهر الأولى من رئاسة بوريس يلتسين شهدت انفجاراً في تمزيق ما تبقى من أشلاء القطاع العام، وتسارعاً في تمكين المافيات الداخلية والخارجية.
هنا تحديداً يقتضي الإنصاف إياه استذكار وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، والوصفات المتتالية التي اقترحها على الولايات المتحدة و«العالم الحرّ» إجمالاً، من أجل تركيع «الدبّ الشيوعي منتفخ الأوداج»؛
خاصّة تلك الاستعارة المنزلية التي استخدمها لشرح الاستراتيجية الناجعة هذه: أنْ تطوّر الولايات المتحدة جيلاً إثر جيل من الأسلحة المعقدة، وأن تدير المزيد من حروب النجوم، وأن تنفق أكثر فأكثر على قطاعات ليست ذات مردود مباشر على مستوى معيشة المواطن؛ مما يجبر الاتحاد السوفييتي على بذل الغالي والرخيص من أجل مجاراة العدو الإمبريالي، حتى يأتي يوم تفتح فيه السيدة السوفييتية باب ثلاجة الأسرة، فلا تجد سوى الباطل وقبض الريح…
وكما هو معروف، كان غورباتشيف قد صعد إلى الهرم الأعلى في القيادة السوفييتية والوصفات الكيسنجرية على أشدّها من الاشتغال والتطبيق، والرفيق الأمين العام لم يكن عنها غافلاً بل كانت البند غير المعلَن على طاولات حواراته مع أطراف الرأسمالية الكونية إجمالاً، والقطبين الأمريكي والبريطاني خصوصاً.
وقد يكون واجباُ التذكير، أيضاً، بأنّ من عجائب وصفات كيسنجر أنها لم تأتِ أُكلها خلال عهود بريجنيف وأندروبوف وشيرننكو وغورباتشيف فقط، بل توجّب أن تتواصل الاستعارة المنزلية خلال عهود يلتسين وشيرنوميردين ويافلنسكي وكيريينكو (وهي أطوار «الليبرالية الحبيبة») وصولاً إلى عهود بوتين الماضية والآتية.
وليس عجيباً، في المقابل، أنّ السيدة الروسية ذاتها، صاحبة الثلاجة الخاوية إلا من ريح تصفر، هي التي ذهبت إلى الإضراب دفاعاً عن معاش بيتها؛ وأنها الخصم الأوّل لاقتصاد السوق تحت أيّ مسمى اتخذه أو تحايل خلفه، لا بسبب من بغضاءٍ إيديولوجية لعقيدة السوق أو لأية عقيدة سواها، بل بسبب من خواء الجيب وخواء المعدة.
وعلى سيرة العقيدة، ظلّ غورباتشيف يعلن استلهام شخصية فلاديمير إليتش لينين، خاصة في مسائل النأي عن الجمود العقائدي حين تتطلب مهامّ الدولة بيروقراطية أكثر، وكذلك في وعي ضرورات التحوّل الديمقراطي التي أدركها لينين بعد سنة 1920.
ولقد سمح، وربما أوعز، بمقادير متفاوتة من إعادة الاعتبار إلى بلاشفة كبار كانوا خصوم جوزيف ستالين وضحاياه، أمثال نيكولاي بوخارين وكارل راديك وغريغوري زينوفييف، وتردد كثيراً حول منح ليون تروتسكي فضيلة الشك ذاتها.
وفي واحدة من مفارقات التاريخ، المريرة أغلب الظنّ، أنّ غورباتشيف شكّل ما يشبه القدوة المضادة للقيادة الصينية في عهد دنغ شياوبنغ، سنوات 1978 وحتى 1992: ليس بصدد طبيعة الإصلاحات التي أفضت إلى التحولات نحو اقتصاد السوق، أو أنساق العلاقة مع الغرب الرأسمالي ومؤسساته المالية والتجارية المختلفة، فقط؛ بل كذلك على صعيد اعتماد قبضة قهر حديدية كانت وقائع ساحة تيان آن مين نموذجها القياسي.
وثمة نكتة روسية، بليغة ومعبّرة، تقول التالي: «كلّ ما قاله الشيوعيون عن الشيوعية كان كاذباً، ولكن كلّ ما قالوه عن الرأسمالية اتضح أنه الحقيقة»!
وكان المخيال الشعبي في روسيا، وربما في سائر دول «المعسكر الاشتراكي» سابقاً، قد ابتدع هذه المعادلة بعد أن ذاق ويلات اقتصاد السوق، خاصة في ظلال العولمة الوحشية. فأجرى مقارنات لا تتقرى الحنين إلى أشباح الماضي، بقدر ما تتخوّف من كوابيس المستقبل.
وليس رحيل غورباتشيف، مقترناً بالمآلات المختلطة المتعارضة لتراثه على مستويات جيوسياسية واقتصادية وعقائدية تخصّ الاتحاد السوفياتي وروسيا لاحقاً، مثلما تخصّ العالم على اتساعه؛ سوى تذكرة قاسية، لاذعة وثاقبة، بما في النكتة الروسية من حقّ وباطل، على حدّ سواء.
* صبحي حديدي كاتب وباحث سوري مقيم في باريس
المصدر: القدس العربي
موضوعات تهمك: