أثبتت أحداث الحرب الناشبة بين روسيا والغرب، ربما للمرة المئة، أن لا قيادة للعالم ممكنة من دون أن تعتمد على قاعدة اسمها أوروبا.
“لم يخلق بعد أجنبي، وأقصد إنساناً صاحب أنف طويل، أي إنساناً أجنبياً مثلك، استطاع الإلمام بكل شيء عن أي شيء حدث أو يحدث أمامه في الصين”.
تستمر الصين في صعودها المريح وبكلفة غير باهظة نحو نصيب بالقمة بل قد تغدو مهيمنة بآسيا لكن لن تحقق المكانة المرجوة بالقمة ما لم “تهيمن” على أوروبا.
لن تحقق الصين حلم الرئيس شي بإقامة نظام عالمي جديد بقواعد جديدة اعتماداً على منظمة شنغهاي أو تحالفات إقليمية أخرى فلا بد من أوروبا ليتحقق الحلم.
لا تزال أوروبا، على ضعفها، تحتفظ بمركزية دورها بالعلاقات الدولية عموماً، وخاصة العلاقات بين دول القمة والقيادة الصينية تنبهت مجددا لخطورة هذا الدور.
* * *
بقلم: جميل مطر
«عندما تكتب يا صديقي عن الصين لا تنسَ حقيقة أن أنفك طويل. بمعنى آخر، لا تحاول الإلمام بكل شيء عن أي شيء، فلم يخلق بعد أجنبي، وأقصد إنساناً صاحب أنف طويل، أي إنساناً أجنبياً مثلك، استطاع الإلمام بكل شيء عن أي شيء حدث أو يحدث أمامه في الصين».
نصيحة تلقيتها من مواطن صيني قابلته في هونغ كونغ في أول رحلة عمل لي في الصين، أي قبل عقود عدة. لم تكن نصيحة مثبطة للهمة، بل على العكس كانت، بخاصة بعد أن ثبت لي صدقها، دافعاً وراء تخصيص وقت ثمين للتعرف إلى الصين من خارجها بعد العام الذي قضيته فيها في رحلتي الأولى.
قضيت معظم أيام الأسبوع الماضي، أتابع ما أتيح لنا أن نتابع، أي لغير المشاركين في أعماله وغير الذين اشتغلوا شهوراً في التحضير له؛ من هؤلاء المكلفين بمهمة تصفيته من أعضاء في الحزب غير مرضي عنهم، وغير العدد المحدود الذي اشترك في إعداد خطاب الأمين العام للحزب.
أما الوظيفة الثانية للأمين العام فهي رئيس اللجنة المركزية للحزب، والثالثة رئيس اللجنة العسكرية، والرابعة رئيس المكتب السياسي، أي رئيس المجموعة الصغيرة جداً المكلفة رمزياً ومؤسسياً قيادة الحزب بشكل جماعي، والخامسة رئيس اللجنة الدائمة ومعظم أعضائها يطلق عليهم «الخالدون».
من الخالدين مثلاً، الرئيس السابق «هو جينتاو» الذي وصل إلى هذا العمر، وكاد يقع، أو لعله وقع بالفعل، في خطأ لا يغتفر. قيل لي إنه حاول من مكانه الملاصق لمقعد الرئيس، الإيحاء بشكل من الأشكال، لألفين وثلاثمئة نائب في المؤتمر أنه يريد أن يعترض أو يحتج، فهو الرئيس السابق الذي شارك في التأسيس لقاعدة ألا يحتفظ رئيس الدولة لنفسه بمنصبه لولاية بعد الولاية الثانية.
فكان أن تولى مسؤول في التنظيم إخراجه أمام مئات الكاميرات الصينية والأجنبية التي احتشدت لتصور اليوم النهائي للمؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني. المثير في المشهد أن الرجل، ولاعتبار مكانته كرئيس سابق للدولة وأمين عام سابق للحزب ومحل ثقة الجميع جاء مكانه إلى جانب مقعد الرئيس شي. كثيرون فيما أتصور سوف ينالهم عقاب بدرجة، أو أخرى.
خلاصة الأمر، هي أن خطأ واحداً دفع لاكتشاف حقيقة مرة للغاية، وهي أن للرئيس شي جين بينغ معارضين في الحزب،وأغلب الظن أن أحداً في الحزب سيعلن خلال الأيام القليلة المقبلة أن الرئيس السابق هو جينتاو كان مريضاً، ولم يكن قادراً على استكمال أعمال الجلسة النهائية للمؤتمر فجرى إخراجه من القاعة، وبقي مقعده خالياً.
انتهي المؤتمر قبل دقائق من ابتداء كتابة مقالي هذا، لذلك لم يكن أمامي من بد إلا أن أغامر فأكتب تعليقات سريعة تبقى قابلة للنقاش والتعديل إذا ما ظهر لي وللقارئ ما يستحق المناقشة والتصحيح.
كان بين شواغلي العديدة خلال انعقاد المؤتمر التفكير في الآثار التي خلّفتها الحرب الدائرة بين روسيا ودول الغرب، ومنها حرب أوكرانيا، في أفكار وخطط قادة الحزب الشيوعي الصيني، وفي سلوكهم السياسي. يتصدر في الأهمية من التعليقات حول هذه الآثار ما يلي بإيجاز أتمنى ألا يكون مخلاً:
كشفت حرب أوكرانيا لقادة الصين عن مزايا يتمتع بها الغرب طالما توارت في التحليلات الرسمية للقادة ضمن دوائرهم الداخلية لأسباب كثيرة. كانت الحرب فرصة نادرة لتتأكد الصين مما تدبّره لها أمريكا.
صحيح أن نوايا العداء الأمريكي الصارخ للصين أعلنت عن نفسها في عهد الرئيس، دونالد ترامب، قبل أن تستأنف أمريكا عداءها العنيف لروسيا في عهد جو بايدن. تغيرت أولوية الأهداف الأمريكية حين راحت واشنطن تلقي بعنفوان حلف الناتو ضد روسيا.
والقيادة الصينية، كغيرها من القيادات الوطنية في العالم النامي، كانت تعلم عن اعتراض شعوب العالم النامي على سياسات وتصرفات الدول الغربية. هذه المرة تأكد العالم. و ما حدث، في رأيي، هو وعي أعمق لدى القيادة الصينية بخطورة ما يدبّر للصين في واشنطن وعواصم أخرى في الغرب.
ولا أبالغ وأنا أكرر اعتقادي أن أوروبا لا تزال، على ضعفها المتصاعد، تحتفظ بمركزية دورها في العلاقات الدولية عموماً، وفي العلاقات بين دول القمة بخاصة. وأظن أن القيادة الصينية تنبهت من جديدة لخطورة هذا الدور.
بمعنى آخر، أثبتت أحداث الحرب الناشبة بين روسيا والغرب، ربما للمرة المئة، أن لا قيادة للعالم ممكنة من دون أن تعتمد على قاعدة اسمها أوروبا. قد تستمر الصين في صعودها المريح نسبياً، وبكلفة غير باهظة نحو نصيب لها في القمة، حتى إنها يمكن أن تكون مهيمنة (وهي كلمة مذمومة في قاموس الصين السياسي) في قارة آسيا على اتساعها، ولكنها لن تحقق المكانة المرجوة على القمة ما لم «تهيمن» على أوروبا.
وروسيا تحفظ هذا الدرس عن ظهر قلب، والولايات المتحدة بطبيعة الحال. هذه المركزية الأوروبية تظل حيوية في السلم، كما في الحرب، ولعلها من أهم ما أكدته الحرب بين روسيا والغرب، في أوكرانيا.
سلماً أو حرباً، لن تحقق الصين حلم الرئيس شي في إقامة نظام عالمي جديد بقواعد جديدة اعتماداً على منظمة شنغهاي، أو أي مجموعات إقليمية أخرى. لا بد من أوروبا حليفاً أو نصيراً ليتحقق الحلم، عاجلا أم آجلاً.
*جميل مطر مفكر سياسي، دبلوماسي مصري سابق.
المصدر: الشروق – القاهرة
موضوعات تهمك: