عن ذاكرة الأسنان
قبل وصولي إلى كندا عام 1989، كنت أظن أن السفر من مدينة حمص إلى مدينة حماة، مغامرة، تحتاج إلى مشروع وخطة وميزانية وكتابة وصية. فلقطع مسافة خمسين كيلومترًا بين المدينتين قد نحتاج إلى زمن يصل أحيانًا إلى ساعتين، وذلك بحسب عمر السيارة ونوعية السائق وعدد الركاب الذين يتجاوزون ضعف العدد الطبيعي الذي تتسع له السيارة، فعلى يمين السائق قد نجد ثلاثة ركاب، في المكان المخصص لراكبين، وعلى يسار السائق يجلس راكب، وفي المقعد الخلفي يجلس خمسة أو ستة ركاب، إضافة إلى عدد حواجز المخابرات المنتشرة على الطريق، والتي كانت تفرّغ السيارة من ركابها أحيانًا، للتأكد من خلوها من البنادق والمسدسات والقنابل، والأسلحة الأخرى كالمدافع وراجمات الصواريخ! ومن حسن الحظ، لم تكن موضة البراميل المتفجرة معروفة ومنتشرة الاستخدام في ذلك العصر، في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، لأن حافظ الأسد لم يكن بحاجة إليها، وإلا كانت السفرة بين المدينتين تحتاج إلى يوم وأكثر، هذا إذا بقي الإنسان حيًا! وكان الأكثر خطورة وجود اسم على هوية أحد المسافرين، مطابق لاسم في القائمة التي يحملها عناصر الحاجز، عندها قد تختفي السيارة وركابها عدة أيام أو عدة سنوات، ولن ينقذ السيارة والركاب من المأساة وجود “كروز” دخان حمراء طويلة أو دخان أجنبي مهرب، أو كيلو موز..
كلما قطعتُ المسافة بين مونتريال ومدينة تورنتو، وهي فقط 600 كيلومتر، يعود إلى ذاكرتي طعم الرحلات بين حمص وحماة، والحقيقة لا أستطيع تحديد السبب، ربما بسبب طعم الدم الذي نزف من أسناني، على إثر صفعةٍ من العسكري الذي كان يتسلى بنا على الحاجز، وقد رجوته أن يتركنا كي أصل إلى موعد مهم مع أحد ضباط فرع الأمن العسكري، الذي كان يدرس إمكانية الموافقة على منحي جواز سفر، فكانت صفعته نوعًا من التدريب المسبق، لما قد أحتاج إليه مستقبلًا، وبقي طعم الدم في فمي طويلًا. أو قد يكون التذكر بسبب لهفتي للوصول إلى حماة، وأكل “حلاوة الجبن”، فحلاوة “سلورة” كانت مشهورة في حمص، وكان الذهاب إلى حماة وأكل حلاوة الجبين نوعًا من “الفشخرة” وشوفة الحال بين الشباب والصبايا. كنا أحيانًا نذهب مجموعة شباب وصبايا في سيارة أجرة إلى حماة. كنا ننتصر على خوفنا، بعد مجزرة حماة 82، ونذهب، ولكن قبل المرور من أمام فرع المخابرات العسكرية بعدة كيلومترات، كنا نتوقف عن الكلام، إلى أن ندخل المدينة فتنفك عقد ألسنتنا.
يربط المدينتين الكنديتين طريق سريع، يوجد عليه كلّ مئة كيلومتر استراحة، فيها المطاعم والحلويات والمقاهي والحمامات، وكل ما يجعل المسافر مستمتعًا برحلته، عندما كنت أوقف سيارتي، وأدخل إلى أي استراحة من هذه الاستراحات، كان يحضر في فمي طعم رحلات حمص- حماة؛ طعم الدم وطعم حلاوة الجبن وطعم الخوف من خسارة ذلك “الأمان”، إذا “رفسنا” تلك النعمة، وكنا نضحي بكل شيء حفاظًا على “الأمان” المزعوم، حتى لو كان ثمنه صفعة هنا، ولكمة هناك، ومصادرة المواد الزراعية التي لا يسمح بنقلها بين المحافظات، دون إذن مسبق، حتى لو كان “قرطل كشك أو شنكليش”.
بعد عيشي في كندا، نحو واحد وثلاثين عامًا، أشعر أحيانًا بتأنيب الضمير لعدم وفائي لوطني الكندي، فأنا، على الرغم من محاولاتي، لم أستطع تذكر كم أنفقتْ عليّ الدولة الكندية وعلى أولادي، صحيح هذا واجب الدولة تجاه مواطنيها، ولكن لماذا لم يبق من تلك الخدمات شيء تحت طعم أسناني، كما هي الأشياء السورية، أهي قلة الوفاء أو قلة الصفعات، أو الإهانات التي كنا نتلقاها أيام الرئيس الأبدي، أم أنه مفعول معجون الأسنان القوي الذي كنت أستخدمه قبل أن تسقط كل أسناني، واستبدلها “بطقم أسنان، من البلاستيك” الكندي الأصلي!!!
أتذكر دائمًا، رغم عوارض الزهايمر، الكاتب المصري الكبير ثروت عكاشة الذي أصدر سلسلة ثقافية تحت عنوان فرعي: “العين تسمع والأذن ترى”، فأفهم معنى أن نتذكر “طعم الطريق وذاكرة الأسنان”.
المصدر: جيرون
موضوعات تهمك:
عذراً التعليقات مغلقة