قال جوزيب بوريل علنًا المسكوت عنه منذ أن انتهى عهد الاستعمار لبلادنا.
بدا بوريل فخورًا بأوروبا التى تعيش وسط «غابة» من الوحوش البدائية التى هى نحن، أبناء جنوب العالم!
اللغة المشفرة التى يتحدث بها الغرب اليوم لنفسه والعالم، فيدس السم فى العسل، فضحها بوريل حين تخلى عن استخدامها وسمى الأشياء بأسمائها دون مواربة!
الأفكار التى ينطلق منها كبار المسؤولين أمثال بوريل، فى القرن 21، هى ذات الأفكار العنصرية التى حكمت مرحلة الاستعمار، وقامت على تفوق البيض ودونية غيرهم.
خطاب بوريل، رغم قبحه وعنصريته، يظل بالغ الأهمية لأنه يكشف بوضوح أن العلاقات الدولية على أرض الواقع، بل وعلى مستوى النظريات الأكاديمية بالمناسبة، لم تبارح مكانها منذ مرحلة الاستعمار.
* * *
كلمات أهم مسؤولى السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبى كانت إنعاشًا مؤلمًا للذاكرة الجمعية لشعوب جنوب العالم ومفكريه. فهى ليست جديدة فى مضمونها ولا مفاجئة. كل ما فى الأمر أنها كانت صريحة على نحو صادم.
فهو قال علنًا المسكوت عنه منذ أن انتهى عهد الاستعمار لبلادنا. ففى كلمته الافتتاحية عشية إطلاق أكاديمية أوروبية للدبلوماسيين، وأمام جمع من شباب الدبلوماسيين الأوروبيين، كان جوزيف بوريل فخورًا بإنشاء الأكاديمية، وطالب الدبلوماسيين الشباب بالاستفادة من «الفرصة الفريدة» المتاحة لهم.
لكن الرجل لم يكن فقط فخورًا بذلك الإنجاز وإنما كان فخورًا بأوروبا التى تعيش وسط «غابة» من الوحوش البدائية التى هى نحن، أبناء جنوب العالم!
فهو قال: «نعم أوروبا عبارة عن حديقة غنّاء. ونحن أنشأنا تلك الحديقة. وكل ما بها ناجح. فهى تمثل خليطًا هو أفضل ما استطاعت البشرية تركيبه من عناصر ثلاثة: الحرية السياسية، والرخاء الاقتصادى، والتماسك الاجتماعى… أما باقى العالم فهو ليس حديقة بأى شكل.
فأغلبه عبارة عن غابة، والغابة قد تغزو الحديقة. وعلى رعاة الحديقة أن يحافظوا عليها. لكن ليس بإمكانهم حمايتها عن طريق بناء الجدران. فالحديقة الصغيرة الجميلة المحاطة بالجدران لمنع الغابة من الدخول ليست الحل.
ذلك لأن الغابة تنمو بشكل مطرد، والجدران لن تكون أبدًا مرتفعة بالقدر الذى يسمح لها بحماية (الحديقة). فعلى رعاة الحديقة أن يذهبوا للغابة، فينبغى للأوروبيين أن يُكرسوا تفاعلهم مع باقى العالم، وإلا فإن باقى العالم سيغزونا بطرق ووسائل مختلفة».
ثم استطرد الرجل لاحقًا ليقول: «إن باقى العالم وأنتم تدركون ما أقصده بباقى العالم، أليس كذلك؟ بينه وبيننا فارق كبير، وهو أن لدينا مؤسسات قوية. فالأهم لضمان نوعية الحياة هو المؤسسات، والفارق بين المتقدمين وغير المتقدمين ليس الاقتصاد وإنما المؤسسات. فهنا، يوجد قضاء مستقل ومحايد. ويوجد نظام لتوزيع الإيرادات، ولدينا، هنا، انتخابات.. ولدينا إشارات حمراء تنظم حركة المرور، ولدينا من يجمعون القمامة».
وبغض النظر عن المغالطات والتلفيق الفكرى الذى ينطوى عليه كلام الرجل، وبصرف النظر عن الاعتذار الذى قدمه ولم يكن أقل فجاجة من التصريحات الأصلية، فإن خطاب بوريل، رغم قبحه وعنصريته، يظل بالغ الأهمية لأنه يكشف بوضوح عن أن العلاقات الدولية على أرض الواقع، بل وعلى مستوى النظريات الأكاديمية بالمناسبة، لم تبارح مكانها منذ المرحلة الاستعمارية.
فالأفكار التى ينطلق منها كبار المسؤولين من أمثال بوريل، فى القرن الحادى والعشرين، هى ذاتها الأفكار العنصرية التى حكمت مرحلة الاستعمار، والتى قامت على تفوق البيض ودونية من عداهم.
ففى بدايات القرن العشرين كانت الفكرة الحاكمة هى أن جنوب العالم «البدائى»، الذى صار يرفض الاستعمار، بازدياد سكانه قد يزحف نحو «العالم المتحضر»، الأمر الذى يتحتم معه الاستعداد لمنع ذلك «الغزو الهمجى». وعلم العلاقات الدولية «الغربى» نشأ أصلا على أرضية ذلك الفكر وانطلق منه.
والكثيرون، بمن فيهم علماء السياسة بالمناسبة، لا يعرفون أن مجلة «فورين أفيرز»، واسعة الانتشار، والتى تحظى باحترام واسع، كانت حين أُنشئت فى بداية القرن العشرين اسمها «مجلة التطور العرقى»، بما للاسم من دلالات لا تستلزم تعليقًا!
ورغم قبح ما جاء على لسان المسؤول الأوروبى، أشعر بأننى أود أن أشكره لأنه يضطر الغافلين اضطرارًا إلى تذكر ما يُصرون على نسيانه.
فاللغة المشفرة التى صار يتحدث بها الغرب اليوم لنفسه وللعالم، فيدس السم فى العسل، فضحها الرجل حين تخلى عن استخدامها وسمى الأشياء التى يقصدها بأسمائها دون مواربة!
*د. منار الشوربجي أستاذ العلوم السياسية المساعد، باحثة في الشأن الأمريكي.
المصدر: المصري اليوم – القاهرة
موضوعات تهمك: