بلاك كيوب” الإسرائيلية: عمليات تجسس لمصادرة أموال إيرانية..
تعقبت شركة التجسس الإسرائيلية الخاصة، “بلاك كيوب”، مسؤولين في إدارة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، بهدف التوصل إلى البنوك التي أودعت فيها أموالا تابعة لإيران من أجل السعي إلى مصادرتها، بالاستناد إلى قرارات محاكم أميركية تجرّم إيران من خلال تحميلها المسؤولية عن هجمات نُفذت في الأراضي الفلسطينية النحتلة عام 1967، ونفذتها حركتي حماس والجهاد الإسلامي.
وكانت صحيفتا “أوبزرفر” البريطانية و”نيويوركر” الأميركية كشفتا، في أيار/مايو الماضي، عن أن “بلاك كيوب”، المتخصصة بالتجسس التجاري، تعقبت كارولين تيس، وهي مساعدة لسفيرتي الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، سوزان رايس وسمنثا باور، وعُينت في العام 2014 مسؤولة عن اتصالات مجلس الأمن القومي الأميركي، خلال ولاية أوباما، بخصوص التشريعات في الكونغرس. وبمنصبها هذا، نسّقت تيس الجوانب التشريعية المتعلقة بالاتفاق النووي مع إيران والمصادقة عليها في الكونغرس. وبحسب الصحيفتين، فإن مقربين من الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، استأجروا خدمات “بلاك كيوب” كي تقوم بحملة تجسس ضد مسؤولين كبار في إدارة أوباما السابقة، في محاولة لإلغاء الاتفاق النووي.
والاسمان الأبرز اللذان استهدفتهما هذه الحملة هما نائب رئيس مجلس الأمن القومي، بن رودس، ومستشار الأمن القومي لنائب الرئيس أوباما، كولين كاهل. وحاول عملاء “بلاك كيوب” التحدث مع رودس وكاهل، مستخدمين هويات مستعارة، إلا أن هذه الحملة فشلت وكُشفت.
وكشف تحقيق نشرته صحيفة “هآرتس” اليوم، الجمعة، ويستند إلى محادثات مع عاملين سابقين وحاليين في “بلاك كيوب” وإلى مستندات داخلية لهذه الشركة، عن أن تيس كانت هدفا لعمليات تجسس نفذتها الشركة ولحملة واسعة النطاق، لم تتركز حول محاولات إلغاء الاتفاق النووي، وإنما ركزت بالأساس على تعقب تنقل أموال وأملاك إيرانية إلى الولايات المتحدة بهدف مصادرتها، بالاستناد إلى قرارات محاكم أميركية، بتعويض عائلا أشخاص قُتلوا في عمليات في قطاع غزة أو الضفة الغربية أو داخل إسرائيل.
وخلال تجسس “بلاك كيوب” على تيس، اكتشفت أن الأخيرة هاوية غطس، وأن اسمها وصورتها منشورتان في صفحة فيسبوك تابعة لنادي غطس في ولاية فرجينيا باسم “Diving Divas” كمشاركة في رحلة غطس في كوبا، في العام 2016. إثر ذلك أنشأت “بلاك كيوب” موقعا الكترونيا وهميا باسم مقره في الأرجنتين باسم “New Porto Ocean Club”. وبعث هذا الموقع الوهمي رسالة إلى تيس، دعاه فيها إلى الانضمام إلى رحلة غطس ممولة. وقالت الرسالة إنه “سيكون ممتعا أن نعمل سوية. وآمل بتنظيم محادثة هاتفية بيننا من أجل إعطائك معلومات.
ويسعدنا أن نقترح عليك رحلة إلينا. الرجاء أن تتابعي موقعنا”. لكن تيس لم تُجب على هذه الرسالة التي وصلتها بالبريد الالكتروني. مقر “بلاك كيوب” في تل أبيب تصف “هآرتس” مكاتب “بلاك كيوب” بأنها موجودة في الطابق الأعلى لبرج في وسط تل أبيب، ويتم الدخول إلى المكاتب عبر باب أسود كبير، والدخول إلى هذه المكاتب يتم بواسطة بصمة إصبع فقط. وقال عاملون سابقون في هذه الشركة إن الأمور فيها تجري بشكل مشابه لجهاز استخبارات سري، إذ تقتضي حاجة الشركة لأداء كهذا، وأيضا من أجل الترويج لصورتها كجهاز استخبارات.
وتأسست هذه الشركة، في العام 2010، على أيدي آفي يونس ودان زورلا، اللذين تسرحا من أجهزة استخبارات إسرائيلية. ووفقا للصحيفة، فإن مكتب زورلا، مدير عام الشركة، مليء بزجاجات الويسكي والكونياك الفاخر جدا، لكن هذا ليس أمرا عفويا، وإنما الهدف هو تشبيهه بغرفة الضيافة في مقر الموساد، عند مدخل تل أبيب الشمالي.
“في بلاك كيوب يسعون إلى منح الزبائن شعورا بأنهم يحصلون على ’موساد’ خاص، ولأي هدف”. كذلك فإن تنظيم العمل في “بلاك كيوب” يشبه تنظيم أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية. وقال موظف سابق في الشركة إنه “توجد طواقم مختلفة وكل واحد منها مسؤول عن هدف مختلف. كمحلل، أنت لا تعرف شيئا عن الملف ذاته، وإنما تحصل على ’مقاطع أنباء حيوية’ (مصطلح مستورد من وحدات أجهزة الاستخبارات) التي تقول لك ما الذي نريد تحقيقه. ماذا نريد من إكس أن يقول إلى واي، مثلا.
وبعد ذلك أنت تفكر، إذا أردنا الحصول على معلومات ما، من ينبغي أن يعلم بذلك؟ وما هو حافزه كي يتحدث؟ لكن نحن كمحللين لا نعرف من هو الزبون”. وأضاف الموظف نفسه أنه “لأن الكثير من عمليات بلاك كيوب تجري من خلال هويات وهمية، فإن المحللين يعكفون على البناء الأولي للشخصية والقصة المطلوبة لتشكل غطاء ناجحا. على سبيل المثال، شراء سيم كارد وحساب هاتف خليوي أجنبي وفقا لقصة الغطار التي اختيرت.
وغالبا، الذي يجيب على المحادثة يتواجد في المكاتب في إسرائيل. ومن أجل شراء نطاق (دومين)، ثمة حاجة لبطاقة ائتمان ليست باسم الشركة، بحيث لا يكون بالإمكان ربط الصفقة بالشركة. وهناك طاقم بنية تحتية مهمته الاهتمام بالأمور اللوجستية”. إلا أن المهمات الأساسية في عمل االشركة ينفذها العملاء السريون، وإحداهن تدعى ستيلا بن، من سكان يافا، التي كُشف أمرها في قضية المنتج الهوليوودي هارفي فاينسطاين، الذي استأجر خدمات “بلاك كيوب” بعد اتهامه بالاغتصاب، كي يعرف من وقف خلف الحملة ضده.
لكن وفق مصطلحات الشركة، فإن العميل السري لا يوصف كعميل أو جاسوس أو كمن يبتز اعترافا، وإنما يوصف بأنه “نَشِط”. وقال موظف سابق في الشركة إن “النشطين هم سلعة مطلوبة في السوق الخاصة. وقد فوجئت بمعرفة أن عدة زبائن يتوقون إلى هذا الأمر، ليس بسبب النتيجة النهائية. وسأكشف سرا، وهو أن النتيجة النهائية ليست جيدة للغاية في أحيان كثيرة”. وفيما يتعلق بقضية الاتفاق النووي مع إيران، فقد كان يفترض أن يدخل “النشطون” إلى الصورة بعد إجراء الاتصال الأولي مع رودس وكاهل وتيس، واستخراج معلومات ثمينة منهم.
وبعد النشر عن حملة التجسس ضدهمن جرى توجيه أصابع الاتهام إلى إدارة ترامب وحلفائها، بحيث أن نقطة الانطلاق كانت تتحدث عن الحصول على معلومات تدعم إلغاء الاتفاق النووي مع إيران. لكن الوثائق التي حصلت عليها “هآرتس” تدل على أن الهدف كان مختلفا، ويتعلق بأحداث وقعت قبل ذلك بوقت طويل، في البلاد. أهداف تجسس “بلاك كيوب” استغلت “بلاك كيوب” تعديلات تشريعية أقرها الكونغرس من أجل الوصول إلى أموال إيران في بنوك أميركية.
إحدى هذه الحالات تتعلق بعملية تفجيرية نفذها ناشط في الجهاد الإسلامي، فجر سيارته بحافلة مليئة بالجنود الإسرائيليين قرب مستوطنة في قطاع غزة، في التاسع من نيسان/أبريل العام 1995. وقتل في هذه العملية سبعة جنود ومواطنة أميركية، تدعى أليسا بلاطو، في العشرين من عمرها، وكانت تدرس في كلية في القدس. وقرر والدها، ستيفان، وهو محام، رفع دعوى للحصول على تعويض مالي من إيران، بادعاء أنها تمول الجهاد الإسلامي.
إلا أنه عندما وقعت هذه العملية التفجيرية كان القانون الأميركي يمنح حصانة مطلقة لدول أجنبية ويمنع رفع دعاوى ضدها في المحاكم الأميركية. لكن في أعقاب هذه العملية، وتحديدا في العام 1996، جرى تعديل القانون، وأصبح بالإمكان رفع دعاوى ضد دول أجنبية بذريعة تمويل “الإرهاب”. وبعد سنتين، حكمت محكمة أميركية لصالح بالطو بتعويض قدره 247 مليون دولار. وتلا ذلك قرارات أخرى، بينها تعويض بمبلغ 327 مليون دولار لذوي أميركيين قتلا في عملية تفجير حافلة في القدس وتبنت حركة حماس المسؤولية عنها.
كذلك رفعت عائلات جنود أميركيين قتلوا في تفجير مقر المارينز في بيروت، عام 1983، وقضت محاكم أميركية بأن تدفع إيران ملارات الدولارات كتعويض للعائلات. وفيما بقيت قرارات هذه المحاكم على الورق، لأن إيران لم تعترف بهذه القرارات ورفضت دفع تعويضات، دخلت “بلاك كيوب” إلى الصورة بهدف الوصول إلى مكان الأموال الإيرانية في أميركا، ومن ثم وضع اليد عليها تمهيدا لمصادرتها. وتتوقع شركة التجسس الإسرائيلية أن تحصل على أتعاب تعادل بضع نسب مئوية قليلة، لكن مبلغها يمكن أن يصل إلى عشرات ملايين الدولارات. إذ أن “بلاك كيوب” متخصصة بالبحث عن أملاك في أنحاء العالم لغرض الإجراءات القضائية. رجل الأعمال التايواني نوفو سو من أجل استكمال الصورة، ينبغي التطرق إلى أساليب عمل “بلاك كيوب”.
ففي حين تعمل شركات منافسة لها بأساليب “كلاسيكية”، فإن “بلاك كيوب” تسعى إلى استخراج معلومات من موظفين كبار في الإدارة الأميركية، وذلك في الوقت الذي تبتعد فيه شركات أخرى عن العمل مقابل أميركيين. لكن يتبين أن من وراء سعي “بلاك كيوب” لمصادرة أموال إيرانية، هناك جهة استأجرت خدماتها لتقوم بهذا العمل. وهذه الجهة، الممولة، هو مالك شركة سفن من تايوان يدعى نوفو سو. وكان سو قد استأجر في السابق خدمات الشركة الإسرائيلية في إطار خلافات قضائية خاضها، وهو صديق مع مدرائها.
والصفقة الآن تقضي بحصول سو على نسب مئوية من التي ستحصل عليها “بلاك كيوب” من الأموال الإيرانية التي قد تصادر. ويستدل من وثيقة تحدد أهداف حملة “بلاك كيوب” أن التجسس على رودس وكاهل وتيس، من شأنه أن يفضي إلى معلومات تسمح بفتح مسارات قضائية عدة ضد إيران. أولها، العثور على أملاك إيرانية غير معروفة، مثل حسابات مصرفية في دول الخليج أو الشرق الأقصى.
وثانيها، تعقب مساعدات قُدمت لإيران من أجل إخفاء الأملاك ومن خلال انتهاك القانون الأميركي. وفي أعقاب عمليات التجسس، تبين أن لإيران حساب في أحد المصارف العُمانية، ومقره في مسقط. وقد حصل الإيرانيون من خلال صفقات نفط، في العام 2015، على مبلغ 5.7 مليار دولار، تم إيداعها في البنك العماني بالعملة المحلية، الريال. وأرادت إيران أن تحول المبلغ إليها باليورو. لكن من أجل صرف هذا المبلغ وتحويله إلى عملة أجنبية تعين القيام بذلك من خلال بنك أميركي. وفي ذلك الحين لم تكن إيران قادرة على الوصول والتعامل مع الجهاز المصرفي الأميركي، ولذا كانت بحاجة إلى مساعدة إدارة أوباما.
في نهاية المطاف، وصلت القضية إلى الكونغرس، الذي فتح تحقيقا، نُشرت نتائجه في حزيران/يونيو الماضي، وبحسبها فإن إدارة أوباما سعت لدى سلطات تطبيق العقوبات في وزارة الخزينة من أجل السماح بصرف المال. وفي نهاية الأمر رفضت البنوك الأميركية المشاركة في تحويل المال خوفا من تورط قانوني. وأثارت هذه القضية، وكذلك المبلغ الطائل، فضول “بلاك كيوب” التي فتحت تحقيقا خاصا بها. ووضعت الشركة أهدافا لها، هم موظفون كبار في البنك الأميركي وكذلك مدراء البنك العماني. وتم رسم ملامح (بروفايل) قسم من مدراء البنوك، من أجل استخدام العميل. لكن هذا المسار لم يفضي إلى نتيجة.
المصدر: عرب 48